اختار القائمون على "مركز بومبيدو" في العاصمة الفرنسية باريس، الروسي فاسيلي كاندينسكي (1866-1944) موضوعاً للمعرض الافتراضي الأول الذي ينظّم حالياً بالتعاون مع مؤسسة "غوغل فنون وثقافة".
ويتميز كاندينسكي، بأنه سعى طوال حياته ونجح في خلق عالم تشكيلي وروحي غير مفهوم الفن وممارسته بطريقة لا سابق لها، ووضع تأملات نظرية تتجاوز الإطار المحدد لفن الرسم في كتب وأبحاث لا تزال مرجعية حتى الآن.
وتأتي أهمية المعرض الافتراضي من كون أن أعمال كاندينسكي وتداعياتها على الفن عموماً، وعلى الحركات التجريدية خصوصاً، معروفة، لكن الإنسان الذي يقف خلفها لم يحظ بعد بالمعرفة نفسها.
ويسمح المعرض، بفضل رقمنة معظم لوحاته ورسومه والوثائق الغزيرة التي تركها خلفه (صور فوتوغرافية، مراسلات، دفاتر...)، بالاطلاع ملياً عليها، وأيضاً بمشاركته أسفاره واكتشاف اللقاءات التي طبعت حياته والتعمّق، لمن يرغب، في موهبة "الحسّ المتزامن" التي امتلكها وسمحت له بتشريك الأصوات والألوان والأشكال. باختصار، عناصر جوهرية لفهم إنجازات هذا العملاق وعبقريته.
أقسام ومراحل
المعرض يتكون من 3 أقسام، الأول عبارة عن مونوغرافيا تجمع مراسلات كاندينسكي ومخطوطاته وصوراً فوتوغرافية، بعضها يُعرض للمرة الأولى، ووثائق تم وضعها في سياقها الخاص وجمعها بطريقة موضوعية (موسيقى، أسفار، علاقات...)، وتعيد بالتالي خط حياة صاحبها من بداياته في روسيا وحتى ممارسته التعليم في مدرسة "باوهاوس"، ما يسهّل الولوج إلى عالمه وحميميته.
القسم الثاني، عبارة عن "غاليري جَيْب" يسمح بتأمّل أبرز أعمال الفنان التي تعرض بدورها ضمن ترتيب موضوعي، فتكشف تطوّر عمله التشكيلي من بداياته التعبيرية إلى التجريد الهندسي الصافي الذي ابتكره، مروراً بسنواته الباريسية، وتسمح تقنيات "التنقيب" التي ابتكرتها "غوغل"، بالغوص في كل واحدة من اللوحات المعروضة.
القسم الثالث من المعرض، هو الأكثر طموحاً لأنه يدعو إلى تجربة تفاعلية مع الفنان تتيح استكشاف موهبة "الحس المتزامن" التي امتلكها، أي القدرة على إدراك متعدّد الحواس، إذ إن كاندينسكي حين كان يعمل على لوحة، كانت تنشط داخله حاسّتان هما البصر والسمع، ولذلك كان قادراً على ترجمة الألوان والأشكال إلى أصوات، وعلى تحويل التناغمات والارتجاجات الصوتية إلى خطوط وتشكيلات هندسية. وفي هذا الجزء من المعرض، يمكن استكشاف لوحته الشهيرة "أصفر ــ أحمر ــ أزرق" موسيقياً عبر النقر على أي جزء منها وتكبيره، ومن خلال ذلك، اكتشاف الروابط التي أرساها الفنان بين الموسيقى والخطوط والألوان.
سيرة وأعمال
ويوفّر المعرض معطيات نقدية ضرورية لفهم مسيرة كاندينسكي الفنية وإنجازاته، تظهر على الشاشة بالتتابع لمرافقة مختلف مراحل الغوص البصري المقترح في عمله، ويتبين منها أن الفنان الراحل دخل التاريخ بابتكاره التجريد الهندسي وتسجيله من خلاله قطيعة راديكالية مع كل ما سبقه.
ولتسجيل هذه القطيعة، كان على كاندينسكي أن يكتشف عام 1896 سلسلة اللوحات التي رسمها كلود مونيه تحت عنوان "حُزَم التبن"، وهو اكتشاف أحدث زلزالاً بداخله لأنه لم يكن قادراً على التعرّف في هذه الأعمال إلى ما أراد مونيه تمثيله، وبالنتيجة، لأن "الأشياء فقدت قيمتها كعناصر أساسية في اللوحة"، على حد قوله، ما دفعه إلى التخلي عن مهنة التعليم الجامعي والتوجه إلى ميونيخ لدراسة الفن في أكاديمية الفنون الجميلة، وبعد فترة قصيرة، لا تلبث لوحة وضعها بالخطأ عقباً على رأس في محترفه، ولم يتمكن من التعرّف إلى أشكالها، أن تجعله يقتنع بأن الأساسي يكمن أبعد من الواقع.
وخلال سنوات دراسته الفن، بلور كاندينسكي جمالية "البقعة الملوّنة" في لوحات مستوحاة من الفولكلور والفن الشعبي الروسيين، لكن خيبته من النظام التعليمي للفن في ألمانيا دفعته للترحال داخل أوروبا، قبل استقراره في مدينة مورنو عام 1908 وينطلق في الرسم داخل الطبيعة المحيطة بها التي أوحت مناظرها له بألوان لوحاته.
نظريات وألوان
في عام 1912، أصدر كاندينسكي بحثه الشهير "روحانية في الفن، وفي الرسم تحديداً" الذي استقى فيه من ممارسته الفنية نظريات لامعة تندرج إلى حد كبير في سياق ثقافي باطني وعلمي، وتدين بالتالي لحقبته التي كانت مفتونة بظواهر التجسيد والإشعاع ونقل الأحاسيس، ومن أبرز هذه النظريات، نظرية تناغم الألوان التي استخلصها من مقاربته الشعرية والذاتية للفن، وتقوم على 6 تنويعات: الأزرق، الأخضر، الأصفر، البرتقالي، الأحمر والبنفسجي.
*هذا المحتوى من موقع "إندبندنت عربية".