البوسنة والهرسك.. "دعوات انفصالية" تقلق أوروبا

time reading iconدقائق القراءة - 12
جانب من العرض العسكري الذي أقامته جمهورية صربسكا. 9 يناير 2022. - AFP
جانب من العرض العسكري الذي أقامته جمهورية صربسكا. 9 يناير 2022. - AFP
دبي - آية نادر

في وقت تتجه الأنظار إلى شرق أوروبا وتحديداً نحو الأزمة مع أوكرانيا، إلا أن بوادر أزمة جديدة - متجددة تلوح في الأفق، ولكن هذه المرة في جنوب شرقي القارة العجوز، وتحديداً في البوسنة والهرسك. 

وتجلت آخر مظاهر الأزمة، بإدانة الاتحاد الأوروبي الاثنين، الاحتفالات بالذكرى الثلاثين لتأسيس جمهورية صربسكا (كيان صرب البوسنة)، والتي شملت عرضاً عسكرياً، معتبراً أنها "استفزازية ومثيرة للانقسام".

وجاء في بيان صادر عن المتحدث باسم الشؤون الخارجية للاتحاد الأوروبي بيتر ستانو ونقلته وكالة "فرانس برس"، أن التكتّل "يدين بشدة الخطاب السلبي والاستفزازي والمثير للانقسام الذي لجأت إليه قيادة جمهورية صربسكا خلال الاحتفالات".

وشدد على أن مثل هذه الخطوات "تزيد من تفاقم الأزمة السياسية الحالية"، فهي "لا تتماشى" مع دستور البوسنة والهرسك، و"تتعارض تماماً مع الهدف المعلن للبلاد للانضمام إلى الاتحاد الأوروبي على المدى الطويل".

وأضاف البيان أن "قيادة جمهورية صربسكا يجب أن تساعد في وضع حد لتوجه مقلق من الكراهية والتعصب... يجب أن يشمل ذلك وضع حد لتمجيد مجرمي الحرب وإنكار جرائمهم أو الإشادة بها"، وذلك في إشارة إلى مذبحة "سريبرينيتسا" التي وقعت بين 11 و22 يوليو 1995، وراح ضحيتها الآلاف من الرجال والصبية المسلمين على يد قوات صرب البوسنة، وأدين زعماؤهم في ما بعد بارتكاب جرائم حرب، واعترف المجتمع الدولي بالمذبحة على أنها "إبادة جماعية".

احتجاج رسمي

وفي ردود الفعل على ذكرى التأسيس، أرسلت وزير خارجية البوسنة والهرسك بيسيرا توركوفيتش، رسالة احتجاج رسمية لكل من السفارة الصينية والروسية والصربية، لإيفادهم ممثلين عنهم إلى الاحتفال.

واعتبرت توركوفيتش، أن مشاركة المسؤولين في هذه الاحتفالات بلغ حد "التدخل الجسيم في الشؤون الداخلية"، وفقاً لما نقلته وكالة "الأناضول" التركية. وأرفقت وزيرة الخارجية الاحتجاج بقرار المحكمة الدستورية الذي اعتبر أن الاحتفال بذكرى تأسيس صربسكا، يمكن أن يكون تمييزاً ضد الجماعات العرقية الأخرى في البلاد (الكروات والبوشناق).

ونددت وزيرة الخارجية بهذه الخطوة، التي اعتبرت أنها يمكن أن تضر علاقات هذه الدول الودية مع البوسنة والهرسك.

ويعتبر صرب البوسنة يوم 9 يناير أهم عطلة في ولايتهم. وعلى رغم أن قرارات المحكمة الدستورية ملزمة قانوناً، إلا أن الصرب في جمهورية صربسكا أقروا بأغلبية ساحقة في سبتمبر 2016، استفتاءاً بشأن عطلة وطنية في هذا اليوم، في تحدٍ لأعلى محكمة في البلاد. 

دعوات الانفصال

وكما أثارت الاحتفالات الغضب، أججت التشريعات التي قدمها ميلوراد دوديك، الزعيم الصربي في رئاسة البوسنة المكونة من ثلاثة أشخاص، وهو النظام الذي أرساه اتفاق "دايتون" الذي أنهى الحرب عام 1995، التوترات، وأثارت غضب الولايات المتحدة التي فرضت في يناير الجاري عليه عقوبات مالية، واتهمته بـ"زعزعة الاستقرار" في شبه جزيرة البلقان. 

كما منعت وزارة الخارجية مسؤولين حاليين وسابقين من البوسنة والهرسك من دخول الولايات المتحدة، مستهدفة ميلان تيجلتيجا، الرئيس السابق للمجلس القضائي الأعلى، وميرساد كوكيتش، النائب ورئيس حركة العمل الديمقراطي.

ومن شأن تشريعات دوديك الذي يحظى بدعم ضمني من روسيا وحلفائه في صربيا، فصل جمهورية صربسكا عن المؤسسات المشتركة للدولة، مثل القوات المسلحة والهيئات القضائية. وكان يدعو منذ سنوات إلى فصل الدولة الصربية البوسنية الصغيرة، لتنضم إلى صربيا المجاورة.

"دافع للنضال"

ورداً على العقوبات، قال دوديك، إنه عوقب مرة أخرى لكنه لا يعرف سبب ذلك، وأضاف لوكالة أنباء صرب البوسنة، إن الولايات المتحدة تتهمه بالفساد، رغم عدم وجود أي إجراءات جنائية ضده.

ولفت إلى أنه لم يطعن في النظام الدستوري في البوسنة أو استقرارها بأي شكل من الأشكال، مضيفاً أنه "إذا اعتقدوا أنهم سيعاقبونني بهذه الطريقة، فهم مخطئون للغاية. ليس لدي الآن سوى دافع للنضال من أجل الحقوق التي انتزعت منا لمدة 26 عاماً".

تصعيد الحملة

وصعّد دوديك حملته خصوصاً بعدما سن المندوب السابق المراقب لتطبيق اتفاق السلام، فالنتين إنزكو، قانوناً في يوليو 2021 الماضي، يمكن أن يعاقب بالسجن لمدة خمس سنوات أي شخص ينكر ارتكاب الإبادة الجماعية.

وتعهد دوديك في 8 أكتوبر، بأن يعلن برلمان جمهورية صربسكا إنشاء جيش خاص به، وهيئة ضرائب، ووكالة استخبارات، وهدد بالسيطرة على ثكنات الجيش البوسني الواقعة في جمهورية صربسكا، بمجرد تشكيل جيش صرب البوسنة.

وقال دوديك إنه إذا حاول الغرب التدخل، فسوف يتصل بـ"أصدقاء" صرب البوسنة للحصول على المساعدة، في إشارة إلى صربيا وروسيا، وفقاً لوكالة "أسوشييتد برس"، كما قال لصحيفة "جارديان" إن العقوبات وتقليص تمويل الاتحاد الأوروبي، "سيجبره على قبول عروض الاستثمار من الصين"، مستعملاً الأزمة الأوروبية مع الصين كورقة ضغط.

وكان وزير الخارجية الأميركي حذر  في نوفمبر من العام الماضي، من اتخاذ مزيد من الإجراءات، مشدداً على أن خطوات تقويض المؤسسات البوسنية ستعرض "المنظور الأوروبي" لبلد البلقان للخطر - في إشارة إلى انضمامها المأمول إلى الاتحاد الأوروبي - وانتعاشها الاقتصادي واستثماراتها الأجنبية.

من جانبه، أشار الممثل الأعلى للاتحاد الأوروبي جوزيب بوريل، إلى وقوف الاتحاد الأوروبي إلى جانب البوسنة والهرسك "ذات السيادة الواحدة، وإلى جانب جميع مواطني البوسنة والهرسك الذين سئموا الفساد ويتطلعون إلى محاسبة القادة".

خطر انهيار اتفاق "ديلتون"

ودفعت هذه المواقف، بالمندوب الجديد المراقب لتطبيق اتفاق "ديلتون" للسلام، كريستيان شميدت، إلى التحذير من أن الاتفاق الذي وقع في 1995 وأنهى الحرب، معرض لخطر الانهيار، ما لم يتم اتخاذ إجراءات لمنع "الانفصاليين" الصرب من الدفع باتجاه تحقيق مرادهم.

وفي تقرير له، حذر الممثل الأعلى شميدت من أكبر أزمة "وجودية" منذ الحرب، قائلاً إن "احتمالات المزيد من الانقسام والصراع حقيقية للغاية" في البوسنة والهرسك، التي من شأنها "تقويض قدرة الدولة على العمل والاضطلاع بمسؤولياتها الدستورية".

وكان من المقرر أن يقدم شميدت التحذير في إيجاز لمجلس الأمن التابع للأمم المتحدة في نوفمبر من العام الماضي، لكن المجلس قال إن حضوره ألغي بسبب معارضة روسيا، التي لا تعترف بالمنصب.

وهددت روسيا أيضاً باستخدام حق النقض ضد قرار تمديد عملية قوة الاتحاد الأوروبي في البوسنة والهرسك (يوفور)، وهي انتشار عسكري في البلاد للإشراف على التنفيذ "اتفاق دايتون"، ما لم تتم إزالة جميع ملاحظات الممثل الأعلى للبوسنة.

وأثناء جلسة مجلس الأمن ذاتها، اتهم سفير روسيا لدى الأمم المتحدة فاسيلي نيبينزيا زملاءه الغربيين باتخاذ "موقف رافض" تجاه سيادة البوسنة والهرسك. وقال نيبينزيا للمجلس، إن بلاده ترى في تعيين الممثل الأعلى "انتهاكاً للقانون الدولي".

وقال إنه كان هناك "عدم رغبة من قبل الاتحاد الأوروبي في الخروج من صورة الوصي على البوسنة والهرسك، الذي له الحق في أن يملي على البوسنيين كيفية بناء دولتهم وحكم بلادهم".

وضع متأزم

وفي السياق، قال يانيس كوتسوميتيس المحلل في الشؤون الأوروبية في تصريحات لـ"الشرق"، إن "الوضع في البلاد متزعزع. منذ استقلال البلاد، لم تفعل المجتمعات الثلاثة (الصرب والكروات والبوشناق) سوى القليل جداً لدعم المؤسسات الفيدرالية، وزرعت انعدام الثقة".

وأضاف، أن "المفارقة الآن تكمن في أن الدولة الفيدرالية الصربية هي المحرض الرئيسي على عدم الاستقرار في البلاد".

واستبعد كوتسوميتيس تطور الأحداث للوصول إلى حرب أهلية جديدة تعيد ذكريات الماضي، مشيراً إلى أنه "لا يوجد أي طرف من الأطراف المعنية معني بمواجهة عسكرية. السؤال الرئيسي هو ما إذا كان الغرب سيسمح أو يتسامح مع جمهورية صربسكا الانفصالية التي ستكون لها علاقات قوية مع روسيا".

"تورط روسي"

وأشار المحلل إلى وجود "مؤشرات قوية على أن روسيا متورطة بطريقة ما"، موضحاً أن موسكو اعتبرت تقسيم يوغوسلافيا "ضربة لمصالحها الوطنية ومجال نفوذها في المنطقة"، ولكنه استبعد "تورطاً عسكرياً مباشراً من قبل روسيا، ما لم تتعرض جمهورية صربسكا لتهديد مباشر".

وبيّن أن من المحتمل أن يعتمد دوديك على بعض الدعم الاقتصادي، والكثير من الدعم السياسي من موسكو.

وبشأن دور الاتحاد الأوروبي، قال كوتسوميتيس إنه لا يتمتع بمساحة كبيرة للمناورة، خصوصاً أنه لا يملك الوسائل لـ "إقناع" صرب البوسنة بعدم التحرك، نظراً إلى أن سياسة الاتحاد الأوروبي تجاه البلاد استندت على الحوافز المالية والاقتصادية".

إدارتان وثلاث رؤساء

ولا تعد التوترات في البوسنة والهرسك وليدة الأيام الماضية، بل تمتد إلى ما قبل الحرب عام 1992 التي انطلقت بعد تفكك يوغوسلافيا. 

وحاول صرب البوسنة حينها، بمساعدة الجيش اليوغوسلافي، إنشاء مناطق عرقية بهدف الانضمام إلى صربيا المجاورة. في الوقت نفسه، أعلن الكروات البوسنيون أيضاً منطقتهم الخاصة بدعم من كرواتيا.

ودارت الحرب بين البوشناق ومعظمهم من المسلمين، والصرب الذين ينتمون إلى المسيحية الأرثوذوكسية، والكروات الكاثوليك، ما أدى إلى سقوط أكثر من 100 ألف ضحية، وتشريد الملايين.

وبعد مذبحة "سريبرينيتشا"، توسطت الولايات المتحدة لإنهاء الحرب، ليتم توقيع اتفاقية "دايتون" التي أنهت الحرب في هذا البلد.

وبموجب الاتفاقية تم إنشاء وحدتين إداريتين داخل البلاد، جمهورية صربسكا التي يهيمن عليها الصرب، واتحاد البوسنة والهرسك. وتم منح الكيانين بعض الاستقلالية، مع وجود حكومة جامعة، يخضع فيها الجيش والقضاء الأعلى والمخابرات وإدارة الضرائب، لمؤسسات على مستوى الدولة. كما انتهى الأمر برئاسة من ثلاثة أعضاء يمثلون المجموعات العرقية الثلاث. كذلك تم إنشاء مكتب المندوب المراقب لتطبيق اتفاق السلام، ليكون بمثابة حكم بشأن تنفيذ الجزء المدني من اتفاق السلام.

تصنيفات