
تتصدر العلاقة مع الصين أجندة العلاقات الخارجية للمتنافسين على زعامة حزب المحافظين ورئاسة الحكومة البريطانية المقبلة، عقب انتهاء حقبة رئيس الوزراء بوريس جونسون في سبتمبر المقبل.
وخلال المقابلات التي جرت مع المرشحين والمناظرات التي جمعتهُما أمام ملايين البريطانيين، بدا الأمر وكأن كلاً من وزيرة الخارجية ليز تروس ووزير الخزانة السابق ريشي سوناك، يريد إثبات نيته وقدرته على المضي أكثر من الآخر ضد بكين.
لكن تروس وسوناك كانا جزءاً من حكومة عاشت سجالاً مع البرلمان منذ 2021، بسبب عدم وضوح رؤيتها تجاه بكين.
وتريد تروس أن تستعين بدول "الكومنولوث" لمواجهة الصين، فتصبح "بريطانيا العالمية" التي ينادي بها المحافظون حصناً منيعاً ضد النفوذ الصيني.
أما سوناك فلم يعد يُريد التفريق بين برامج الثقافة واللغة لبكين وممارساتها التي تُهدد الأمن والاقتصاد، فهذه البرامج برأيه هي حوامل الطموحات الصينية غير المشروعة حول العالم.
والنتيجة مفادها ظاهرياً أن بريطانيا سواء قادها سوناك أو تروس بعد الخامس من سبتمبر المقبل، ستُعلن القطيعة مع شريك تجاري مهم جداً، وتبدأ حالة "حرب" ضده غير محددة المآلات.
وأعلنت حكومة جونسون الصين تهديداً صريحاً للنظام الدولي، وتبنت بكل وضوح موقف الولايات المتحدة في التعامل مع هذا التهديد أمنياً وسياسياً، لكن على الرغم من ذلك حاولت الإبقاء على شعرة معاوية في العلاقة مع بكين، وخاصة في المجالات الاقتصادية.
ولا يتوقع الخبراء أن يتغير الموقف كثيراً أياً كان الساكن الجديد للمنزل رقم 10 في داوننيج ستريت بلندن، إلا إن تفجر في العالم صراع جديد عنوانه الصين وتايوان هذه المرة.
مخاوف وتحديات
وقالت حكومة جونسون رداً على مساءلة برلمانية منتصف الشهر الماضي، إن العلاقات مع الصين شهدت "مرحلة ذهبية" بين 2015 و2016 في عهد ديفيد كاميرون، إلا أنها تدهورت خلال الأعوام القليلة الماضية بسبب مخاوف أمنية وسياسية.
وتفاقمت المخاوف الأمنية للمملكة المتحدة بعد عمليات تجسس نفذتها جهات صينية فاعلة، وانخراط شركة هوواي الصينية في تركيب الجيل الخامس للإنترنت بالبلاد. بالإضافة لسيطرة الشركات الصينية على شركات تكنولوجية تتخذ من المملكة المتحدة مقراً، مثل "Newport Wafer Fab"، أكبر شركة لتصنيع الرقائق الإلكترونية في البلاد التي اشترتها شركة "Nexperia" المملوكة لبكين في عام 2021.
كما أعربت بريطانيا عن قلقها إزاء أوضاع حقوق الإنسان في الصين، مشيرة إلى تضعضع مبدأ "نظامان في دولة واحدة" الذي كانت تتعامل به بكين مع هونج كونج، بعد تدخل الصين ضد التظاهرات المناوئة للسلطة في الإقليم، إضافة لما تتعرض له أقلية الإيجور المسلمة في إقليم شينجيانغ.
وعلى الرغم من كل هذه الحيثيات، إلا أن سياسة لندن تجاه بكين لن تتغير أياً كان الفائز بزعامة حزب المحافظين، وذلك لأن أسباب الخصومة مع الصين لم تتغير، وفقاً للدبلوماسي والمتحدث السابق باسم الحكومة البريطانية جيرارد راسل.
وأضاف راسل لـ"الشرق"، أن الصين لن تكون أكثر التحديات الخارجية أهمية بالنسبة للحكومة المقبلة، ولكنها ستكون الأكثر تعقيداً وصعوبة في تحديد الخطوات المقبلة للتعامل مع نفوذ الصين الكبير داخلياً وعلى مستوى العالم.
وتابع: "الصين شريك تجاري مهم للمملكة المتحدة، وفي الوقت ذاته تُمثل تهديداً حقيقياً للنظام الدولي. وهنا تكمن صعوبة اتخاذ الخطوات التي تُحقق معادلة الاستفادة من بكين اقتصادياً، وردعها على المستوى السياسي والأمني عالمياً. وهذه هي المعادلة التي كانت قائمة في عهد حكومة جونسون".
الموقف الأميركي
في السادس من يوليو 2022، اجتمع قادة أجهزة الاستخبارات في بريطانيا والولايات المتحدة لبحث التهديد الصيني، وأقروا بأنه يُحيط بالشركات الغربية ولا يلحظه حتى رجال الأعمال المحنكين.
وأكد رئيس جهاز الاستخبارات البريطانية "MI5"، كين مالكوم، أن "بكين متورطة في محاولات شراء التكنولوجيا والذكاء الصناعي وتطوير المنتجات بشكل غير قانوني، من خلال السرقة والتجسس والهجمات الإلكترونية".
ولفت مالكوم إلى أن جهاز "MI5" ضاعف جهوده ضد النشاط الصيني المثير للقلق في الفترة الأخيرة، إذ يُجري اليوم 7 أضعاف التحقيقات في التهديدات الصينية مقارنة بعام 2018.
واستند اللقاء الأمني البريطاني الأميركي إلى مراجعة أمنية ودفاعية أجرتها حكومة جونسون قبل أكثر من عام، واعتبرت فيها الصين "منافساً ممنهجاً".
ولأن لندن تعتبر النفوذ المتنامي للصين عالمياً من أبرز التحديات التي تُواجه المملكة المتحدة خارجياً على كافة المستويات، وضعت حكومة جونسون حينها رؤيتها لمواجهة هذا التحدي حتى 2030، كما أقرت جملة من الخطوات التي لابد من تنفيذها قبل 2025.
وأوضحت تلك المراجعة الأمنية أن بريطانيا تحتاج للتعامل مع الصين في بعض القضايا الدولية مثل المناخ، كما أنه من الأفضل أن تُواصل العلاقات التجارية معها، وبالتالي لابد من بذل مزيد من الجهود لفهم الصينيين شعباً وحكومة، وفي الوقت ذاته تعزيز الاستعداد لمواجهة الخطر الصيني، بمعنى "الإمساك بالعصا من المنتصف".
لكن لجنة العلاقات الخارجية البريطانية في البرلمان انتقدت خلال سبتمبر 2021 المراجعة الحكومية بشأن الصين، وقالت إنها ليست واضحة في إجراءات الحفاظ على التوزان بين العلاقات الجيدة مع بكين ومواجهة التهديدات التي تُشكلها على أمن واقتصاد المملكة المتحدة في الوقت ذاته.
وفي المقابل قدمت الحكومة مزيداً من التوضيح لسياستها نهاية العام الماضي، لكن يبدو أنه لم يكن مُقنعاً للبرلمان، فعاد السجال ثانية مطلع العام واستمر حتى فبراير 2022، ثم توقف لأشهر بسبب الحرب الأوكرانية، وها هو اليوم يحضر ثانية.
مطالبات بالقطيعة
يرى الأكاديمي والباحث في العلاقات الدولية، الدكتور أحمد عجاج، أن لجنة الشؤون الخارجية بالبرلمان البريطاني لن تضغط على الحكومة المقبلة لاتخاذ مواقف تصعيدية ضد الصين، بينما سيبقى العامل الحاسم في رسم ملامح العلاقة بين البلدين خلال الفترة المقبلة هو التوجه الأميركي في التعامل مع النفوذ الصيني عالمياً.
وقال عجاج لـ"الشرق"، إن السياسة البريطانية إزاء الصين تتماهى مع موقف الولايات المتحدة حالياً، فالمملكة المتحدة لم تعد تمتلك ذات التأثير الدولي الذي كانت تتمتع به عندما كانت ضمن الاتحاد الأوروبي، وحتى الاتحاد نفسه بعد العملية العسكرية الروسية في أوكرانيا، بات أكثر تماهياً وتبعية للسياسة الخارجية الأميركية.
وذكر أن نحو 20 نائباً في البرلمان البريطاني يُشكلون ما يسمى بلجنة الصين يطالبون بقطع العلاقات مع بكين، لكن الحكومة لن تستجيب لهذه الدعوات، إلا إذا كانت في سياق موقف دولي موحد يجمعها مع الولايات المتحدة والدول التي تقف إلى صفهما في هذه المواجهة إن وقعت أصلاً.
وأوضح عجاج أن "بريطانيا والولايات المتحدة تضربان اليوم حصاراً أمنياً وتكنولوجياً على الصين، لكن إن إرادت واشنطن نقل هذا الحصار إلى المستوى الاقتصادي، فإن لندن لن تُعارض ذلك، رغم أنه سيلحق ضرراً ملحوظاً باقتصاد المملكة المتحدة".
كما أن ثمة أولوية في العلاقة مع واشنطن حرصت عليها الحكومات البريطانية المتعاقبة، ولكن هذه الأولوية برأي عجاج، كانت متبادلة بشكل واضح عندما كانت لندن جزءاً من العائلة الأوروبية، ورقما صعباً في السياسة الدولية كما عرفت في زمن مارجريت تاتشر.
جبهة تايوان
خلال القمة التي استضافتها مدريد في يونيو الماضي، أعلن "الناتو" أن الصين تُشكل تهديداً لمصالح وقيم ومبادئ دول الحلف.
وقال البيان الختامي للقمة إن "الصين تعمل على تقويض النظام الدولي وقواعده، منوهاً إلى أن بكين تستخدم مجموعة واسعة من الأدوات السياسية والاقتصادية والعسكرية لزيادة تواجدها العالمي ضمن استراتيجية غير شفافة"، وفق البيان.
ويرى الناتو الذي تمتلك بريطانيا سادس أكبر جيوشه من حيث العدد، أن بكين تلجأ إلى عمليات سيبرانية لنشر معلومات مضللة تضر بأمن التحالف.
كما تسعى الصين عبر أداوت مختلفة إلى التحكم في القطاعات التكنولوجية والصناعية الرئيسية حول العالم، إضافة إلى البنية التحتية الحيوية والمواد الاستراتيجية وسلاسل التوريد.
وربط حلف شمال الأطلسي في خصومته بين الروس والصين في الفترة المقبلة من خلال التحذير من "تآمر" الدولتين معاً على "الناتو" وقيمه، الأمر الذي يستدعي تضافر الجهود ووحدة الصف في مواجهة يصعب حصر ميادينها أو التكهن بجبهاتها. وقبل هذا وذاك، لا يمكن تقدير تداعياتها على بقية دول العالم التي لا ناقة لها فيها ولا جمل.
من وجهة نظر رئيس تحرير الشؤون الخارجية في صحيفة "التايمز"، مايكل بانون، لن يكون هناك تغيّراً في السياسة البريطانية تجاه الصين مع وصول حكومة جديدة إلى "داونينج ستريت"، وخاصة إن ظفرت ليز تروس برئاسة حزب المحافظين في سبتمبر المقبل، فهي وزيرة للخارجية وستواصل ما بدأته في عهد حكومة جونسون.
وأضاف بانون لـ"الشرق"، أن الحكومة البريطانية المقبلة سواء قادها سوناك أو تروس، لن تتخذ خطوات تصعيدية ضد بكين أكثر مما كان قائماً، إلا إذا توترت الأوضاع في تايوان، وشنت الصين هجوماً عسكرياً على الجزيرة. حينها ستواكب الحكومة البريطانية الموقف الأميركي ومواقف حلفائها الغرب إزاء الهجوم الصيني.
وأوضح أن بريطانيا "لن تكون مهتمة باتخاذ إجراءات عسكرية ضد الصين إن غزت تايوان، إنما ستكتفي بخطوات دبلوماسية واقتصادية وسياسية للرد على ذلك بتنسيق مع حلفاء الغرب. ولكن إن وقعت حرب بين بكين وتايبيه ستتأثر العلاقات الاقتصادية بين بريطانيا والصين، وهذا يتعارض مع رؤية المحافظين للعلاقة مع بكين".
وتريد الحكومة البريطانية المقبلة أن تُحافظ على ذلك التوازن في مواجهة التهديدات الأمنية الصينية، وفي ذات الوقت تعزيز العلاقات الاقتصادية مع بكين. ووفقاً لبانون، لن تدعو لندن الصينيين إلى الاستثمار في قطاعات الطاقة والتكنولوجيا والاتصالات، ولكنها تحرص على حضورهم في مجالات أخرى مثل مشاريع البنية التحتية.
وكانت كانت حكومة جونسون تُخطط مطلع هذا العام لفتح مسار المحادثات مع بكين. وطالب وزير الخزانة حينها ريشي سوناك بإحياء القمم التجارية التي كانت تُعقد بين البلدين حتى عام 2019. فالصين ثالث أكبر شريك تجاري للمملكة المتحدة، وقد بلغت التجارة الثنائية بين البلدين أكثر من 93 مليار جنيه استرليني نهاية الربع الأول من 2022، بواقع زيادة بلغت نحو 5 مليارات جنيه مقارنة بذات الفترة من العام الماضي.