لم تتوقّع باريس إلغاء "صفقة القرن"، التي تزوّد بموجبها شركة فرنسية كانبرا بـ12 غواصة تقليدية، لمصلحة شراكة استراتيجية جديدة بين دول حليفة لها، هي الولايات المتحدة وبريطانيا، إضافة إلى أستراليا التي ستحصل على غواصات أميركية تعمل بالدفع النووي.
وتشي ردود الفعل العنيفة لمسؤولين فرنسيين بارزين، بحجم الخسارة التي لحقت ببلدهم، ليس فقط نتيجة "تبخّر" عشرات مليارات الدولارات، بل أيضاً لما يمثّل ذلك من ضربة لمكانة فرنسا في العالم، وموقعها في المعسكر الغربي وحلف شمال الأطلسي (ناتو)، وهيبتها في سوق الأسلحة، التي تشهد تنافساً محموماً. ودفع ذلك صحيفة "لوموند" الفرنسية إلى الحديث عن "أزمة" في العلاقات بين باريس من جهة، وواشنطن ولندن وكانبرا من جهة أخرى.
مقارنة بايدن بترمب
ولعلّ أبلغ دليل على الخيبة الفرنسية، يكمن في مقارنة الرئيس الأميركي، جو بايدن، بسلفه دونالد ترمب، وهذا ما لن يرق للرئيس الديمقراطي، إذ يصرّ على النأي عن كل ما يتصل بخصمه الجمهوري، بما في ذلك شخصيته وسياساته، لا سيّما تعامله مع دول حليفة للولايات المتحدة.
وتحدث وزير الخارجية الفرنسي جان إيف لودريان عن "طعنة في الظهر"، مضيفاً: "أقمنا علاقة مبنية على الثقة مع أستراليا. وهذه الثقة تعرّضت للخيانة.. هذا أمر لا يحدث بين الحلفاء"، علماً أنه كان أبرم "صفقة القرن" بشأن الغواصات مع أستراليا، عندما كان وزيراً للدفاع، في عام 2016، وهي بقيمة 90 مليار دولار أسترالي (66 مليار دولار)، مع مجموعة "نافال جروب" الفرنسية للصناعات الدفاعية.
"تغيير في الحاجة"
وكان لافتاً أن أستراليا والمملكة المتحدة والولايات المتحدة أبلغت المدير العام للوكالة الدولية للطاقة الذرية، رافاييل غروسي، بالاتفاق الثلاثي بشأن الغواصات، "في مرحلة مبكّرة"، كما أعلنت الوكالة، مشيرة إلى أنها "ستتواصل معها بشأن هذه المسألة بما يتماشى مع ولايتها القانونية".
يأتي ذلك فيما أوردت "لوموند" أن باريس "لم تُبلّغ رسمياً" بالأمر، قبل نشر وسائل إعلام معلومات في هذا الصدد.
ونقلت عن رئيس الوزراء الأسترالي، سكوت موريسون، قوله بعد إعلان القرار، في قمة افتراضية مع نظيره البريطاني بوريس جونسون وبايدن، إن ما حدث "ليس تغييراً في الرأي، بل هو تغيير في الحاجة"، مشدداً على أن رفض العرض الأميركي كان مستحيلاً.
وأشار موريسون إلى أنه أبلغ الرئيس الفرنسي، إيمانويل ماكرون، خلال لقائهما في باريس في يونيو الماضي، أن ثمة "مسائل جدية جداً بشأن ما إذا كانت قدرات غواصات تقليدية" ستلبّي الاحتياجات الأمنية الاستراتيجية لأستراليا في منطقة المحيطين، الهندي والهادئ. وأضاف: "هذا يتعلّق بمصلحتنا الاستراتيجية، ومتطلّبات قدرتنا الاستراتيجية، وبيئة استراتيجية متغيّرة، وكان علينا اتخاذ هذا القرار". ويشير بذلك إلى توسيع الصين نفوذها في المنطقة.
خلال هذا اللقاء، وصف ماكرون عقد الغواصات بأنه "ركيزة للشراكة وعلاقة الثقة" بين البلدين، "يعتمد على نقل المعرفة والتكنولوجيا وسيربطنا لعقود". وقبل أسبوعين، أصدر وزيرا الدفاع والخارجية لفرنسا وأستراليا، بياناً مشتركاً شدد على "أهمية برنامج الغواصات في المستقبل".
جرح غزو العراق
وأشارت "لوموند" إلى أن فسخ العقد يثير "مسألة الثقة والموثوقية بين أميركا وفرنسا"، متسائلة: "هل يجب أن نعود إلى حرب العراق (2003)، التي أطلقتها إدارة (الرئيس الأميركي السابق جورج دبليو) بوش، لإيجاد سابقة بالحجم ذاته؟".
وأضافت: "بعد الانسحاب الفوضوي وغير المنسّق من أفغانستان، يُعدّ ذلك أيضاً تحذيراً جديداً للأوروبيين، إذ عليهم بناء سيادتهم الاستراتيجية، لا سيّما في منطقة المحيطين الهندي والهادئ، من خلال اتباع فرنسا".
ورأت "جبهة أنكلو ساكسونية مشتركة ضد الصين، على حساب العلاقة الكلاسيكية عبر الأطلسي"، وتابعت: "هكذا تأكدت حقيقتان واضحتان: تبقى الولايات المتحدة القوة الدافعة للغرب، ولكن على حلفائها الأوروبيين ألا يتوقّعوا أي مزايا أو مجاملات، طالما أن المصالح الحيوية لأميركا تعمل في مكان آخر".
ولفتت الصحيفة إلى أن "الإعلان عن هذه الشراكة الاستراتيجية الجديدة بين الولايات المتحدة والمملكة المتحدة وأستراليا، يبدو بمثابة ضربة كبرى استهدفت شبكة نسجتها الدبلوماسية الفرنسية بشق النفس، في السنوات الأخيرة، في المحيطين الهندي والهادئ". وزادت: "من أجل تجنّب التوترات الصينية - الأميركية، جعلت باريس من تقارب عسكري - صناعي مع كانبرا إحدى الركائز الأولى لاستراتيجيتها الجديدة في المنطقة".
"خداع" ماكرون
صحيفة "سيدني مورنينغ هيرالد" الأسترالية، اعتبرت أن "لدى ماكرون أكثر من أسباب معقولة، للشعور بالغضب والخداع" من كانبرا. وأضافت: "القول إن الفرنسيين غاضبون من اتفاق الدفاع الجديد المفاجئ بين أستراليا والولايات المتحدة والمملكة المتحدة، سيكون أقلّ ممّا ينبغي. بين عشية وضحاها، تحوّلت باريس من اعتبار أستراليا صديقاً وحليفاً، إلى النظر إليها بوصفها دولة لا يمكن الوثوق بها".
وذكّرت الصحيفة بوقوف ماكرون، في عام 2018، على سفينة حربية في قاعدة غاردن آيلاند العسكرية في سيدني، متعهداً بحقبة جديدة من التدخل الفرنسي في المحيطين الهندي والهادئ.
وخلال لقائه موريسون في يونيو، شدد ماكرون على "مدى اعتبار شراكتنا مع أستراليا، في صميم استراتيجية منطقة المحيطين".
ولفتت الصحيفة إلى أن "ما لم يعرفه ماكرون هو أنه قبل 4 أيام استغلّ موريسون لقاءه مع بايدن وجونسون، أثناء قمة مجموعة السبع في كورنوال، لمناقشة خطة سرية للتخلّي عن الغواصات الفرنسية وإبدالها بغواصات تعمل بالطاقة النووية، مستخدمة تكنولوجيا أميركية وبريطانية".
وأضافت أن "مبرّر موريسون لم يكن" أن شركة "نافال جروب" ستفشل في تسليم الغواصات في الوقت المحدد، أو قد تتجاوز الموازنة المرصودة للعقد، ولكن أن "التهديد المتزايد من الصين يعني أن البرنامج يحتاج إلى الثقل الإضافي للجيش الأميركي".
ورجّحت الصحيفة أن تردّ باريس بمراجعة مدى انخراطها في المحيطين، الهندي والهادئ. وتابعت أن الإعلان عن الاتفاق سيعرّض للخطر مفاوضات بشأن اتفاقية للتجارة الحرة بين أستراليا والاتحاد الأوروبي.
"العالم غابة"
وكانت انتقادات في أستراليا، في يناير الماضي، لتكاليف إضافية على العقد، وتأخير في الجدول الزمني لصنع الغواصات، ومسائل أخرى، دفعت بيير إريك بوميليه، الرئيس التنفيذي لمجموعة "نافال جروب"، إلى زيارة أستراليا في فبراير، والامتثال لـ 14 يوماً من الحجر الصحي، تحسّباً لفيروس كورونا المستجد، من أجل طمأنة كانبرا إلى أن المجموعة "ستحافظ على التزاماتها بنسبة 60% من قيمة العقد، التي ستُنفق في أستراليا مع شركاء محليين"، كما قال لصحيفة "لو فيجارو" الفرنسية.
وذكّر بأن الغواصات التي ستُسلّم لأستراليا، تعتمد على أنظمة من إنتاج شركة "لوكهيد مارتن" الأميركية، قائلاً: "يتيح هذا البرنامج للمجموعة دخول بُعد جديد.
للمرة الأولى، سنعمل عن كثب مع شركة دفاعية أميركية عظيمة هي لوكهيد مارتن. وبفضل هذا العقد، باتت نافال جروب أكثر عالمية"، علماً أنها كانت ستوظف ألفي شخص في غضون 10 سنوات، مقارنة بـ 300 الآن، للعمل في المشروع.
المرارة الفرنسية كانت واضحة في تغريدات كتبها جيرار آرو، وهو سفير سابق لباريس في واشنطن، عبّر فيها عن حجم الشرخ الذي أثارته هذه الصفقة، إذ ورد فيها: "العالم غابة. تم تذكير فرنسا للتوّ بهذه الحقيقة المرة، بالطريقة التي طعنتها بها الولايات المتحدة والمملكة المتحدة في ظهرها، في أستراليا. هذه هي الحياة. لا علاقة للأمر بالقدرات (النووية).. كانت فرنسا قادرة على بيع غواصات تعمل بالطاقة النووية". وأضاف: "المثير للدهشة هو أن إدارة بايدن لم تفعل أي شيء لتخفيف الضربة التي كانت توجّهها إلى فرنسا عن عمد".
مجلة "ذي ويك" الهندية تساءلت هل ستؤدي الصفقة الثلاثية إلى تهميش مجموعة "الرباعية" (كواد)، التي تضمّ الولايات المتحدة واليابان وأستراليا والهند، وسيلتقي بايدن قادتها في البيت الأبيض الأسبوع المقبل. واعتبرت أن "الخاسر الحقيقي" من هذه الصفقة ستكون مجموعة "العيون الخمس"، وهي تحالف استخباراتي يضمّ أستراليا وكندا ونيوزيلندا والمملكة المتحدة والولايات المتحدة.
اقرأ أيضاً: