في محاولة لتحليل تأثير موجات الحر على حياة الإنسان، سلطت دراسة جديدة الضوء على الخسائر الناجمة عن ارتفاع درجات الحرارة على مدى العقود الثلاثة الماضية، وتحديداً في الفترة من 1990 إلى عام 2019.
وتُمثّل الدراسة التي نُشرت في مجلة "بلوس ميديسن" PLOS Medicine، أول خريطة عالمية على الإطلاق للوفيات المرتبطة بموجات الحر، ويقدّم لمحة واقعية عن الأزمة التي تفاقمت بسبب تغير المناخ.
وكشفت الدراسة التي قادتها جامعة موناش الأسترالية أن أكثر من 153 ألف حالة وفاة إضافية لكل موسم دافئ كانت مرتبطة بموجات الحر، وأن ما يقرب من نصف هذا العدد سُجّل في قارة آسيا وحدها.
تأثير موجات الحر على الصحة
وتُسبب موجات الحر تأثيراً متعدد الأوجه على الصحة العامة، بما في ذلك مجموعة من العواقب الضارة.
ويمكن أن يؤدي التعرض لفترات طويلة لدرجات الحرارة المرتفعة إلى أمراض، مثل "الإجهاد الحراري، والتشنجات الحرارية، وضربة الشمس"، مع أعراض تشمل "التعرق الزائد، والدوخة، والغثيان"، وفي الحالات الشديدة "فشل الأعضاء، أو فقدان الوعي".
وعلاوة على ذلك، تؤدي موجات الحر إلى تفاقم الحالات الصحية المزمنة الموجودة مسبقاً مثل أمراض القلب والأوعية الدموية، وأمراض الجهاز التنفسي، والسكري، واضطرابات الكلى، ما يؤدي إلى تفاقم الأعراض، وزيادة خطر حدوث مضاعفات.
ويُعد الجفاف، واختلال توازن الكهارل (الإلكتروليت) أمراً شائعاً، وينجم عن زيادة فقدان السوائل من خلال التعرق، والذي يمكن أن يظهر على شكل تعب وارتباك، وفي الحالات الشديدة، حالات الطوارئ الطبية المرتبطة بالحرارة.
ويعتبر الكهرل (الإلكتروليت) أساسياً للجسم لتوازن العمليات الحيوية مثل التفاعلات الكيميائية في الجسم والحفاظ على توازن السوائل داخل الخلايا وخارجها، وقد تكون أحد الأساليب التشخيصية للعديد من الأمراض والحالات الصحية.
وقد تتفاقم مشكلات الجهاز التنفسي المرتبطة بالحرارة بسبب سوء نوعية الهواء الذي يتفاقم بسبب ارتفاع درجات الحرارة، ما يزيد من خطر الإصابة بنوبات الربو، وتفاقم مرض الانسداد الرئوي المزمن، والتهابات الجهاز التنفسي.
ويزداد الضغط على القلب والأوعية الدموية، ما يؤدي إلى زيادة معدل ضربات القلب، وضغط الدم، وعبء العمل على القلب، وبالتالي زيادة احتمال حدوث أزمات القلب والأوعية الدموية مثل النوبات القلبية، والسكتات الدماغية.
ويواجه السكان، وخاصة كبار السن، والأطفال، والعاملين في الهواء الطلق، وأولئك الذين يعانون من ظروف صحية سابقة، مخاطر متزايدة للوفاة المرتبطة بالحرارة، وخاصة بسبب ضربة الشمس إذا لم يتم تلقّي رعاية طبية فورية.كما تتأثر الصحة النفسية أيضاً، إذ تتسبب موجات الحر في زيادة التوتر، والقلق، واضطرابات النوم، والضعف الإدراكي والاكتئاب.
وبشكل عام، تؤكد الآثار الصحية لموجات الحر الحاجة الملحّة إلى تدخلات شاملة في مجال الصحة العامة، واستراتيجيات الاستعداد لحالات الطوارئ، ومبادرات التخطيط الحضري، وجهود التوعية المجتمعية لحماية الفئات السكانية الضعيفة، والتخفيف من الآثار الضارة للحرارة الشديدة.
ارتفاع درجات الحرارة
وتكشف مقارنة درجات الحرارة السطحية العالمية بين (1850-1990)، و(2013-2022) عن زيادة مذهلة قدرها 1.14 درجة مئوية، وهو ارتفاع يُعزى في الغالب إلى الأنشطة البشرية مثل انبعاثات الغازات الدفيئة.
ومن المتوقع أن يستمر هذا الاتجاه، حيث تشير التقديرات إلى زيادة أخرى في درجة الحرارة بمقدار (0.41-3.41) درجة مئوية بحلول عام (2081-2100).
ومع ارتفاع درجات الحرارة، يشهد العالم ارتفاعاً موازياً في حدوث موجات الحر وشدتها وحجمها، ما يؤدي إلى تضخيم التحديات الملحّة بالفعل التي يفرضها تغير المناخ.
وأصبحت موجات الحر، التي تُعرف بأنها فترات طويلة من الطقس الحار المفرط، أكثر تواتراً وشدة بسبب ارتفاع درجة حرارة المناخ، ومع ارتفاع درجات الحرارة، ترتفع أيضاً معدلات الإصابة بالأمراض المرتبطة بالحرارة، والوفيات المرتبطة بها، إضافة إلى الاضطرابات المجتمعية.
ومع تزايد تأثيرات تغير المناخ، تتزايد موجات الحر ليس فقط من حيث تواترها، بل أيضاً من حيث شدتها وحجمها.
وخلال الفترة (1990-2019)، أدّت موجات الحر إلى زيادة في الوفيات بمقدار 236 حالة وفاة لكل 10 ملايين شخص في كل موسم دافئ من السنة، بحسب الدراسة التي شاركت فيها جامعة شاندونج في الصين، وكلية لندن للصحة والطب الاستوائي في المملكة المتحدة، وجامعات ومعاهد بحثية من بلدان أخرى.
وتحدد الدراسة المناطق الأكثر عُرضة للوفيات المرتبطة بموجات الحر، بما في ذلك جنوب وشرق أوروبا، والمناطق ذات المناخ القطبي وجبال الألب، والمناطق ذات الدخل المرتفع.
وعلى العكس من ذلك، شهدت المواقع ذات المناخ الاستوائي أو ذات الدخل المنخفض، نسبة أقل في عبء الوفيات المرتبطة بموجات الحر، ما يسلط الضوء على التفاعل المعقد بين العوامل الاجتماعية والاقتصادية، والخصائص الجغرافية، والتعرض لموجات الحر.
وشدد الباحثون على الحاجة إلى تخطيط التكيف المحلي، وإدارة المخاطر على جميع المستويات الحكومية، مؤكدين على أهمية التدخلات المستهدفة للتخفيف من الآثار السلبية لموجات الحر، بما في ذلك تدابير الصحة العامة، وتحسين البنية التحتية، ومبادرات قدرة المجتمع على الصمود.
عواقب وخيمة
ويمكن أن يكون لموجات الحر عواقب وخيمة على النظم البيئية، ما يؤدي إلى فقدان التنوع البيولوجي، وتدهور الموائل، وتعطيل العمليات البيئية.
ويشير مصطلح تدمير الموائل إلى عملية تغيير استخدام الأراضي، ما يؤدي إلى إزالة ما تشمله من موائل واستبدالها بنوع آخر، وتحتّم هذه العملية إلى القضاء على النباتات والحيوانات التي كانت تستخدم الموقع سابقاً، ما يضر بالتنوع البيولوجي، بحسب لجنة الأمم المتحدة الاقتصادية والاجتماعية لغرب آسيا (الاسكوا).
وتضغط الحرارة الشديدة على أعداد النباتات والحيوانات، ما يؤدي إلى انخفاض الإنتاجية، وتغيير توزيع الأنواع، وزيادة التعرض لتفشي الأمراض والأنواع الغازية.
وتتردد أصداء هذه الاضطرابات البيئية عبر الشبكات الغذائية والنظم الإيكولوجية، ما يشكل تحديات أمام جهود الحفظ والإدارة المستدامة للموارد.
وبالإضافة إلى التأثيرات الصحية والبيئية، تؤثر موجات الحر على النظم الاجتماعية والاقتصادية، مع تداعيات على الزراعة، والطلب على الطاقة، والبنية التحتية، وإنتاجية العمل.
ويمكن أن يؤدي فشل المحاصيل، وخسائر الماشية، ونُدرة المياه الناجمة عن موجات الحرارة الشديدة إلى تعريض الأمن الغذائي وسبل العيش للخطر، لا سيما في المناطق الضعيفة التي تعاني بالفعل من الفقر والقيود المفروضة على الموارد.
كما تسبب هذه الموجات زيادة في استهلاك الطاقة لأغراض التبريد، ما يُجهد الشبكات الكهربائية، ويؤدي إلى تفاقم انعدام أمن الطاقة، والمساهمة في انبعاثات الغازات الدفيئة.
ونوَّهت الدراسة بأن التصدي للتهديد المتصاعد المتمثل في موجات الحر، يتطلب اتخاذ إجراءات متضافرة على المستويات المحلية، والوطنية، والعالمية.
وشددت على أنه ينبغي أن تعطي جهود التخفيف الأولوية للأهداف الطموحة لخفض الانبعاثات، والانتقال إلى مصادر الطاقة المتجددة، وتعزيز كفاءة الطاقة، وتفعيل ممارسات الاستخدام المستدام للأراضي.