أفادت وكالة "أسوشيتد برس" بأن مرور سنة على تحذير منظمة الصحة العالمية من انتشار معلومات مضلّلة بشأن فيروس كورونا، لم يوقف "نظرية المؤامرة والشائعات بشأن أصول الجائحة التي أودت بحياة مليوني شخص في العالم.
وأشارت الوكالة إلى دور قادة سياسيين، صينيين وأميركيين وروس وإيرانيين، ووسائل إعلام تابعة لهم، في تضخيم تلك الشائعات. وقالت إن "الصين، لا روسيا، هي التي أخذت زمام المبادرة في نشر معلومات مضلّلة بشأن أصول كورونا، فيما تعرّضت لهجوم نتيجة تعاملها المبكر مع تفشي المرض".
وأعدّت "أسوشيتد برس" هذا التحقيق طيلة 9 أشهر، بالتعاون مع مختبر أبحاث الطب الشرعي الرقمي التابع لمعهد "أتلانتيك كاونسل"، مستندة إلى مراجعة ملايين المنشورات والمقالات على مواقع التواصل، تويتر وفيسبوك و"ويبو" و"وي تشات" ويوتيوب و"تليغرام".
وكان مسؤولون صينيون يردّون على شائعة قوية، رعاها الرئيس الأميركي السابق دونالد ترمب وقياديون جمهوريون ومجموعة "كيو أنون" اليمينية، وشبكة "فوكس نيوز"، تفيد بأن الصين صنعت الفيروس.
"جائحة مزدوجة"
وورد في بيان أرسلته وزارة الخارجية الصينية إلى "أسوشيتد برس"، أنه يجب على جميع الأطراف أن ترفض بحزم نشر معلومات مضلّلة.
وأضافت الوزارة أنه "في مواجهة اتهامات ملفقة، من المبرّر والمناسب كشف الكذب وتوضيح الشائعات، من خلال تحديد الحقائق".
واعتبرت "أسوشيتد برس" أن لمعركة السيطرة على الأقاويل بشأن مصدر الفيروس، عواقب عالمية في مكافحته.
وقال كانغ ليو، وهو أستاذ في جامعة ديوك، يدرس سياسات الثقافة والإعلام في الصين: "هذا يشبه الفيروس، مثل كوفيد، أحد مسبّبات الأمراض الإعلامية. لدينا جائحة مزدوجة: الفيروس المرضي الحقيقي، ووباء الخوف منه".
ومع بدء تفشي كورونا، كتب أحدهم على موقع "ويبو"، البديل الصيني لتويتر، في 31 ديسمبر 2019: "احترسوا من الأميركيين".
وفي 26 يناير 2020، نشر رجل من منغوليا الداخلية في الصين، تسجيلاً مصوّراً يزعم أن الفيروس هو سلاح بيولوجي صمّمته الولايات المتحدة. وشوهد التسجيل 14 ألف مرة على تطبيق "كوايشو" الصيني، قبل حذفه، كما اعتُقل الرجل واحتُجز لـ10 أيام، وغُرّم لنشره شائعات. ونشرت صحيفة "الشعب"، الناطقة باسم الحزب الشيوعي الصيني، نبأ اعتقاله.
هجوم صيني مضاد
ولكن بعد 6 أسابيع، أشاعت وزارة الخارجية الصينية نظرية المؤامرة ذاتها، وردّدها ما لا يقلّ عن 30 دبلوماسياً وبعثة صينية، كما ضخّمتها وسائل إعلام رسمية صينية حول العالم.
خلال تلك الأسابيع الستة، تعرّضت القيادة الصينية لانتقادات داخلية شديدة، إذ توفي في 7 فبراير، الطبيب الصيني لي وينليانغ، الذي عوقب نتيجة نشره تحذيراً مبكراً بشأن تفشي الفيروس.
في الوقت ذاته، أطلق ترمب وقياديون جمهوريون تسمية "الفيروس الصيني" على "كوفيد"، فيما وجد باحثون في "مركز التكنولوجيا المسؤولة" التابع للمعهد الأسترالي، أن حسابات على مواقع التواصل، بدت مؤيّدة لترمب أو "كيو أنون"، أشاعت معلومات مضلّلة، وزعمت أن بكين صنعت الفيروس كسلاح بيولوجي.
وفي 22 فبراير 2020، شنّت بكين هجوماً مضاداً، إذ أشاعت صحيفة "الشعب" الصينية حول العالم في تقرير، أن هناك تكهنات بأن الجيش الأميركي جلب كورونا إلى الصين لتنطلق حول العالم، من خلال وسائل إعلام، بينها صحيفتا "هلسنكي تايمز" الفنلندية و"نيوزيلندا هيرالد"، المرتبطتان بعلاقات تجارية و"مقايضة محتوى" مع "الشعب".
"استراتيجية تضليل روسية"
وأشارت "أسوشيتد برس" إلى أن الصين استندت إلى ما وصفتها بـ"استراتيجية التضليل الروسية وبنيتها التحتية".
ونقلت الوكالة عن جانيس سارتس، مدير "مركز التميّز للاتصالات الاستراتيجية"، التابع لحلف شمال الأطلسي، قوله في إشارة إلى موسكو وبكين: "كان أحدهما يضخّم الآخر". وأضاف أن الصين "هي المنافس والخصم الأكثر قوة، بسبب قدراتها التكنولوجية".
وكانت موسكو سبقت بكين في هذا الصدد، إذ روّجت وسائل إعلام رسمية روسية لنظرية تفيد بأن الولايات المتحدة صمّمت الفيروس كسلاح.
وفي 20 يناير 2020، نقلت شبكة "زفيزدا"، التابعة للجيش الروسي، عن شخص يُدعى إيغور نيكولين، إن تفشي المرض في الصين مرتبط باختبار أسلحة بيولوجية.
ويزعم نيكولين أنه عمل مع الأمم المتحدة، بشأن تفكيك أسلحة كيماوية في العراق، بين عامَي 1998 و2003، بما في ذلك بوصفه مستشاراً للأمين العام السابق للمنظمة الدولية كوفي أنان. لكن الأمم المتحدة ليس لديها سجل لخدمته، فيما قال ريتشارد باتلر، أبرز مفتشي الأسلحة التابعين للأمم المتحدة آنذاك، إنه لم يسمع به.
وبحلول أبريل، ظهر نيكولين 18 مرة على التلفزيون الروسي، فيما اتهم مسؤولون أميركيون أجهزة الاستخبارات الروسية بنشر معلومات مضلّلة عن كورونا، بما في ذلك مزاعم بأن الفيروس هو سلاح بيولوجي أميركي.
"الساعون لحكم الكوكب"
وفي الشهرين التاليين، ظهر أكثر من 70 مقالاً في وسائل إعلام موالية للكرملين، نشرت مزاعم مشابهة، باللغات الروسية والإسبانية والأرمنية والعربية والإنجليزية والألمانية.
واعتبرت النائبة الروسية ناتاليا بوكلونسكايا أن كورونا يمكن أن يكون سلاحاً بيولوجياً، ابتكره "الساعون لحكم الكوكب" لتقويض الصين، فيما اتهم الزعيم القومي الروسي فلاديمير جيرينوفسكي واشنطن وشركات الأدوية الأميركية "الجشعة".
وفي 23 يناير 2020، بدأت بكين أضخم حجر صحي طبي في التاريخ الحديث. في اليوم التالي، وجّه فرانسيس بويل، وهو أستاذ القانون في جامعة إيلينوي، رسالة "تنبيه عالمية" إلكترونية إلى 300 جهة اتصال، محذراً من أن بكين تطوّر الفيروس كسلاح بيولوجي، في مختبر للسلامة الأحيائية في ووهان.
وخلال الأسابيع التالية، صقل بويل نظريته، معتبراً أن العلماء الصينيين لم يطوّروا الفيروس بأنفسهم، بل أخذوه من مختبر في ولاية كارولاينا الشمالية.
انتشرت هذه النظرية عبر منافذ إعلامية، مثل "وان أميركا نيوز نتوورك" المؤيّدة لترمب، وشبكة "برس تي في" الإيرانية، وموقع "غلوبال ريسيرتش" الكندي، وموقع "ستراتيجيك كالتشر فاونديشين"، الذي تعتبره وزارة الخارجية الأميركية أداة لأجهزة الاستخبارات الخارجية الروسية.
"تبييض معلومات"
في 9 مارس 2020، أعاد حساب عام على "وي تشات"، باسم "هابي ريدينغ ليست"، نشر مقال يزعم أن الجيش الأميركي طوّر الفيروس المسبّب لكورونا، في مختبر بقاعدة "فورت ديتريك" في ميريلاند، وفقده في الصين خلال دورة "الألعاب العسكرية العالمية"، وهي مسابقة دولية للرياضيين العسكريين، نُظمت في ووهان في أكتوبر 2019.
وفي 11 مارس، نشر لاري رومانوف، الذي يزعم أنه مستشار إداري سابق في شنغهاي، مقالاً على موقع "غلوبال ريسيرتش"، تضمّن معلومات كثيرة نشرها حساب "هابي ريدينغ ليست"، مستشهداً به كمصدر.
وقال سارتس في هذا الصدد: "كانت هناك روايات، حيث يكمن أصل القصة في الفضاء الذي تسيطر عليه روسيا، ولكن يلتقطها غلوبال ريسيرتش ثم يطرحها كقصة خاصة. ثم تورد وسائل إعلام روسية أن محللين غربيين في كندا يقولون ذلك. نطلق على ذلك تسمية تبييض معلومات. كانوا مفيدين لفترة طويلة، لعمليات المعلومات الروسية، وأخيراً للصينيين أيضاً".
"أول تجربة رقمية للصين"
في 12 مارس 2020، نشر الناطق باسم وزارة الخارجية الصينية تشاو ليجيان 11 تغريدة خلال 13 دقيقة، اعتبرت "أسوشيتد برس" أنها "أطلقت ما قد يكون أول تجربة رقمية عالمية حقيقية للصين، مع معلومات مضلّلة علنية".
وكتب تشاو: "متى بدأ ظهور المريض صفر في الولايات المتحدة؟ كم عدد المصابين؟ ما هي أسماء المستشفيات؟ قد يكون الجيش الأميركي هو الذي جلب الوباء إلى ووهان. تحلّوا بالشفافية وانشروا بياناتكم. الولايات المتحدة تدين لنا بتفسير".
في اليوم التالي، حضّ تشاو مئات الآلاف من متابعيه على تويتر، على قراءة مقال رومانوف وإعادة تغريده. وأفاد "مختبر أبحاث الطب الشرعي الرقمي" بأن تويتر وحده شهد الاستشهاد بتغريدات تشاو أكثر من 99 ألف مرة خلال الأسابيع الستة المقبلة، بما لا يقلّ عن 54 لغة. وكان لدى الحسابات التي أشارت إليه نحو 275 مليون متابع على الموقع.
لكن جمهوره الأكبر كان في الصين، برغم حظرها لتويتر. وشوهدت الهاشتاغات بشأن تغريداته 314 مليون مرة على موقع ويبو.
إيران ونظرية المؤامرة
في اليوم ذاته لتغريدات تشاو، اعتبر المرشد الإيراني علي خامنئي أن كورونا قد يكون نتيجة لهجوم بيولوجي. في الوقت ذاته، نقلت وكالة "تسنيم" الإيرانية عن نيكولين إن الولايات المتحدة صمّمت الفيروس لاستهداف الصين، فيما أورد موقع "جوان أونلاين" تغريدات تشاو، زاعماً أن لدى المسؤولين الصينيين دليلاً على أن الولايات المتحدة أنتجت كورونا.
واستشهد خامنئي مرة أخرى بنظرية المؤامرة، خلال خطابه السنوي بمناسبة السنة الفارسية الجديدة، في 22 مارس، مبرّراً بذلك رفضه مساعدة أميركية لبلاده.
بعد 10 أيام على تغريدات تشاو، بدأت وسائل إعلام رسمية صينية في العالم تروّج لنظرية المؤامرة. وورد في مقال بلغة الماندرين، نشرته "إذاعة الصين الدولية" في 22 مارس: "هل أخفت الحكومة الأميركية عمداً حقيقة كورونا بالإنفلونزا؟ لماذا كان معهد الأبحاث الطبية للجيش الأميركي للأمراض المعدية في فورت ديتريك في ميريلاند، أضخم قاعدة اختبار كيماوية حيوية، مُغلقاً في يوليو 2019؟".
في غضون أيام، ظهرت نسخ من المقال أكثر من 350 مرة في منافذ حكومية صينية، معظمها بلغة الماندرين، ولكن أيضاً في كل أنحاء العالم، باللغات الإنجليزية والفرنسية والإيطالية والبرتغالية والإسبانية والعربية، كما روّجت له السفارة الصينية في باريس، على تويتر وفيسبوك.
قاعدة "فورت ديتريك"
في أواخر مارس 2020، زعم جورج ويب، وهو مروّج لنظريات المؤامرة في واشنطن، أن جندية احتياط في الجيش الأميركي هي "المريض صفر"، مدعياً على يوتيوب أنها نقلت الفيروس من "فورت ديتريك" إلى ووهان، خلال الألعاب العسكرية في أكتوبر.
وأشارت صحيفة "غلوبال تايمز" الرسمية الصينية إلى فيديو ويب، فيما تلقت المرأة تهديدات بالقتل. وحُذف الفيديو من يوتيوب، لكنه لا يزال موجوداً في الصين على ويبو، حيث حصد ملايين المشاهدات.
في 16 مايو 2020، بثت شبكة "سي جي تي إن" الرسمية الصينية فيلماً وثائقياً عن "فورت ديتريك"، شوهد على قناتها على يوتيوب أكثر من 82 ألف مرة.
وفي يوليو وأغسطس، كتب تشاو على تويتر أنه "لا تزال هناك أمور كثيرة غير واضحة بشأن فورت ديتريك الأميركية، وأكثر من 200 مختبر حيوي في العالم".
"فيروس سياسي"
في 14 يناير 2021، وصل فريق من "منظمة الصحة العالمية" إلى الصين، للتحقيق في منشأ الفيروس. وفي اليوم التالي، أصدرت وزارة الخارجية الأميركية "بيان حقائق"، أفاد بأن كورونا قد يكون نتيجة لتسرّب من "معهد ووهان لعلم الفيروسات"، زاعمة أنه تعاون في مشاريع سرية مع الجيش الصيني.
في المقابل، وصفت وزارة الخارجية الصينية تلك المزاعم بأنها "جنون اليوم الأخير للسيد كذاب"، في إشارة إلى ترمب الذي كان يستعد للتنحّي عن منصبه. وطالبت الولايات المتحدة بـ"فتح المختبر البيولوجي في فورت ديتريك، وإتاحة مزيد من الشفافية لملفات، مثل أكثر من 200 مختبر حيوي خارجي، ودعوة خبراء منظمة الصحة العالمية لإجراء تعقّب المنشأ في الولايات المتحدة".
وقالت وزارة الخارجية الصينية في بيان تلقته "أسوشيتد برس"، إن "نشر معلومات مضلّلة بشأن الوباء، يشيع فيروساً سياسياً. إن المعلومات الزائفة هي العدوّ المشترك للبشرية، وعارضت الصين دوماً إعدادها ونشرها".