قناديل البحر "قادرة على التعلم" دون دماغ مركزي

قنديل البحر القمري (مع الحلقات) وقنديل البحر اللاسع (من الداخل أصفر برتقالي) وسط مجموعة من عدة آلاف تسبح قبالة سيجلفيك في شمال النرويج. 11 سبتمبر 2023 - AFP
قنديل البحر القمري (مع الحلقات) وقنديل البحر اللاسع (من الداخل أصفر برتقالي) وسط مجموعة من عدة آلاف تسبح قبالة سيجلفيك في شمال النرويج. 11 سبتمبر 2023 - AFP
القاهرة-محمد منصور

أفادت دراسة حديثة أعدها باحثون بجامعة كوبنهاجن في الدنمارك، أن قنديل البحر يُمكن أن يتعلم على مستوى أكثر تعقيداً بكثير مما كان يتصور سابقاً، على الرغم من امتلاكه عدد قليل للغاية من الخلايا العصبية يصل إلى حوالي 1000 خلية فقط، مقارنة بـ100 مليار خلية عصبية عند البشر، كما أنه لا يمتلك دماغاً مركزياً على الإطلاق. 

ولا تُعيد نتائج الدراسة الجديدة، تشكيل فهم العلماء للتعلم فحسب، بل تقدم أيضاً رؤى مثيرة بشأن تطور الجهاز العصبي. 

كيف نتعلم؟

التعلم عملية مُعقدة للغاية، عند البشر وغيرهم من الحيوانات، وفي قلب عملية التعلم من الناحية البيولوجية تحدث تغييرات داخل الشبكات العصبية في الدماغ.

ولأن اللبنات الأساسية للجهاز العصبي هي الخلايا العصبية، تتواصل ملايين من تلك الخلايا مع بعضها البعض من خلال هياكل تسمى المشابك العصبية، وغالباً ما يتضمن التعلم تغييرات في قوة وكفاءة الاتصالات المتشابكة، ثم تبدأ الخلايا في إعادة تنظيم نفسها من خلال تكوين روابط عصبية جديدة بالمرونة العصبية تتولى تقوية المشابك العصبية، أو إضعافها، من أجل تثبيت المعلومات وتشفيرها، أو محوها. 

وتلعب الرسل الكيميائية التي تسمى الناقلات العصبية دوراً حاسماً في التعلم، فعندما تتواصل الخلايا العصبية عبر المشابك العصبية، يتم إطلاق الناقلات العصبية التي تؤثر على توازن وتوافر الناقلات العصبية، مثل الدوبامين والسيروتونين والجلوتامات، وتحث عملية التعلم والتحفيز.

بعد ذلك يتم تخزين الذكريات في أجزاء مختلفة من الدماغ المركزية، بما في ذلك الحصين والقشرة، وتتضمن عملية تعزيز الذاكرة تقوية الروابط العصبية، ما يسهل استرجاع المعلومات لاحقاً. 

كيف يمكن لقناديل البحر التعلم؟ 

تتمتع قناديل البحر، بتاريخ تطوري طويل وتعتبر من أقدم الحيوانات التي ظهرت على الأرض، ويصعب تحديد التوقيت الدقيق لظهورها بدقة بسبب السجل الأحفوري المحدود للكائنات الرخوة.

ويقدر العلماء أن الكائنات المجوفة، والتي تشمل قنديل البحر، ظهرت خلال فترة ما قبل العصر الكمبري المتأخر، والتي تمتد من حوالي 541 إلى 1000 مليون سنة.

وتنتمي قناديل البحر إلى مجموعة من الحيوانات القديمة البسيطة المعروفة باسم اللاسعات، ولا تشمل هذه المجموعة قناديل البحر فحسب، بل أيضاً الشعاب المرجانية وشقائق النعمان البحرية والهيدرات.

وتتميز اللاسعات بخلاياها اللاذعة المتخصصة التي تسمى الخلايا اللاسعة، والتي تستخدمها لالتقاط الفريسة والدفاع. 

وعلى عكس العديد من الحيوانات، بما في ذلك البشر، لا تمتلك قناديل البحر دماغاً مركزياً بالطريقة التي نتصور بها الدماغ عادةً. إذ لديها نظام عصبي بسيط نسبياً يتكون من شبكة فضفاضة من الخلايا العصبية، تُعرف أيضاً باسم الشبكة العصبية.

وتنتشر هذه الشبكة العصبية في جميع أنحاء الجسم، وتتركز بشكل أساسي في الطبقة الخارجية من الجلد وهياكلها المتخصصة التي تسمى "الروباليا".

وعلى الرغم من أن قناديل البحر لا تحتوي على دماغ بالمعنى التقليدي، إلا أنها تحتوي على العقد، وهي مجموعات من الخلايا العصبية، في الروباليا الخاصة بها. تساعد هذه العقد في تنسيق وظائف وسلوكيات معينة، مثل السباحة والاستجابة للمنبهات. وتعتبر الروباليا ضرورية للإدراك الحسي، إذ تعمل كمراكز حسية وحركية. 

وكما كان يعتقد العلماء، تعتمد قنديل البحر في المقام الأول على ردود الفعل والاستجابات البسيطة للمنبهات، مثل اللمس أو الضوء، ما يمكنها من إظهار السلوكيات الأساسية مثل السباحة، واللسع استجابةً للاتصال بالفريسة أو الحيوانات المفترسة، والتوجه في بيئتها. 

ولطالما تحدت قناديل البحر فهم العلماء للأدمغة والجهاز العصبي لأنها تفتقر إلى أدمغة مركزية ولكنها تظهر سلوكيات معينة وقدرات تعليمية محددة، إذ توفر أنظمتها العصبية اللامركزية البسيطة نظرة ثاقبة لتنوع الهياكل العصبية في جميع أنحاء المملكة الحيوانية، وتثير تساؤلات إزاء المبادئ الأساسية للتعلم والإدراك.  

في البحث الجديد درس عالم الأحياء العصبية في جامعة كوبنهاجن، أندرس جارم، قناديل البحر الصندوقية، وهي مجموعة من قناديل البحر معروفة بكونها من بين أكثر المخلوقات السامة في العالم، طيلة 10 سنوات كاملة. 

أشكال التعلم

وقال جارم: "كان من المفترض في السابق أن قناديل البحر يمكنها فقط إدارة أبسط أشكال التعلم، بما في ذلك التعود، أي القدرة على التعود على تحفيز معين، مثل الصوت المستمر أو اللمس المستمر. الآن، نرى أن قناديل البحر لديها قدرة أكبر بكثير على التعلم".  

وكان الأمر الأكثر إثارة للدهشة، بحسب الدراسة المنشورة في دورية "كارنت بيولوجي"، أن تلك القناديل قادرة على تحسين قدرتها على التعلم، والتعلم من أخطائها وتعديل سلوكها. 

وقنديل البحر الصندوقي فئة من قناديل البحر معروفة بأنها من أكثر الحيوانات السامة في العالم، يستخدم سمه لصيد الأسماك والروبيان الكبير كما يتغذى على مجدافيات الأرجل الصغيرة. 

وشأنه شأن القناديل الأخرى، لا يمتلك قنديل البحر الصندوقي دماغاً مركزياً مثل معظم الحيوانات، بدلاً من ذلك، لديه 4 هياكل متوازية تشبه الدماغ، تحتوي كل منها على ما يقرب من 1000 خلية عصبية. 

ويمتلك قنديل البحر الصندوقي 24 عيناً موزعة على هياكله الأربعة التي تشبه الدماغ. بعض هذه العيون تشكل صورة، ما يوفر لقناديل البحر الصندوقية رؤية أكثر تعقيداً من الأنواع الأخرى من قناديل البحر، وكي يسبح قنديل البحر الصندوقي بين أشجار المنجروف، تنظر 4 من أعينه إلى أعلى عبر سطح الماء. 

تلاعب بسلوك القناديل

وتابع الباحثون أحد أصغر أنواع قناديل البحر الصندوقية يبلغ قطر جسمها حوالي سنتيمتر واحد فقط، وتعيش في البحر الكاريبي ووسط المحيطين الهندي والهادئ، وعلى عكس العديد من أنواع قناديل البحر، فإن ذلك النوع المعروف باسم Tripedalia Cystophora يتزاوج عبر التقاط الذكر الأنثى بمخالبه. يتم بعد ذلك تخصيب بيض الأنثى في نظامها الهضمي، ثم تتطور إلى يرقات. 

وكرر الباحثون ظروف مستنقعات المنجروف في المختبر، إذ تم وضع قنديل البحر الصندوقي في ساحة سلوكية. بهدف التلاعب بسلوك قناديل البحر عن طريق تغيير ظروف التباين لمعرفة تأثير ذلك عليها، والمقصود بالتباين هو مدى قتامة الجذر بالنسبة للماء. ويستخدم قنديل البحر تلك الخاصية لتقييم المسافات إلى الجذور، ما يسمح لها بالسباحة بعيداً في اللحظة المناسبة تماماً، فعندما يقترب قنديل البحر الصندوقي الصغير من جذور المنجروف، يستدير ويسبح بعيداً، وإذا انحرف في وقت مبكر جداً، فلن يكون لديه الوقت الكافي للعثور على فريسته من مجدافيات الأرجل. وإذا تأخر كثيراً، فإنه يخاطر بالاصطدام بالجذر وإصابة أجسامه الجيلاتينية. وبالتالي، فإن تقييم المسافات أمر بالغ الأهمية بالنسبة لها.  

داخل أروقة المعمل، وتماماً في الوقت المناسب، تعلمت قناديل البحر تفادي الجذور المصطنعة التي تُشبه المنجروف بعد سلاسل من المناورات الفاشلة وقد أظهرت التجارب السلوكية، أن 3 إلى 5 مناورات مراوغة فاشلة كافية لتغيير سلوك قنديل البحر بحيث لا يصل إلى الجذور. 

وذكر عالم الأحياء العصبية في الجامعة أندرس جارم، أن ذلك المعدل هو تقريباً نفس معدل التكرار الذي تحتاجه ذبابة الفاكهة أو الفئران لتغيير السلوك. وتم التحقق من التعلم بشكل أكبر من خلال الفيزيولوجيا الكهربية، والتي أظهرت أيضاً مكان حدوث التعلم في الجهاز العصبي لقنديل البحر. 

ذاكرة التعلم

وذكر جارم أن بداية كل يوم جديد من الصيد تتعلم قناديل البحر الصندوقية من التباينات الحالية من خلال الجمع بين الانطباعات البصرية والأحاسيس أثناء مناورات المراوغة التي تفشل، لذا، وعلى الرغم من وجود 1000 خلية عصبية فقط يمكن لتلك القناديل ربط التقاربات الزمنية للانطباعات المختلفة وتعلم الاتصال أو ما نسميه التعلم الترابطي.  

ومن المثير للاهتمام أن قنديل البحر الصندوقي لا يعتمد على طريقة حسية واحدة للتعلم، فهي تجمع بين المحفزات البصرية والميكانيكية أثناء التكييف الفعال. وهذا يعني أن عملية التعلم الخاصة بهم تتضمن دمج المعلومات من القنوات الحسية المختلفة. وهو ما يكشف معلومات عن قدرة قنديل البحر على معالجة الإشارات البيئية والاستجابة لها، حتى في ظل غياب دماغ مركزي. 

وتلغي نتائج البحث التصورات العلمية السابقة بشأن قدرة الحيوانات ذات الأجهزة العصبية البسيطة على التعلم. 

وبالنسبة لعلم الأعصاب الأساسي، يعد هذا خبراً كبيراً جداً على حد قول جارم. فهو يوفر منظوراً جديداً بشأن ما يمكن فعله بنظام عصبي بسيط. مشيراً إلى أن التعلم المتقدم ربما كان أحد أهم الفوائد التطورية للجهاز العصبي منذ البداية. 

وربما يكون التأثير الأكثر عمقاً لهذا الاكتشاف هو التحدي الذي يشكله للاعتقاد التقليدي بأن الكائنات الحية ذات الدوائر العصبية المعقدة هي وحدها القادرة على المشاركة في التعلم الترابطي، لكن قناديل البحر الصندوقية، بأجهزتها العصبية البسيطة نسبياً، ستؤدي إلى إعادة تقييم هذه الفكرة.  

وتشير الدراسة إلى أن القدرة على التعلم، التي كانت تعتبر في السابق سمة مميزة للكائنات الحية المتقدمة، قد تكون أكثر انتشاراً في المملكة الحيوانية مما كان يعتقد العلماء. 

ويأمل العلماء أن يتمكنوا من تحديد الآليات الدقيقة التي تساهم في عملية التعلم عند قناديل البحر. كما يأملون أيضاً في تحديد الخلايا القادرة على تخزين المعلومات واستدعائها وتكوين الذاكرة اللازمة والضرورية لنجاح عملية التعلم. 

تصنيفات

قصص قد تهمك