
مع تلاشي غبار التدريبات العسكرية التي أجرتها الصين حول تايوان، "تبدو الرسالة واضحة"، وفقاً لما أفادت به وكالة "رويترز"، التي رأت أن "الجيش الصيني سيدعم مطالب سيادة بكين على الجزيرة، في تحدٍّ للولايات المتحدة من شأنه أن يبقي على التوتر ويزيد من مخاطر المواجهة".
وفشلت الصين في منع رئيسة مجلس النواب الأميركي نانسي بيلوسي من زيارة تايوان، التي تتمتع بالحكم الديمقراطي، الأسبوع الماضي، لكنها قالت إن الزيارة "دمرت أساس الثقة السياسية" بين أكبر اقتصادين في العالم، فيما اعتبر محللون استطلعت "رويترز" آراءهم أن رحلة بيلوسي أدت أيضاً على الأرجح إلى حدوث تحول في الحسابات العسكرية للصين.
"الوحدة قسراً"
وقال تشاو تونج، الباحث في مجال الأمن في "مؤسسة كارنيجي للسلام الدولي" لوكالة "رويترز" إن "هذه الأزمة عززت وجهة نظر في الصين تقول إن الوحدة مع تايوان ربما لا يمكن تحقيقها إلا من خلال الوسائل القسرية".
تجدر الإشارة إلى أن الصين ردت فوراً على زيارة بيلوسي بإجراء أكبر تدريبات عسكرية لها على الإطلاق حول تايوان. كما تدرّب جيش التحرير الشعبي الصيني لأول مرة على عمليات تهدف إلى حصار الجزيرة، وهي خطوة ربما تكون الأولى على طريق القيام بغزو.
ولأول مرة أيضاً، حلقت صواريخ فوق الجزيرة وعبرت السفن الخط الفاصل غير الرسمي الذي يقسم مضيق تايوان، والذي حددته الولايات المتحدة في الخمسينيات، لكن بكين لم تعترف به رسمياً أبداً.
وتوقع محللون أمنيون أن تواظب القوات الصينية، لا سيما البحرية، على تسيير دوريات مكثفة حول تايوان، والدفع باتجاه الخط الفاصل وبسط هيمنة طويلة الأمد على الممر المائي.
وحتى قبل التدريبات، كانت الصين تقول إن لها حق السيادة على المضيق، الذي تقول الولايات المتحدة وتايوان إنه ممر مائي دولي.
"بكين تفرض ما تقول"
"أظهرت الصين أن لديها القوة التي تمكنها من فرض ما تقوله، وأن ما تقوله ليس مجرد مواقف دبلوماسية فارغة"، قال وانج كون يي، الذي يرأس "جمعية تايوان للدراسات الاستراتيجية الدولية" لوكالة "رويترز".
وأضاف: "لقد غيّرت التدريبات الوضع القائم بمضيق تايوان، الذي حدده الأميركيون في الأصل، ننتظر لنرى ما إذا كان الأميركيون سيتخذون أي إجراء لإعادة هذا الوضع إلى ما كان عليه".
وكان البيت الأبيض رفض فرض أي وضع جديد، وتعهد بأنه سيعبر المضيق جوياً وبحرياً في الأسابيع المقبلة، فيما تقول حكومة تايوان إنه بما أن جمهورية الصين الشعبية لم تحكم الجزيرة قط، فلا يحق لها المطالبة بها أو تقرير مستقبلها.
"التوحيد السلمي"
مع انتهاء التدريبات، الأربعاء، أصدرت الصين أول تقرير حكومي لها عن تايوان منذ عام 2000، مؤكدة من جديد تفضيلها "لإعادة التوحيد السلمي" مع الجزيرة، لكنها تراجعت عن تعهدها بعدم نشر قوات في تايوان بعد توليها السيطرة.
وعلى الرغم من أن تأكيد الصين على التوحيد السلمي مع تايوان يُظهر أنها لا تخطط لغزو وشيك، إلا أن تعليق بعض قنوات الاتصالات العسكرية بعد زيارة بيلوسي، أضعف وسائل منع نشوب صراع غير مقصود مع الولايات المتحدة، ما زاد من المخاطر العسكرية طويلة الأمد.
وقال شي ين هونج، أستاذ العلاقات الدولية في "جامعة رينمين" لـ"رويترز" إن "المواجهة بين الصين والولايات المتحدة ستنتقل إلى مستوى أعلى".
وأضاف: "لا يزال الصراع المتعمد مستبعداً، لكن قرار الصين بتعليق الاتصالات العسكرية جعل بالتأكيد منع الاشتباك العارض أكثر صعوبة".
واحتجاجاً على زيارة بيلوسي، علقت الصين أيضاً التعاون مع الولايات المتحدة في مجالات تشمل تغير المناخ وعمليات مكافحة المخدرات، وأعلنت عقوبات غير محددة ضد بيلوسي وأفراد أسرتها.
استغلال المشاعر الوطنية
التدريبات وردود الفعل الصارمة التي صدرت عن بعض الدبلوماسيين الصينيين، أثارت المشاعر الوطنية مع دخول العديد من المواطنين على الإنترنت للدعوة إلى "إعادة توحيد الوطن الأم".
لكن مطلعين على الساحة السياسية ومثقفين أقل اندفاعاً يقولون إنه لا يوجد خطر حقيقي من أن يدفع نداء شعبي الرئيس الصيني إلى اتخاذ خطوة صوب تايوان قبل أن يكون مستعداً.
وقال أحد المطلعين على السياسة الصينية، طالباً عدم نشر اسمه، لـ"رويترز: "قد يستغل القادة الصينيون مشاعر الشعب الوطنية لتبرير قراراتهم السياسية والضغط على دول أخرى، لكن لا يمكن أن يحدث العكس، وهو أن تشكل مشاعر الشعب ضغوطاً على زعيم (البلاد) فيتصرف بتهور.. استخدام القوة ضد تايوان ليس أفضل حل الآن".
ومما يعكس القيمة الاقتصادية لتايوان، فرض الصين بعض القيود على الواردات الزراعية من الجزيرة، لكنها تجنبت فرضها على الأجهزة الإلكترونية، ما يشير إلى أن الإجراءات التجارية رمزية إلى حد بعيد.
ووفقاً لحسابات "رويترز" المستندة إلى بيانات الجمارك الصينية، شكلت الفواكه (الحمضيات)، والأسماك الطازجة والمجمدة المدرجة في قائمة الحظر التجاري لبكين 0.01% فقط من إجمالي واردات الصين من الجزيرة في عام 2021.
ولم يهتم شعب تايوان كثيراً بتحذيرات المسؤولين في بكين، واستهزأ برسائل المتسللين الإلكترونيين الذين احتجوا على زيارة بيلوسي التي بُثت على شاشات العرض في المتاجر ومحطات السكك الحديدية.
وقال محللون إن تهديدات الصين "تأتي بنتائج عكسية" في كسب القلوب والعقول.
ودفع النهج المتشدد الذي اتبعته بكين خلال الانتخابات الرئاسية في تايوان عامي 2000 و2020 الناخبين باتجاه مرشحين مثل تشين شوي بيان وتساي إينج وين اللذين تعتبرهما الصين من مؤيدي الاستقلال.
وقالت إليسا تشينج (28 عاماً)، التي تعمل بمجال الإعلانات في تايوان لـ"رويترز"، إن الناس ممن هم في عمرها يشكون في أن الصين ستغزو تايوان "لكن إذا حدث ذلك حقاً، فسنكون مثل هونج كونج. ستأكلنا الصين".
"عملية ردع"
في السياق ذاته اعتبرت صحيفة "فاينانشال تايمز" أن المناورات تكشف عن عملية ردع مكتملة الأركان.
ونقلت الصحيفة عن رودريك لي، مدير الأبحاث في "معهد دراسات الفضاء الصينية"، وهو مركز بحثي تابع للقوات الجوية الأميركية، قوله إن "هناك سردية مفادها أن ما يفعلونه (الصين) يشير بقوة إما إلى توحيد تايوان أو حصارها".
وأضاف: "لكن، في الغالب جميع الرسائل التي عمد جيش التحرير الشعبي إلى إيصالها من خلال هذه العملية تقع بامتياز تحت بند ما يسمونه نشاط الردع".
ووفقاً لـ"استراتيجية الدفاع" التي تتبناهها بكين، فإن جيش التحرير الشعبي مستعد للقيام ببعض "التحركات الهجومية للدفاع في مواجهة التهديدات المتصورة"، لكنه يسعى، في الوقت ذاته، إلى "السيطرة على مخاطر التصعيد". ويميز جيش التحرير الشعبي بجلاء هذه العمليات عن الأنشطة التي يتعين عليه القيام بها وقت الحرب.
واعتبرت الصحيفة أن معظم المناورات التي قام بها الجيش الصيني حول تايوان تندرج تحت بند "خيارات لنشاط الردع" في الكتاب الدراسي الصادر عن جامعة الدفاع الوطني الصينية لعام 2020، بما في ذلك "إظهار أسلحة جديدة أثناء التدريبات، والتغييرات في توزيع القوات، إضافة إلى التحركات العسكرية المقيدة لتطويق الخصم".
وقال مسؤولون دفاعيون من تايوان، وخبراء أميركيون للصحيفة إن بكين نفذت "عدداً من التدابير لتلبية هذه المعايير"، إذ أغلقت 7 مناطق للتدريب بالذخيرة الحية، ما أدى إلى إغلاق بعض مسارات الطيران وممرات الشحن الأكثر ازدحاماً في المنطقة، كما نقل الجيش معدات عسكرية حول الصين، وأطلق صاروخ "بي إتش إل 60"، وهو نظام مدفعية صاروخية ثقيلة تم الكشف عنه في عرض عسكري منذ 5 سنوات فقط، ووزع صوراً لأحدث مقاتلة شبحية صينية تقلع في الليل.
"رسائل غرس الخوف"
وعلاوة على ما تقدم أعلاه، يدعو دليل الردع الخاص إلى "بعث رسائل قوية لغرس الخوف من الحرب في نفوس الخصوم"، وهي الأداة التي تم استخدامها على نحو صارخ في التدريبات الأخيرة.
وقالت الصحيفة: "على مدى مرات عدة في اليوم، نشرت قيادة المسرح الشرقي، التابعة لجيش التحرير الشعبي، مقاطع فيديو وصوراً لمقاتلين، وبوارج حربية، وصواريخ، ووصفت نشاطها باعتباره تدريباً لشن هجوم على تايوان، أو منع القوات الأميركية من الوصول إلى المنطقة".
وأرفقت الحكومة ووسائل الإعلام الرسمية وكبار المحللين هذه الجهود بالدعاية، التي بررت ما أقدمت عليه الصين من نشاط عسكري في المنطقة، ودعت إلى إجراء المزيد، وعمدت إلى تشويه صورة تايوان والولايات المتحدة.
وقال رودريك لي: "بالطبع من المفيد لهم أن يقوموا بكل شيء في آن واحد ومكان واحد، وأن يفسحوا المجال أمام طياريهم للقيام بعمليات في المنطقة ذات الصلة بشن هجوم على تايوان، وبوتيرة عملياتية متسارعة، وفي بيئة تفرض ضغوطاً أكبر على القيادة وسيطرة أكثر من المعتاد".
وفي إشارة إلى التدريبات المنتظمة على مستوى الوحدات، والتي تركز على الهبوط البرمائي، أشار لي إلى أن "التدريبات واسعة النطاق الي يجريها جيش التحرير الشعبي في كل صيف تقدم الكثير لإعدادهم لمحاربة تايوان".
وعلى الرغم من ذلك، تستلهم تايبيه الدروس من هذه القصة، فمن بين الممارسات التي جذبت بقوة انتباه المسؤولين الدفاعيين في تايوان كان استخدام الصينيين جزيرة بينجتان، قبالة البر الرئيسي، في الجزء الأكثر ضيقاً من مضيق تايوان، مسرحاً لإطلاق صواريخ "بي إش إل 16".
ونقلت "فاينانشال تايمز" عن أحد مستشاري وزارة الدفاع التايوانية قوله: "إنهم (الصينيين) يلمحون إلى أنهم يستطيعون ضرب تايوان مباشرة من الشاطئ".
وأضاف: "كنا على علم بذلك من قبل، أما الآن، فقد أخرجوا أسلحتهم من مستودعاتها".
وتابع: "يعني ذلك أن استراتيجيتنا للدفاع عن الشواطئ ربما عفا عليها الزمن، إذ إن استخدام هذا (النظام المتعدد لإطلاق الصواريخ) سيمنحهم وسيلة أرخص ثمناً وأكثر فاعلية من الصواريخ التي تضرب وحدات القوات البرية المتفرقة التي نمركزها للتصدي لقوات الإنزال".
اقرأ أيضاً: