غياب الإنترنت يمنع توثيق الوضع الكارثي في القطاع

انقطاع الاتصالات.. "سلاح جديد" يزهق المزيد من الأرواح في غزة

فلسطينيون يجلسون أمام جثث ذويهم الذين قتلوا جراء الهجمات الإسرائيلية على مدينة رفح جنوب قطاع غزة. 17 نوفمبر 2023 - AFP
فلسطينيون يجلسون أمام جثث ذويهم الذين قتلوا جراء الهجمات الإسرائيلية على مدينة رفح جنوب قطاع غزة. 17 نوفمبر 2023 - AFP
دبي-AWP

كانت حالة أحد المصابين تستدعي الانتقال فوراً للمستشفى بعد قصف منزله في بلدة القرارة بشمال خان يونس جنوبي قطاع غزة، لكنه لم يصل لمستشفى يبعد نحو 9 كيلومترات فقط إلا بعد ساعة كاملة. 

ومع انقطاع خدمات الاتصالات والإنترنت، عجز المواطنون المحيطون بالمنزل من الاتصال برقم طوارئ الإسعاف، ما اضطر أحدهم للإسراع بسيارته الخاصة إلى المستشفى لإبلاغه بضرورة انتقال سيارة إسعاف، قبل أن تنطلق السيارة إلى مكان المصاب، وتعود به للمستشفى.

هذه المرة الثالثة التي تنقطع فيها خدمات الاتصالات عن قطاع غزة منذ اشتعال الحرب في السابع من أكتوبر الماضي، لتكشف عن وجه مأساوي آخر يتمثل في بطء وصول المصابين الذين يفترض نقلهم بأقصى سرعة وتضاؤل فرص إنقاذهم.

وتتكرر مثل هذه المشاهد مع كل مرة تنقطع فيها الاتصالات، ويعجز القطاع الصحي عن أداء واجبه في إنقاذ المصابين لعدم القدرة على استدعاء خدمات الطوارئ إلا بعد مرور وقت طويل، وفي الأثناء تذهب أرواح.

ويصف أنيس الأسطل، مدير الإسعاف بمستشفيات جنوب قطاع غزة، انقطاع الاتصالات "بانقطاع أمل الحياة" لكثير من طالبي خدمات الإسعاف والصحة.

ويضيف: "انقطاع الاتصالات وجه آخر للحرب يزيد كارثيتها بالنسبة لخدمات الإسعاف، لعدم القدرة على التواصل بين الجمهور ومقدمي الخدمات، فضلاً عن غياب التنسيق مع جهات أخرى تعمل بمجال الإسعاف، كالهلال الأحمر الفلسطيني والدفاع المدني وأقسام الطوارئ بالمستشفيات ونحوها".

وفي حين يشير إلى الصعوبات الجمة التي تواجه إدارة العملية برمتها حتى بين المسعفين ومساعديهم وآليات استدعائهم للخدمة وغيرها، فإنه يؤكد تأثر القطاع الصحي بكافة جوانبه بحالة غير مسبوقة من غياب التنسيق، وأحياناً كثيرة عدم الإيفاء بالحد الأدنى من الأعمال المطلوبة.

ويقول: "بعض الإصابات والجثامين تبقى لساعات طويلة بمواقع القصف قبل وصول سيارات الإسعاف، خاصة إذا حدث القصف ليلاً، وانتظر المواطنون حتى الصباح خشية استهدافهم، قبل إبلاغ الطوارئ التي تتنظر بالمستشفيات لتتجه إلى المواقع المستهدفة".

 

ويتابع: "أحياناً تنطلق بعض سيارات الإسعاف من تلقاء نفسها إلى أماكن تتوقع تعرضها للقصف بحسب اتجاه صوت الانفجار، وتتوجه إليها دون التنسيق فيما بينها وبين المركز الرئيسي، ما يطيل أمد إنقاذ المصابين، ويضيع مزيداً من جهود المسعفين الذين يتعرضون لضغوط كبيرة".

فصل الإنترنت.. حجب للصورة

ورغم فصل الجيش الإسرائيلي الاتصالات في وقت سابق عن غزة بشكل متعمد قبل إعادته، اضطر قطاع الاتصالات الفلسطيني هذه المرة لوقف خدماته لعدم توفر السولار الذي يشغل مولدات الكهرباء الخاصة بأقسام الاتصالات الثابتة والمحمولة، فضلاً عن تعرضها لأضرار بالغة جراء الحرب التي أثرت على جودة الخدمات المقدمة.

وإذا كان القطاع الصحي يدفع ثمن انقطاع الاتصالات بشكل مباشر، فهناك قطاعات أخرى تتضرر بصورة كبيرة، من بينها وسائل الإعلام التي يعتمد عملها في الأساس على الاتصالات لمعرفة ومتابعة الأحداث الميدانية، عبر التواصل مع الأهالي والمسؤولين في مختلف الدوائر والهيئات، فضلاً عن عملية إرسال واستقبال المواد الإعلامية عبر الإنترنت داخل الأراضي الفلسطينية وخارجها.

ويقف الصحافي هاني الأغا عاجزاً أمام معضلة إرسال مواده الإعلامية، كالنصوص والصور وتسجيلات الفيديو التي يوثقها خلال يوم عمله إلى الجهات المتعاقد معها، جراء انقطاع الإنترنت انقطاعاً كاملاً، ناهيك عن الصعوبات الميدانية في التحرك للتعرف على أماكن القصف والقصص الصحافية المطلوب توثيقها.

لجأ الأغا إلى بدائل غير محلية لتوفير خدمة الإنترنت، لكن محاولاته تعثرت ولم تؤد هذه البدائل المهمة المرجوّة، ما تسبب مباشرة في عرقلة عمله وضياع وقت بث ونشر المواد التي وثقها. ويؤكد أن الاتصالات والإنترنت أزمة كبيرة تضاف إلى التحديات التي تواجه الصحافيين، وأهمها سلامتهم المهنية ودفع أرواحهم ثمناً لنقل الحقيقة.

ويعتبر الأغا أن توفير خدمات الإنترنت والاتصالات لا يقل أهمية عن توفير الطعام والشراب للفلسطينيين خلال المرحلة الحالية، ليس لتسيير وتيسير مختلف جوانب الحياة فحسب، لكن لأنها أساسية بالنسبة للإعلام من أجل رصد وتوثيق وتعميم كارثية الحرب، وضمان عدم ضياع الصورة الحقيقية عن العالم.

على صعيد آخر، تواجه القطاعات الخدمية تحديات كبيرة خلال فترة انقطاع الاتصالات، ما يؤثر في تقديم خدماتها للفلسطينيين الذين هم بأمسّ الحاجة إليها، خصوصاً على صعيد إمدادات المياه المنزلية ومياه الشرب. يضاف إلى ذلك المساعدات الإنسانية والإغاثية وتوزيعها على النازحين والمقيمين سواء في مراكز الإيواء أو خارجها.

الإنسانية والحرب

بيد أن البعد الإنساني يمثل جانباً مهماً آخر خلال انقطاع الاتصالات والإنترنت، خصوصاً للفلسطينيين خارج غزة الذين يتواصلون مع ذويهم داخلها بشكل مستمر للاطمئنان عليهم، فيجيء الانقطاع ليزيد كثيراً من قلقهم ومخاوفهم من احتمال تعرض أقاربهم وأحبابهم لمكروه في الحرب.

وبمجرد عودة خدمات الاتصال، تنهال الرسائل والمكالمات على أهل غزة من أقاربهم خارج القطاع، كما هو الحال مع الأم الفلسطينية أمل عمران التي وجدت عشرات وعشرات من الرسائل من ابنها وشقيقاتها وأقاربها المغتربين في عدد من الدول العربية والأوروبية، جميعهم قلقون يستفسرون عن أحوالها وسائر أفراد العائلة.

وتصف الأم انقطاع الاتصالات بفصل غزة عن الحياة، فهو يفقدها القدرة على الاطمئنان على ابنها الطبيب بالمستشفى وبقية أبنائها وعلى زوجها، ويزيد حالة القلق لدى أقاربها خارج غزة، داعية الجهات الفلسطينية ذات الصلة والمؤسسات الدولية لمنع تكرار هذا الانقطاع، الذي يصيب الناس بحالة خوف وهلع وريبة.

ويسود انطباع عام بأن انقطاع الاتصالات عادة ما يترافق مع هجمات إسرائيلية واسعة وسقوط المزيد من الضحايا، في ظل تغييب متعمد لنقل صورة الواقع إلى العالم، ما يزيد توتر الغزاويين، ويشعرهم بأنهم في عزلة عن العالم.

ويعتبر الاختصاصي المجتمعي محمد أبو عمر، أن الأمر يتجاوز تلبية حاجات الناس إلى التأثير على أوضاعهم النفسية، خصوصاً أنهم لا يعرفون ما يدور حولهم، ولا يعرف العالم ما يحدث عندهم على الأرض.

يقول: "نشعر أننا خارج الزمن، وفي حالة انفصال عن العالم، وكأننا عدنا لما قبل اكتشاف عالم الاتصالات السلكية واللاسلكية".

ويؤكد أن "تفاصيل الحياة اليومية تتأثر بشكل مباشر، وتداعيات انقطاع الاتصالات تنقض على قلوب الناس وعقولهم بشكل غير مسبوق".

ويضيف: "تخيل كيف ستبدو أوضاع ونفسية أي شخص منقطع ومعزول عن محيطه وعن العالم، ويدرك أنه ممكن أن يكون هدفاً قادماً للقصف، دون أن يستطيع الاتصال بالإسعاف أو الدفاع المدني لإنقاذه وعائلته".

تصنيفات

قصص قد تهمك