جسر أرضي يعود

تركيا.. اكتشاف أدلة على وجود طريق للهجرة بين الأناضول وأوروبا في العصر الحجري

فأس يدوية بطرف مكسور تعود للعصر الحجري القديم عثر عليها خلال مسح بمنطقة أيفاليك، شمالي غرب تركيا - tandfonline.com
فأس يدوية بطرف مكسور تعود للعصر الحجري القديم عثر عليها خلال مسح بمنطقة أيفاليك، شمالي غرب تركيا - tandfonline.com
القاهرة -محمد منصور

أفادت دراسة علمية حديثة بأن البشر الأوائل ربما سلكوا طريقاً غير متوقعاً للوصول إلى أوروبا، ما يفتح صفحة جديدة في معرفة تاريخ الهجرة البشرية.

وعثر فريق باحثات آثار في تركيا، على أدلة تعود إلى العصر الحجري القديم في منطقة أيفاليك على ساحل بحر إيجه شمالي غرب تركيا، تشير إلى وجود جسر أرضي طبيعي كان يربط الأناضول بأوروبا. 

وقالت الباحثات، إن هذا المسار، الذي كان متاحاً خلال العصر الجليدي عندما انخفضت مستويات سطح البحر، يمثل طريقاً محتملاً جديداً يختلف عن المسارات المعروفة سابقاً عبر البلقان والشرق الأوسط، ما يغير فهم كيفية انتشار الإنسان العاقل في القارة الأوروبية.

أجري المسح الميداني في يونيو 2022، واستمر أسبوعين، واعتمد الفريق فيه على السير الميداني وفحص الطبقات السطحية في مواقع متعددة شملت السهول المنخفضة والمناطق الساحلية الموحلة.

وعلى الرغم من صعوبات الحفظ الناجمة عن العمليات الجيومورفولوجية النشطة والتغطية الطينية الواسعة، إلا أن الباحثين تمكنوا من توثيق بقايا حجرية محفوظة بشكل كافٍ لإجراء دراسة تقنية.

ويرى فريق البحث أن النتائج تقدم دلائل جديدة على أن أيفاليك مثلت بيئة مناسبة للإقامة البشرية المؤقتة وربما الدائمة خلال فترات من العصر الحجري القديم.

وتشير الدراسة إلى أن هذه المنطقة لم تكن مجرد نقطة عبور، بل ربما وفرت موارد خام عالية الجودة مثل الصوان والعقيق، ما جعلها موقعًا مناسباً لإنتاج الأدوات الحجرية.

منظر عام لمنطقة أيفاليك، حيث أُجري مسح العصر الحجري القديم. المصدر: قدرية، جوكنور، وهاندي.
منظر عام لمنطقة أيفاليك حيث أُجري مسح العصر الحجري القديم، شمالي غرب تركيا - tandfonline

يطرح البحث احتمالية أن تكون أيفاليك لعبت دوراً كممر إضافي للبشر الأوائل نحو أوروبا، خاصة خلال الفترات التي انخفض فيها مستوى البحر، ويعزز هذا الطرح مناقشات أوسع بشأن الطرق البديلة التي استخدمها البشر في تنقلاتهم، بعيدًا عن المسارات التقليدية التي ركزت عليها الأبحاث السابقة.

وتساهم نتائج البحث في سد فجوة بحثية بشأن منطقة لم تحظَ سابقًا بدراسة مكثفة في ما يتعلق بعصور ما قبل التاريخ.

وتشير الدراسات الأثرية، إلى أن انتقال الإنسان العاقل من إفريقيا إلى أوراسيا كان عملية متعددة المراحل، تضمنت عدة طرق مختلفة، أبرزها الطريقان الأكثر دراسة عبر بلاد الشام باتجاه شمال الهلال الخصيب (حوض نهري دجلة والفرات)، أو عبر منطقة البلقان نحو أوروبا الوسطى. لكن المنطقة الشمالية الشرقية من بحر إيجه لم يسبق دراستها بشكل معمق ضمن هذا السياق.

مليون سنة.. عمر وجود الإنسان في المنطقة

ويقسم العصر الحجري القديم، الممتد من نحو 2.6 مليون سنة حتى 10 آلاف سنة قبل الميلاد، إلى 3 مراحل رئيسية، هي الأدنى، والأوسط، والحديث، وتمثل الأدوات المكتشفة في أيفاليك عينات من هذه المراحل، خاصة من العصر الحجري القديم الأوسط، ما يتيح فرصة لإعادة تقييم دور هذه المنطقة في مسارات الهجرة.

خلال فترات الجليد في عصر البلايستوسين، انخفض مستوى سطح البحر بما يزيد على 100 متر، ما أدى إلى ظهور سهول ساحلية واسعة ربطت الجزر الحالية بالبر الرئيسي، وبذلك، فإن الجزر والخلجان المعروفة حالياً كانت جزءًا من كتلة برية متصلة، وهو ما وفر ممرًا طبيعيا بين الأناضول وأوروبا.

وتشير الأدلة الأثرية في منطقة بحر إيجه إلى وجود الإنسان منذ فترات مبكرة جدًا من العصر الحجري القديم، ومن أبرز هذه الشواهد بقايا جمجمة تعود إلى الإنسان المنتصب ويقدر عمرها بأكثر من 1.1 مليون سنة. 

وعثر فريق البحث على مجموعات من الأدوات الحجرية في حوض دنيزلي الأوسع، تعكس تقنيات القطع البدائية، على الرغم من أنها لم تكن في اتصال طبقي مباشر مع الجمجمة المكتشفة.

وتشمل الاكتشافات الإضافية شظية من مدرجات جيديز يقدر عمرها بنحو 1.2 مليون سنة، وموقع رودافنيديا الآشولي في جزيرة ليسبوس والتي يقدر عمرها بنحو 470 ألف سنة وتوضح هذه المواقع أن وجود الإنسان في المنطقة ممتد بين نحو مليون سنة و400 ألف سنة قبل الميلاد.

ويُعتبر موقع سورميسيك من أكبر مواقع العصر الحجري القديم المفتوحة في تركيا، حيث استخرجت منه أكثر من 86 ألف قطعة حجرية محفوظة داخل طبقات عميقة من الرواسب وتظهر هذه المجموعة مزيجاً من تقنيات العصرين الحجريين القديمين الأدنى والأوسط، بما في ذلك فؤوس اليد، وأدوات الحصى، وتقنية "ليفالوا" للتشذيب، وأدوات ثنائية الوجه. 

إلا أن العمق الكبير للموقع وما يترتب عليه من تعقيد جيولوجي أعاق إمكانية التأريخ المطلق وحد من وضوح التسلسل الطبقي، على الرغم من أنه ساعد على حفظ عدد هائل من القطع الأثرية.

مسح ميداني في أيفاليك. المصدر: قدرية، جوكنور، وهاندي.
منظر عام لنقاط مختارة في المنطقة التي شملها المسح بمنطقة أيفاليك وتعكس البيئات المتنوعة لمنطقة المسح، شمالي غرب تركيا - tandfonline

وعلى الرغم من وفرة هذه الاكتشافات، إلا أن حفظ الأدلة الأثرية في بحر إيجه تأثر سلباً بالعمليات البيئية النشطة، وأدى ذلك إلى فجوات في السجل الأثري، ما يعني أن غياب الأدلة لا يمكن اعتباره دليلًا على غياب النشاط البشري، بل نتيجة لظروف الحفظ الصعبة وقلة كثافة المواد الأثرية في بعض المناطق، ومع التقدم في الدراسات البيئية الحديثة، أعيد تفسير هذه الفجوات باعتبارها مؤشراً على إمكانات أوسع للمنطقة.

وأظهرت الأبحاث الحديثة أيضًا أن بحر إيجه لم يكن مجرد حاجز مائي، بل مسرحاً ديناميكياً للتحركات البشرية المبكرة، فخلال فترات انخفاض مستوى سطح البحر في العصور الجليدية، ظهرت روابط برية مؤقتة بين الأناضول وجنوب شرق أوروبا، خصوصًا في شمال بحر إيجه.

وأجرى فريق الباحثات المتخصصات في عصور ما قبل التاريخ من جامعات تركية عدة، مسحاً أثرياً ميدانياً على امتداد مساحة تقارب 200 كيلومتر مربع، وأسفر المسح عن العثور على 138 قطعة حجرية في 10 مواقع مختلفة، جميعها تقع بمحاذاة الساحل الحالي لمنطقة أيفاليك.

معبر بري طبيعي بين الأناضول وأوروبا

تشير الدراسة إلى أن التغيرات البيئية خلال العصور الجليدية لعبت دوراً رئيسياً في تشكيل المشهد الطبيعي للمنطقة، خلال فترات انخفاض مستوى سطح البحر بأكثر من 100 متر، كانت الجزر والخلجان الحالية جزءاً من كتلة برية متصلة، ما وفر معبرًا بريًا طبيعيًا بين الأناضول وأوروبا.

وبحسب الباحثات، فإن هذا الاتصال البري المؤقت أتاح المجال لتحركات البشر الأوائل عبر ما يعرف اليوم بالمنطقة الساحلية الشمالية الشرقية من بحر إيجه.

أظهرت الأدوات المكتشفة في أيفاليك تنوعاً تقنياً لافتاً، وشملت تقنيات "ليفالوا" المميزة للعصر الحجري القديم الأوسط والمعروفة بارتباطها بالنياندرتال والإنسان العاقل المبكر، إلى جانب أدوات كبيرة الحجم مثل الفؤوس اليدوية التي كانت متعددة الاستخدامات وشائعة في العصر الحجري القديم الأدنى والأوسط. 

وتقنيات "ليفالوا" واحدة من أكثر الابتكارات أهمية في صناعة الأدوات الحجرية خلال العصر الحجري القديم الأوسط، وتقوم فكرتها على تشكيل النواة الحجرية مسبقاً بطريقة مدروسة بحيث تسمح باقتطاع شظايا منتظمة ذات حواف حادة يمكن استخدامها مباشرة كأدوات.

ويعكس هذا الأسلوب مستوى عال من التخطيط الذهني، إذ كان الصانع يتصور شكل الأداة قبل استخراجها ويهيئ النواة وفقاً لذلك، وارتبطت تقنيات ليفالوا بالنياندرتال وكذلك بالإنسان العاقل المبكر، واعتبرت دليلاً على قدراتهم المعرفية المتقدمة مقارنة بالأساليب الأقدم التي اعتمدت على كسر عشوائي للحجر.

وبفضل هذه التقنية تمكن البشر من إنتاج مقاشط وأدوات قاطعة دقيقة تخدم مهاماً متعددة مثل الذبح والكشط والقطع، وهو ما منحهم مرونة أكبر في التكيف مع بيئاتهم المتنوعة.

وبرزت المقاشط والأدوات القاطعة التي عكست تنوعاً وظيفياً يشير إلى قدرة المجتمعات البشرية على التكيف مع بيئاتها المختلفة، ويعد وجود هذه الأدوات في الموقع دليلاً مباشراً على أن المنطقة كانت جزءاً من شبكة أوسع من التقاليد التقنية التي امتدت عبر إفريقيا وآسيا وأوروبا.

وتقول الباحثات إن وجود هذه الادوات في أيفاليك ليس مجرد اكتشاف محلي معزول، بل يكشف عن بعد أوسع يرتبط بتاريخ البشر وانتشارهم عبر القارات "فعندما نقول إن المنطقة كانت جزءاً من شبكة أوسع من التقاليد التقنية الممتدة عبر إفريقيا وأسيا وأوروبا، فإننا نعني أن المجتمعات التي عاشت هنا لم تكن تعمل بمعزل عن غيرها، بل كانت تشترك في أنماط إنتاج الأدوات الحجرية وأساليب التفكير العملي".

وظهرت تقنيات ليفالوا في شمال إفريقيا وانتقلت تدريجياً إلى مناطق مختلفة، ما يدل على وجود تواصل مباشر أو غير مباشر بين هذه المجموعات، سواء عبر الهجرات البشرية أو عبر تبادل المعرفة من خلال الاتصال الثقافي.

وينطبق الأمر نفسه على الفؤوس اليدوية والمقاشط التي استخدمت في أغراض متنوعة مثل الصيد وتجهيز الطعام ومعالجة الجلود، وهي أدوات وجدت بنماذج مشابهة في مواقع أوروبية وشرق أوسطية.

ويوضح هذا الترابط أن البشر في العصر الحجري لم يكونوا معزولين كما يظن البعض، بل كانوا جزءاً من شبكة تكنولوجية وثقافية واسعة مهدت الطريق للتطورات الكبرى في تاريخ الانسان.

تصنيفات

قصص قد تهمك