الحياة تعود إلى مضيق ماجلان.. تجارة وتنافس و"ذهب أخضر"

سفينة التدريب التابعة للبحرية الإسبانية خوان سيباستيان دي إلكانو (على اليمين) وسفينة التدريب التشيلية لا إزميرالدا (على اليسار) في خليج مدينة بونتا أريناس بجنوب تشيلي، في مضيق ماجلان، 18 أكتوبر 2020 - AFP
سفينة التدريب التابعة للبحرية الإسبانية خوان سيباستيان دي إلكانو (على اليمين) وسفينة التدريب التشيلية لا إزميرالدا (على اليسار) في خليج مدينة بونتا أريناس بجنوب تشيلي، في مضيق ماجلان، 18 أكتوبر 2020 - AFP
ساو باولو-هاني الدرساني

فوق الأعمدة الخشبية المتبقية من الرصيف البحري القديم والذي يعود تاريخه إلى قرن من الزمان، تراقب طيور الغاق السوداء الأنيقة عودة حركة السفن التجارية وناقلات البترول وسفن الأبحاث في مضيق ماجلان، هذا المرر المائي الذي يقع أقصى جنوب تشيلي بين أرض النار (Tierra del Fuego) وكايب هورن(Cape Horn) قرب حافة القارة المتجمدة الجنوبية.

أطلق على المضيق هذا الاسم تكريماً لمكتشفه الرحالة الاسباني فرديناند ماجلان، والذي يعتبر أول شخص يبحر من خلاله عام 1520 عندما كان يقوم برحلته حول العالم، حيث قطع مسافة 564 كم من شرق الممر الى غربة خلال 40 يوماً.

ومنذ ذلك الحين تحول هذا المضيق إلى أحد أهم الممرات المائية الطبيعية ليضمن مرور آلاف السفن بين المحيط الأطلسي والمحيط الهادئ.

وبعد افتتاح قناة بنما عام 1914، تراجعت أعداد السفن التي كانت تبحر في مضيق ماجلان، حيث أن عبورها من خلال قناة بنما يوفر أكثر من 20 يوم سفر حول القارة الأميركية الجنوبية، أي ما يعادل 13 ألف كم تقريباً.

لكن الأشهر الماضية شهدت تغيرات بيئة واقتصادية وحتى سياسية أدت الى نمو حركة الملاحة ضمن المضيق، ففي يناير وفبراير من عام 2024، زادت حركة المرور بنسبة 25% مقارنة بالفترة نفسها من عام 2023، و83% مقارنة بعام 2021، عندما كانت سلاسل التوريد لا تزال معطلة بسبب الوباء، وأعلنت الحكومة التشيلية الشهر الماضي، استعدادها لزيادة حركة المرور بنسبة تصل إلى 70% هذا العام.

اختناق الممرات في بنما والسويس

قال أستاذ الاقتصاد الدولي في جامعة إنسبير روبيرتو دوماس لـ"الشرق"، إن أحد أهم الأسباب وراء عودة الحياة إلى مضيق ماجلان هو حاجة الدول إلى طرق بحرية تؤمن استمرار تدفق سلاسل التوريد، وخاصة بعد الأزمات التي عصفت بكل من قناة بنما والسويس.

ومع تزايد الحوادث الأمنية في البحر الأحمر والمرتبطة بشكل مباشر في الحرب الإسرائيلية على غزة، تراجعت أعدد السفن التي تعبر باب المندب باتجاه قناة السويس وذلك خوفاً من استهدافها من قبل جماعة الحوثي التي أعلنت عزمها على الاستمرار باستهداف السفن التابعة لإسرائيل والولايات المتحدة وبريطانيا. هذه الأحداث أدت الى تراجع الحركة في قناة السويس الى 50% مما كانت عليه في العام الماضي.

وتؤثر حالة عدم اليقين بشأن تدفقات الطاقة والشحن على العديد من البلدان التي تعتمد على الواردات، ما يساهم في خلق بيئة أعمال لا يمكن التنبؤ بها إلى حد كبير ما يؤثر بشكل مباشر على الاستثمارات في تلك البلدان، ولذلك كان لابد من تغيير مسار السفن لضمان استمرار هذه التدفقات.

ويتابع دوماس: "على بعد آلاف الكيلومترات من قناة السويس وتحديداً في بنما تعاني منطقة حوض قناة بنما من موجة جفاف تعتبر الأشد خلال 143 عام الماضية، إذ تراجعت كميات هطول الأمطار إلى أقل من المعدل الطبيعي بنسبة ما بين 40% و50%، وذلك بسبب ظاهرة (النينو) الجوية المرتبطة بارتفاع درجات حرارة سطح المياه في المحيط الهادئ".

قلة الامطار أدت الى انخفاض مستوى بحيرة جاتون المسؤولة عن تأمين المياه للقناة، ما أجبر إدارة القناة على خفض عدد السفن التي تعبر يومياً من 44 الى 24 سفينة فقط، بالإضافة إلى خفض كمية حمولة السفن.

وأدت هذه القرارات بدورها إلى رفع تكلفة العبور بالإضافة إلى زيادة مدة الانتظار لتصل في بعض الأحيان إلى 25 يوماً، ما تسبب بخلق طوابير من السفن وصلت إلى 140 سفينة في كل جانب من المحيط. ودفعت هذه الإجراءات بالكثير من شركات الشحن إلى اتخاذ قرار بتحويل رحلاتها باتجاه مضيق ماجلان.

التنافس الصيني الأميركي 

تتعدد المؤشرات الدالة على صعود حضور الصين في أميركا اللاتينية، ونجاحها في بعض الأحيان في التفوق على النفوذ الأميركي الراسخ هناك منذ قرون، حيث تمكنت الصين من تعزيز حضورها وترسيخ مكانتها باعتبارها قوة دولية وبديلاً للولايات المتحدة.

وتحظى الصين بقبول ومصداقية من قبل دول المنطقة وتعد حالياً أهم سوق لصادرات كل من البرازيل وتشيلي وبيرو وكوبا وأوروجواي، إذ إن تجارة الصين مع أميركا اللاتينية ودول منطقة البحر الكاريبي قفزت من 18 مليار دولار إلى 450 مليار دولار في عام 2022، في الوقت الذي بقي فيه حجم التجارة الأميركية مع معظم دول المنطقة ثابتة إلى حد ما. ومن المتوقع أن تصل تجارة الصين مع أميركا اللاتينية إلى 700 مليار دولار بحلول عام 2035.

كما عمدت الصين على ضخ استثماراتها بكثافة في أميركا اللاتينية التي أصبحت ثاني أكبر متلقٍ لاستثمارات بكين بعد قارة آسيا مباشرة، ونما إجمالي الاستثمار الصيني في المنطقة من 12 مليار دولار في عام 2000 إلى 315 مليار دولار في عام 2020.

وتتركز هذه الاستثمارات في القطاعات الاستخراجية، مع إيلاء اهتمام خاص للنفط والمعادن الاستراتيجية، مثل الليثيوم، بالإضافة إلى الاستثمار في مشاريع البنية التحتية وخاصة الموانئ، إذ تسيطر الصين على ما يقرب من 40 ميناء بحري تمتد من المكسيك شمالاً إلى تشيلي جنوباً، والتي وقع رئيسها جابرييل بوريتش مع الصين في أكتوبر الماضي برنامجاً استثمارياً مدته 5 سنوات بقيمة 400 مليون دولار أميركي لتحديث الموانئ والبنية التحتية الأخرى في مضيق ماجلان.

يقول فيكتور بينو، وهو صحافي تشيلي متخصص في شؤون دول أميركا اللاتينية، إن الولايات المتحدة عادت لمضاعفة تواجدها في المنطقة وخاصة عند النقاط الاستراتيجية، حيث باشرت ببناء قاعدة بحرية عسكرية ضمن الأراضي الأرجنتينية بقرب قناة بيجل (Beagle Channel)، مقابل القاعدة العسكرية الصينية التي تم تشييدها قبل سنوات بهدف إجراء أبحاث داخل مياه المحيط.

ويضيف بينو قائلاً أن الدوائر السياسية في واشنطن حذرت من تحرك الصين لفرض نفوذها على قارة القطب الجنوبي، من خلال إرسال عدد من كاسحات الجليد وبناء قواعد بحرية في جنوب القارة.

وأوضح أن سبب الاهتمام الصيني بمنطقة القطب الجنوبي هو السيطرة على المنطقة، فهي تمثل قارة ضخمة تشغل 10% من مساحة الكوكب ويوجد فيها احتياطيات هائلة من الموارد الطبيعية الخام، والسبب الثاني وراء رغبة الصين في وضع يدها على قارة القطب الجنوبي المعروفة باسم (أنتاركتيكا - Antarctica)، أنها أرض عذراء و لا تخضع  لنفوذ أي دولة، عكس منطقة القطب الشمالي.

إنتاج الذهب الأخضر

الاهتمام العالمي المتزايد بإيجاد مصادر للطاقة صديقة للبيئة وذلك بهدف الحد من انبعاث الغازات الدفينة، دفع بالكثير من الدول للاستثمار في إنتاج الهيدروجين الأخضر، إذ تشير الدراسات إلى أن قيمة الاستثمارات في هذا المجال من المتوقع أن تصل إلى 112 مليار دولار أميركي في عام 2030.

يرى خورخي أوليفيرس وهو أستاذ مادة الاقتصاد بجامعة سانتيغو، أن الهيدروجين الأخضر يعد بمثابة المرساة الاقتصادية الحديثة لمضيق ماجلان وللموانئ المطلة عليه، إذ أن عملية انتاجه تحتاج لعنصرين رئيسيين، الماء و الكهرباء المولدة من الطاقة المتجددة وهي الرياح، والتي تشتهر بها منطقة ماجالهايس (Magalhães) البحرية الملاصقة للمضيق، حيث شهدت السنوات الأخيرة تشيد مزارع للتوربينات الهوائية التي تعمل على توليد الكهرباء عبر حركة الرياح. وجدير بالذكر أن معظم هذه المزارع تعتبر استثمارات أجنبية تتبع لشركات أوروبية.

من جانبها تسعى الحكومة التشيلية إلى زيادة عدد المستثمرين في تلك المنطقة، إذ قامت خلال السنوات الماضية بتوقيع اتفاقيات تعاون مع مشغلي موانئ عالمية المستوى في روتردام وأنتويرب بروج وسنغافورة.

كما تسعى أيضاً للحصول على تمويل من بنوك متعددة الأطراف من أجل تطوير البنية التحتية في المنطقة وبناء المزيد من محطات تحلية المياه وغيرها من المرافق بهدف تسهيل صادرات الهيدروجين الأخضر إلى الأسواق العالمية.

تصنيفات

قصص قد تهمك