قبل حوالي 10 سنوات هبطت مركبة "كيوريوسيتي" على المريخ، وجابت تلك المركبة المنطقة المعروفة باسم "جيل كريتر" (فوهة جيل)، وقامت بأخذ العينات وتحليلها وإرسال النتائج إلى الأرض ليُفسرها الباحثون.
تدرس تلك المركبة المزودة بأجهزة علمية بالغة الدقة، جيولوجيا وكيمياء المريخ، كما تبحث عن وجود الكربون وغاز الميثان وغيرهما من المركبات الأخرى التي تكونت منذ مليارات السنوات.
مؤخراً كشفت نتائج فحص عينات نظائر الكربون المأخوذة من عينات رواسب تم جمعها من ستة مواقع، عن ثلاث سيناريوهات غير تقليدية لأصل الكربون على الكوكب الأحمر.
ويقول السيناريو الأول الأكثر إثارة، إن ثمة عمليات بيولوجية أثرت في تكوين الكربون المريخي؛ فيما يقول التفسير الثاني إن الغبار الكوني هو ما ساهم في عملية تكون الكربون؛ ويقول الثالث إن تحلل الكربون بواسطة الأشعة فوق البنفسجية هو المساهم الأبرز في تلك العملية.
أمضت المركبة "كيوريوسيتي" التي يقودها مختبر الدفع النفاث التابع لوكالة "ناسا" في جنوب كاليفورنيا، السنوات التسع الماضية في استكشاف منطقة جيل كريتر التي تتكون من طبقات من الصخور القديمة. حفر المسبار في سطح هذه الطبقات وجمع عينات من الطبقات الرسوبية المدفونة ثم قام بتسخينها -دون تعريضها للأكسجين- لفصل أي مواد كيميائية.
أظهر التحليل الطيفي لجزء من الكربون المختزل الناتج عن هذه العملية الحرارية نطاقاً واسعاً من كميات الكربون 12 والكربون 13 اعتماداً على مكان أو وقت تكوين العينة الأصلية.
نظائر الكربون
للكربون عدة نظائر، أهمها على الإطلاق النظير المعروف باسم الكربون 12 (والذي تحتوي نواته على عدد 6 نيوترونات و6 بروتونات) والذي يتواجد في الطبيعة على الأرض بوفرة كبيرة وتصل نسبته إلى نحو 98.6%. أما النظير المعروف باسم الكربون 13 فيتواجد بندرة على سطح الأرض بنسبة تقدر بحوالي 1%.
ومنذ بداية تكون المجموعة الشمسية يتواجد الكربون بنفس الكمية دون زيادة أو نقصان. فعلى الأرض تُساهم دورة الكربون في تدوير تلك المادة. في الشق الأول من تلك الدورة تتبادل الكائنات الحية الكربون في ما بينها، أما في الشق الثاني فيتم تدوير الكربون على مدار آلاف السنوات خلال العمليات الجيولوجية.
من المعروف أن كربون 12 يتفاعل بشكل أسرع من الكربون 13 مع المواد المحيطة به. وبالتالي فإن دراسة نسب تركز النظيرين المستقرين (كربون 12 وكربون 13) في الصخور يُمكن أن يُعطينا لمحة عن أهم العمليات الجيولوجية التي حدثت منذ وقت طويل سواء في كوكب الأرض أو في المريخ.
وحسب الدراسة المنشورة الاثنين في دورية "وقائع الأكاديمية الوطنية للعلوم" فإن العينات التي قامت "كيوريوسيتي" بتحليلها تُشبه إلى حد ما عينات مأخوذة من موقع رسوبي في أستراليا يبلغ عمره نحو 2.7 مليار عام.
تتميز العينة المريخية بوجود تركيزات عالية من الكربون 12 مثل العينات الأرضية. وعلى الأرض، نتجت تلك العينات من نشاط بيولوجي قديم، بعد أن قامت مجموعة من الكائنات الميكروبية القديمة باستهلاك الميثان لتترك العينة غنية بذلك النظير الكربوني.
ويقول الباحثون إن تركيز النظير الكربوني رقم 12 لا يعني بالضرورة أن هناك نشاطاً بيولوجياً حدث على الكوكب الأحمر قبل مليارات السنوات؛ لكنه لا ينفي تلك الاحتمالية.
3 احتمالات
ولشرح الطريقة التي تكونت بها تلك العينات؛ اقترح الباحثون ثلاث احتمالات.
إما أن تكون تلك العينات وصلت للمريخ بسبب سحابة من الغبار الكوني؛ أو ربما تكون قد تكونت بفعل الأشعة فوق البنفسجية التي تقوم بتكسير ثاني أكسيد الكربون؛ أو بالطبع ربما بسبب التحلل فوق البنفسجي للميثان الناتج بيولوجياً.
ووفقاً لما ذكره الباحثون، يمر النظام الشمسي كل بضع مئات من ملايين السنين عبر سحابة جزيئية مجرية. يقول الباحثون إن تلك السحابة لا تتسبب في ترسب ذلك النوع من الكربون بكثرة على كوكب الأرض، لكنها ربما ساهمت في تكون الرواسب على المريخ.
ولإنشاء تلك الطبقة الرسوبية على المريخ كان يجب على سحابة الغبار المجرية أن تخفض أولاً درجة الحرارة على المريخ والذي كان لا يزال وقتها يحتوي على الماء، وبخفض درجة الحرارة تتكون أنهاراً جليدية. من الممكن أن يترسب الغبار على قمة الجليد وسيحتاج بعد ذلك إلى البقاء في مكانه بمجرد ذوبان النهر الجليدي، تاركاً وراءه طبقة من الرواسب التي تحتوي على الكربون.
وحتى الآن، هناك أدلة محدودة على وجود أنهار جليدية في الماضي في "جيل كريتر" على المريخ. لكن ورغم ذلك؛ يبقى "هذا التفسير معقول، لكنه يتطلب المزيد من البحث" حسب الباحثين.
أما التفسير الثاني المحتمل لوجود كميات أعلى من الكربون رقم 12 وكميات أقل من الكربون 13 هو التحويل فوق البنفسجي لثاني أكسيد الكربون إلى مركبات عضوية مثل الفورمالديهايد.
يقول الباحثون إن هناك أوراق تتنبئ بأن الأشعة فوق البنفسجية يمكن أن تسبب هذا النوع من التحويل.
ومع ذلك، نحتاج إلى المزيد من النتائج التجريبية التي توضح حجم التحويل هذا حتى يتمكن الباحثون من استبعاد هذا التفسير أو تأكيده.
أما الطريقة الثالثة الممكنة لإنتاج عينات مستنفدة من الكربون 13 وغنية بالكربون 12 لها أساس بيولوجي.
الكربون على الأرض
على الأرض، يشير التوقيع القوي للكربون 13 المستنفد من السطح القديم إلى الميكروبات السابقة التي استهلكت الميثان.
تقول الدراسة إنه ربما كان المريخ القديم يحتوي على أعمدة كبيرة من الميثان تم إطلاقها من باطن الأرض حيث كان إنتاج الميثان موجوداً بقوة. بعد ذلك، يمكن أن تستهلك الميكروبات السطحية غاز الميثان المنطلق أو يتفاعل مع الضوء فوق البنفسجي ويترسب مباشرة على السطح.
ومع ذلك، وفقًا للباحثين، لا يوجد حالياً أي دليل رسوبي على وجود ميكروبات سطحية على كوكب المريخ، وبالتالي فإن التفسير البيولوجي يحتاج إلى تأكيدات أخرى ومزيداً من البيانات لمعرفة أي من التفسيرات الثلاثة هو التفسير الصحيح.
ويشير الباحثون إلى أن العثور على بقايا ميكروبية أو دليل على رواسب جليدية يمكن أيضاً أن يُرجح كفة أحد التفسيرات لكنهم يؤكدون ضرورة "توخي الحذر أثناء التفسير.. فالحذر هو أفضل مسار عند دراسة عالم آخر".