حولت الحرب الإسرائيلية على قطاع غزة الانتباه بعيداً عن العنف المنهجي المتزايد الذي يمارسه المستوطنون الإسرائيليون ضد الفلسطينيين في الضفة الغربية المحتلة، حيث يتمتعون بدعم كبير من وزراء اليمين المتطرف في الحكومة الإسرائيلية.
ويمثل العنف الذي يمارسه المستوطنون تجسيداً لـ"مشروع الاستيطان الإسرائيلي"، الذي ظل دون رادع على مدى سنوات، إذ يعيش حالياً قرابة 730 ألف إسرائيلي في مستوطنات الضفة الغربية بما في ذلك القدس الشرقية، الأمر الذي يجعل حل الصراع "احتمالاً بعيداً على نحو متزايد".
وشددت مجموعة الأزمات الدولية في دراسة، على الحاجة المُلِحة للتجديد السياسي الفلسطيني وتشكيل قيادة متجددة تحظى بدعم شعبي أكبر، مشيرةً في الوقت نفسه، إلى ضرورة بذل المزيد من الجهود لمحاسبة إسرائيل على أفعالها كـ"قوة احتلال"، خاصةً مشروعها الاستيطاني والعنف الناتج عن ذلك من جانب المستوطنين الذين يتمتعون بالحماية إن لم يكن بالرعاية الصريحة من جانب المؤسسات الإسرائيلية.
ومجموعة الأزمات الدولية هي منظمة مستقلة غير ربحية وغير حكومية، تضم نحو 120 عضواً من 5 قارات، يعملون من خلال التحليل الميداني والدعوة رفيعة المستوى من أجل منع الصراعات وحلها.
أعلى مستويات العنف
وقالت المجموعة في دراسة بعنوان "اجتثاث عنف المستوطنين الإسرائيليين من جذوره"، إن أعمال العنف التي يرتكبها المستوطنون الإسرائيليون، الذين يعيشون في الضفة الغربية المحتلة ويروعون الفلسطينيين، وإلحاق الأذى بهم وأحياناً قتلهم وتدمير ممتلكاتهم، بلغت أعلى مستوياتها على الإطلاق.
وأشارت الدراسة إلى فشل الحكومات الإسرائيلية على مدى عقود من الزمان، في الحد من مثل هذه الأعمال، وغالباً ما كانت تتسامح معها، لافتةً إلى تصاعدها بشكل كبير منذ أواخر عام 2022، عندما تولت حكومة رئيس الوزراء بنيامين نتنياهو، السُلطة، كما ارتفعت بشكل أكبر بعد الهجوم الذي شنته حركة "حماس" في 7 أكتوبر 2023.
وذكرت أن الحكومة الإسرائيلية عززت مشروع الاستيطان، بينما يبارك الوزراء المقربون من المتشددين في حركة الاستيطان شن الهجمات على الفلسطينيين بشكل علني.
كيف يجب أن تضغط الدول الغربية على إسرائيل؟
ولفتت الدراسة إلى أن العقوبات التي فرضتها الولايات المتحدة ودول أوروبية على بعض المستوطنين العنيفين تعد بداية، لكنها تتجاهل أن هناك الكثير من المسؤولية تقع على عاتق إسرائيل نفسها.
وشددت الدراسة على وجوب أن تستخدم الدول الغربية مساعداتها العسكرية لإسرائيل وعلاقاتها الاقتصادية معها لفرض تكاليف أكبر عليها، بسبب توسع المستوطنات وعنف المستوطنين، والذي يتناقض بشكل مباشر مع سياستها المعلنة، ويجعل أجزاء عدة من الضفة الغربية غير صالحة للعيش بشكل متزايد بالنسبة للفلسطينيين.
ومنذ حرب عام 1967، التي استولت خلالها إسرائيل على الضفة الغربية، فرضت تل أبيب الحكم العسكري على السكان الفلسطينيين، وصادرت المزيد من الأراضي الفلسطينية، وفقاً للدراسة التي ذكرت أن 230 ألف إسرائيلي يعيشون حالياً في القدس الشرقية المحتلة، ونحو 500 ألف في بقية الضفة الغربية، وكلاهما معترف به دولياً كأراضٍ محتلة.
تشجيع حكومي على الاستيطان
وكانت المؤسسات الإسرائيلية ولا سيما حكومة إسحاق رابين في منتصف التسعينيات، تصدر أحكاماً، أو تتبنى سياسات للحد من النشاط الاستيطاني، ولكن الصورة الكبيرة تبدو واضحة، فعلى مدى عقود من الزمان، مكّنت الحكومات الإسرائيلية المتعاقبة، أو شجعت على ترسيخ الاحتلال بالضفة الغربية.
وأشارت مجموعة الأزمات في دراستها، إلى تزايد أعداد المستوطنين في الضفة، وقالت إنه عادةً ما يستخدم قادة إسرائيل الأمن كذريعة لبناء المستوطنات، لكنهم في بعض الحالات، شاركوا المستوطنين في الدافع الأيديولوجي لضم المزيد من الأراضي.
وفي ظل وجود حكومة نتنياهو، زادت عمليات الاستيلاء على الأراضي في الضفة الغربية بشكل كبير حتى قبل هجوم 7 أكتوبر، بحسب الدراسة التي لفتت إلى ارتفاع وتيرة العنف الذي يمارسه المستوطنون ضد الفلسطينيين، والذي تزايد مع توسع المستوطنات لعقود من الزمن.
الدوافع والأهداف
ووفقاً للدراسة، تتراوح الأعمال العدوانية التي غالباً ما ترتكبها عصابات من الشباب المدججين بالسلاح، من الترهيب اللفظي والمضايقات إلى سرقة الماشية والاعتداءات على الفلسطينيين، كما يحرم المستوطنون المزارعين من الوصول إلى الأراضي والمياه.
وفي بعض الحالات، يكون الدافع وراء العنف هو الانتقام، فعندما يُصاب المستوطنون الإسرائيليون في هجوم فلسطيني في الضفة الغربية، على سبيل المثال، فإن المستوطنين يردون على ذلك.
وهناك حادثتين بارزتين عام 2023، أثار فيها المستوطنون أعمال شغب في بلدتي حوارة وترمسعيا بالضفة الغربية، حيث دمروا الممتلكات، وروعوا السكان، واشتبكوا مع الفلسطينيين، بعدما أطلق فلسطينيون النار على إسرائيليين لقوا حتفهم، على الرغم من عدم وجود أي صلة واضحة بين أي من البلدتين وعمليات إطلاق النار، بحسب الدراسة.
"القضاء على أمل قيام دولة فلسطينية"
ولكن إذا كان السبب في بعض أعمال العنف هو الانتقام، فإن الكثير منها يهدف لتجريد الفلسطينيين من ممتلكاتهم، وتوسيع المستوطنات، والقضاء على أي أمل في إقامة دولة فلسطينية، وفق الدارسة.
وأدى هجوم 7 أكتوبر والحرب التي أعقبته في غزة، إلى جعل الأمور أسوأ، وقالت الدراسة إن المستوطنين تمكنوا من الاستيلاء على آلاف الأفدنة من أراضي الضفة الغربية من الفلسطينيين، خلال العام الماضي وحده، بمساعدة حملة التجنيد للجيش التي زودت المستوطنين بالأسلحة والزي العسكري لحماية مجتمعاتهم كجنود احتياط، وبفضل تشجيع الحكومة اليمينية المتطرفة الملتزمة بتوسيع السيطرة الإسرائيلية على الضفة.
ومنذ 7 أكتوبر، وقع أكثر من 1000 حادث عنف من جانب المستوطنين، طُرد خلالها أكثر من 1300 فلسطيني من منازلهم، ولفتت الدراسة إلى فشل المؤسسات الإسرائيلية إلى حد كبير في كبح جماح المستوطنين، موضحةً أن المؤسسة الأمنية انتقدت العنف بشكل متزايد، وحذرت من أنه بالإضافة لتأثير اليمين المتطرف، الذي يؤجج حالة من عدم الاستقرار في الضفة الغربية، ويؤدي إلى توتر العلاقات بين تل أبيب وواشنطن، وفي بعض الأحيان، يقف الجنود بين المستوطنين والفلسطينيين، حتى إنهم قد يواجهون بأنفسهم الهجمات من جانب المستوطنين المتشددين.
ويرى الجيش أن التزامهم الأساسي يتلخص في حماية مصالح الإسرائيليين وما يعرفونه على أنه "أمن إسرائيل"، وهو الأمر الذي تتبعه بشكل دائم المحاكم التي نادراً ما تدين المستوطنين المتهمين بارتكاب أعمال عنف، ومع تحول الجيش مثل المجتمع نحو اليمين، أصبحت الحالات التي يعمل فيها الجنود والمستوطنين بشكل مشترك أكثر شيوعاً، وفقاً للدراسة.
وذكرت الدراسة، أن المستوطنين المتشددين الذين كانوا على هامش السياسة الإسرائيلية في السابق، باتوا الآن يشغلون مناصب تمنحهم السلطة على شؤون الضفة الغربية، وهؤلاء يؤيدون عنف المستوطنين من خلال تصويره كـ"دفاع عن النفس"، في معركة من أجل الأرض التي يقولون إن إسرائيل "لها الحق فيها".
العقوبات الغربية
وأدى ارتفاع وتيرة عنف المستوطنين لدفع الحكومات الغربية إلى فرض عقوبات على أفراد من المستوطنين، ففي أمر تنفيذي صدر في الأول من فبراير الماضي، وضعت إدارة الرئيس الأميركي جو بايدن إطاراً لتصنيف الأفراد والكيانات التي تستحق العقوبات.
وأدرجت واشنطن حتى الآن 14 شخصاً ضمن هذا التصنيف، وهو النهج الذي اتبعته بعض العواصم الأوروبية والاتحاد الأوروبي، في حين ذهبت عواصم غربية إلى أبعد مما كانت مستعدة للذهاب إليه في السابق، وهو ما يرسل رسالة للمسؤولين الإسرائيليين مفادها أنها تعتبر عنف المستوطنين مشكلة خطيرة تتطلب معالجة عاجلة.
وبحسب مجموعة الأزمات الدولية، يحجب فرض عقوبات على بعض الأفراد جوهر المشكلة، ويعزز الرواية القائلة بأن هناك عدد قليل من الخارجين عن القانون يتصرفون خارج نطاق سلطة الدولة؛ مما يقلل من المسؤولية الواقعة على عاتق الحكومة.
لكن الدراسة شددت على وجوب أن تذهب العواصم الغربية التي تتفق في الغالب على أن المستوطنات تنتهك القانون الدولي، إلى أبعد من ذلك، إذ يمكن للولايات المتحدة فرض الأحكام القانونية الموجودة بالفعل، من خلال تطبيق الحظر على إرسال الأسلحة الأميركية وغيرها من المساعدات، إذا كان سينتهي بها الأمر بالوقوع في أيدي المستوطنين أو تُستخدم بطريقة أخرى لتسهيل انتهاكات القانون الدولي.
واعتبرت الدراسة أنه يمكن للحكومات الأوروبية أن تطبق القواعد المتعلقة بالتجارة مع إسرائيل بشكل أفضل، والتي تشمل السلع المصنوعة في مستوطنات الضفة الغربية أو حظر التجارة بتلك المنتجات تماماً، ويمكن للولايات المتحدة وأوروبا دراسة فرض عقوبات على أعضاء مجلس الوزراء من أقصى اليمين الذين يؤيدون عنف المستوطنين، وهي خطوة صعبة سياسياً لكنها ستشير إلى أين تقع المسؤولية.
ورغم أن هذه الخطوات لن تجبر إسرائيل بالضرورة على تغيير سياساتها، لكنها سترفع التكاليف المترتبة على فشلها في الحد من عنف المستوطنين، بحسب الدراسة التي توقعت أن تؤثر على معدل حالات الإفلات من العقاب الذي ساعد في تمكين أقصى اليمين في إسرائيل على مدى عقود.
ومنذ أكتوبر 2023، تراجعت أهمية الضفة الغربية بسبب الحرب والكارثة الإنسانية في غزة، وتبادل إطلاق النار على الحدود الإسرائيلية-اللبنانية، والمخاوف من حرب أوسع في الشرق الأوسط.
ولفتت الدراسة إلى أن التوسع الاستيطاني وتزايد أعمال العنف من جانب المستوطنين بالضفة يغذي المشاعر المعادية لدى الجانب الفلسطيني، ويزيد من احتمال اندلاع أعمال عنف أكبر هناك.
ويبدو أن القوى الغربية مترددة في اتخاذ إجراءات أقوى. ففي الولايات المتحدة، على وجه الخصوص، يتطلب أي تغيير في السياسة الانتظار حتى إجراء انتخابات الرئاسة في نوفمبر، بحسب الدراسة.
وبعيداً عن أميركا، تنقسم العواصم الأوروبية بشأن كيفية الاستجابة، ولا تزال دعوات الزعماء الغربيين المتكررة لحل الصراع الفلسطيني-الإسرائيلي على أساس حل الدولتين جوفاء، في ظل عدم تبني تدابير أكثر صرامة لوقف المستوطنات التي تقضي على الأمل في إقامة دولة فلسطينية.
حل بشقين
وذكرت مجموعة الأزمات الدولية في خلاصة الدراسة، أن مسألة إيجاد مسار نحو حل مستدام أصبحت أكثر إلحاحاً من أي وقت مضى، مشيرةً إلى أنه ينبغي لأي جهد من هذا القبيل أن يكون ذي شقين من البداية، إذ تشدد الدراسة على الحاجة المُلِحة إلى التجديد السياسي الفلسطيني، بما في ذلك وجود قيادة متجددة تحظى بدعم شعبي أكبر.
أما الشق الثاني، فهو يتمثل في بذل المزيد من الجهود لمحاسبة إسرائيل على أفعالها كـ"قوة احتلال"، وخاصةً مشروعها الاستيطاني والعنف الناتج عن ذلك من جانب المستوطنين الذين يتمتعون بالحماية إن لم يكن الرعاية الصريحة، من جانب مؤسسات الدولة.
وحتى مع سعي الولايات المتحدة وغيرها من الجهات الفاعلة الخارجية إلى التوصل لوقف لإطلاق النار في غزة، وإطلاق سراح المحتجزين الإسرائيليين، فإنها تحتاج لبذل المزيد من الجهود من خلال التوسط في التوصل إلى اتفاق بين إسرائيل وحركة "حماس".
واعتبرت الدراسة أن مشروع الاستيطان الإسرائيلي وما يترتب عليه من حرمان الفلسطينيين من ممتلكاتهم، يقتلان ببطء أي أمل في التوصل إلى حل دائم للصراع، كما أن أعمال العنف التي يرتكبها المستوطنون تمثل ذروة هذا المشروع.
واعتبرت الدراسة أن الإفلات من العقاب الذي يتصرف المستوطنون استناداً إليه، وحقيقة أن القادة الإسرائيليين المتشددين والحكومة ذاتها لا يدفعون ثمن فشلهم في كبح جماح عدوان هؤلاء المستوطنين ودعمه بشكل متزايد، لا يهدد بترك الصراع في منحى متدهور فحسب، بل إنه أدى مع مرور الوقت إلى تمكين أكثر العناصر تمرداً على القانون في المجتمع الإسرائيلي.
وعلى مدى فترة طويلة للغاية، سمحت البلدان الملتزمة بشكل معلن بحل عادل ودائم للصراع الفلسطيني-الإسرائيلي لهذا الوضع بالتفاقم، ولذا فإن سياساتها لن تتغير بين عشية وضحاها، ولكن من خلال إرسال إشارة قوية إلى إسرائيل بأن نهجها ليس ضاراً بالفلسطينيين فحسب، بل يمثل أيضاً فعلاً من أفعال إيذاء النفس، فإن ذلك يمكن أن يؤدي إلى إحداث تغييرات ربما تشير، في مجموعها، إلى الطريق نحو مستقبل أفضل.