نال الفيزيائي الأميركي جون ماثيو مارتينيس، جائزة نوبل في الفيزياء لعام 2025، مناصفة مع أستاذه جون كلارك (بريطاني)، وزميله ميشيل ديفوري (فرنسي)، تقديراً لاكتشافهم ظاهرة "النفق الكمي الماكروسكوبي وتكميم الطاقة في الدوائر الكهربائية"، وهو الاكتشاف الذي مهّد الطريق للحوسبة الكمية الحديثة.
درس مارتينيس البالغ من العمر 67 عاماً، الفيزياء في جامعة كاليفورنيا بيركلي، حيث حصل على درجة البكالوريوس في عام 1980، ثم الدكتوراه في عام 1987 تحت إشراف الفيزيائي جون كلارك.
كانت أطروحة مارتينيس حول "السلوك الكمي لمتغير ماكروسكوبي" بداية دخوله إلى عالم "ميكانيكا الكم التجريبية". في تلك الفترة، عمل إلى جانب الباحث الفرنسي ميشيل ديفوري، وكان الثلاثة الفائزين بجائزة نوبل للفيزياء 2025 (كلارك وديفوري ومارتينيس) يعملون في مختبر صغير في بيركلي على تجارب بدت حينها أقرب إلى المغامرة الفكرية منها إلى الواقع.
وفي عام 1985، نشر الثلاثي نتائجهم التي أظهرت لأول مرة أن "وصلة جوزيفسون" Josephson Junction، يمكن أن تُظهر سلوكاً كمياً على مستوى يمكن قياسه، أي أن الإلكترونات لا تخضع للقوانين الكلاسيكية حتى داخل دائرة كهربائية.
و"وصلة جوزيفون" أو "تأثير جوزيفون"، هي دائرة كهربائية تتكون من مادتين فائقتي التوصيل يفصل بينهما حاجز رقيق من مادة عازلة، يسمح بمرور تيار كمّي عبر ظاهرة "النفق الكمّي"، حتى في غياب فرق جهد كهربائي بين الطرفين.
هذه التجارب، التي جمعت بين الحرفة التجريبية أو ما يوصف بـ"الخيال الفيزيائي"، أصبحت لاحقاً الأساس العلمي الذي بنيت عليه الحواسيب الكمية باستخدام الكيوبتات فائقة التوصيل.
"الحوسبة الكمية" من النظرية إلى الواقع
بعد نيله الدكتوراه، تنقل مارتينيس بين فرنسا والولايات المتحدة، حيث طور أنظمة قياس فريدة، وابتكر طريقة جديدة للكشف عن الأشعة السينية باستخدام مستشعرات حرارية فائقة التوصيل.
وفي عام 2004، التحق بجامعة كاليفورنيا في سانتا باربرا، حيث شغل كرسي ووستر في الفيزياء التجريبية، وبدأ مرحلة جديدة أكثر طموحاً وهي بناء حاسوب كمي فعلي. وعندما أعلنت "جوجل" في عام 2014 استقطابه وفريقه ضمن مختبر"جوجل كوانتم أيه آي" Google Quantum AI، بدا الأمر وكأن الحلم الذي بدأ في مختبر بيركلي قبل عقود بدأ يكتمل.
وبرز مارتينيس في عام 2019 عندما نشر في مجلة Nature ورقة بعنوان "التفوق الكمي باستخدام معالج فائق التوصيل"، وأعلن فيها أن فريقه حقق "التفوق الكمي" لأول مرة، أي تنفيذ عملية حسابية لا يمكن لأي حاسوب كلاسيكي أن ينجزها في زمن معقول. كان ذلك الحدث بمثابة اللحظة التي انتقلت فيها الحوسبة الكمية من النظرية إلى الواقع.
رغم مغادرته "جوجل" في عام 2020، بعد انتقاله إلى دور استشاري، وذهابه لاحقاً إلى أستراليا للانضمام إلى شركة خاصة، ظل تأثير مارتينيس ممتداً في كل مشروع يسعى لجعل الحوسبة الكمية عملية ومستقرة.
ونال مارتينيس خلال مسيرته عدداً من الجوائز العلمية المرموقة، منها جائزة "فريتز لندن التذكارية" في عام 2014 مع ديفوري وروبرت شيلكوف، وجائزة "جون ستيوارت بيل" في عام 2021 لأبحاثه الرائدة في ميكانيكا الكم وتطبيقاتها، قبل أن يتوج مسيرته بجائزة نوبل في الفيزياء في عام 2025.
اختبار أفكار متعددة
وأكد مارتينيس تعلقه بالحوسبة الكمية، حتى بعد مغادرته "جوجل"، إذ قال: "كان هدفي سابقاً بناء حاسوب كمي مفيد لجوجل، أما الآن فأريد فقط أن أساعد في بناء حاسوب كمي مفيد للجميع". ويرى أن ما اكتسبه من خبرة عبر عقود من العمل في الفيزياء التجريبية يمكن أن يُسهم في تسريع التطور في هذا المجال.
ويرى مارتينيس، أن تعدد المقاربات في بناء الحواسيب الكمية، سواء بــ"الكيو بتات فائقة التوصيل" (Superconducting Qubits) أو "الأيونات المحصورة" (Trapped Ions) أو التلدين الكمي (Quantum Annealing)، "ليس ضعفاً في المجال، بل مصدر قوته".
فالتنوع، كما يقول، هو ما يدفع العلم إلى الأمام، إذ يتيح "اختبار أفكار متعددة، وفهم نقاط القوة والقصور في كل نهج". ويعتزم مارتينيس التعمق أيضاً في دراسة هذه المقاربات المختلفة لفهم الصورة الكاملة لما يلزم لبناء حاسوب كمي عملي.
بالنسبة لمارتينيس، فإن "صعوبة بناء الحاسوب الكمي ليست عائقاً، بل دافعاً". فهو يرى أن هذه الصعوبة هي جوهر المتعة العلمية، كما كانت رحلة الإنسان إلى القمر في ستينيات القرن الماضي.
ويقول مارتينيس: "ما يثيرني في الحوسبة الكمية أنها نموذج حوسبة جديد كلياً، وقد تتيح لنا حل مشكلات كانت مستحيلة من قبل".
ويشبّه مارتينيس مشروع الحوسبة الكمية بالرحلات العلمية الكبرى لفهم الكون. فكما استغرق علماء الفلك عقوداً لتطوير أدواتهم لرصد المجرات، يحتاج علماء الكم إلى وقت طويل لبناء الأدوات التي ستفتح أبواب عالم جديد. وهو يرى أن كل خطوة في هذا الطريق تمثل ثورة صغيرة تفتح الطريق لثورة أكبر.
يشتهر مارتينيس بخبرته في بناء الحواسيب الكمية القائمة على الكيوبتات فائقة التوصيل، ويقول إنه توصّل خلال العام الماضي إلى فكرة تمكّنه من توسيع نطاق هذه الكيوبتات من العشرات إلى الملايين، وهو ما يعتبره الهدف الحقيقي للحوسبة الكمية القابلة للاستخدام العملي.
ما هو الحاسوب الكمي؟
والحاسوب الكمي هو نوع جديد من الحواسيب يستخدم قوانين "ميكانيكا الكم"، وهي القوانين التي تشرح كيف تتصرف الجسيمات الصغيرة جداً، مثل الإلكترونات والذرات.
ويعتمد الحاسوب العادي في عملياته على البتّات (bits) حيث يمكن لكل بت أن يكون إما 0 أو 1، أما الحاسوب الكمّي فيستخدم كيوبتات (qubits)، وهي وحدات يمكن أن تكون 0 و1 في الوقت نفسه، بفضل خاصية تسمى "التراكب الكمي" Superposition)).
وبسبب قدرة الكيوبت على التواجد في أكثر من حالة في الوقت نفسه، يستطيع الحاسوب الكمي معالجة عدد هائل من الاحتمالات دفعة واحدة، بدلاً من تجربتها واحدة تلو الأخرى كما يفعل الحاسوب العادي.