
بالتزامن مع "أزمة الغواصات" مع أستراليا والولايات المتحدة، أعلنت فرنسا السبت، أن وزير الشؤون الخارجية الفرنسية جان إيف لو دريان، اتفق مع نظيره الهندي سوبرامانيام جايشانكار على العمل لترسيخ "نظام دولي تعددي بحق".
ويأتي هذا الإعلان بعد استدعاء فرنسا سفيريها في الولايات المتحدة وأستراليا، بعد فسخ الأخيرة صفقة بعشرات مليارات الدولارات لشراء غواصات فرنسية، لصالح اتفاق شراكة مع واشنطن ولندن بمنطقة المحيطين الهندي والهادئ.
ووصفت باريس قرار أستراليا بأنه "طعنة في الظهر"، في حين اعتبرت أن الرئيس الأميركي جو بايدن اتخذ قراراً "مفاجئاً" على طريقة سلفه دونالد ترمب.
وأضافت الخارجية الفرنسية، في بيان، أن لو دريان وجايشانكار اتفقا أيضاً، خلال اتصال هاتفي، على تعزيز الشراكة الاستراتيجية "استناداً لعلاقة الثقة السياسية بين دولتين كبيرتين تتمتعان بالسيادة في منطقة المحيطين الهندي والهادئ".
وفي ضوء التحرك الدبلوماسي نحو الهند، تُطرح تساؤلات عن الغاية الفرنسية من هذه الخطوة.
تحالفات جديدة
قال الأكاديمي والخبير بالشؤون الفرنسية جان بيير ميليلي في تصريحات لـ"الشرق"، إن فرنسا ترى أنها في حاجة ملحة إلى تقوية كل شراكة ثنائية، بعد تدهور العلاقة مع الولايات المتحدة في الأزمة الأخيرة، مشيراً في الوقت نفسه إلى أن الهند بلد كبير له وزنه في المنطقة، ويمكنه أن يوازي النفوذ الصيني.
أما بالنسبة لمقصد باريس من النظام الدولي التعددي، الذي أعلنت أنها بصدد العمل على بنائه مع الهند، أشار ميليلي لـ"الشرق"، إلى أن النظام التعددي وفق الأجواء السياسية المشحونة في الوقت الحالي، هو "تعبير يشجع بلدان مثل الهند على مد الجسور مع فرنسا خارج المنافسة الأميركية الصينية".
مناكفة فرنسية
الباحث والمحلل السياسي السوري حسام ميرو، يرى في تصريح لـ"الشرق"، أن هامش المناورة بالنسبة لفرنسا "محدود جداً"، إذ من ناحية لا تملك الإمكانيات للتموضع خارج الفلك السياسي الأميركي، ومن ناحية أخرى هي عضو في حلف شمال الأطلسي (الناتو)، الذي تدفع واشنطن معظم تكاليفه.
وأضاف "في ضوء ذلك، من المستبعد أن يخرج الغضب الفرنسي نحو بناء تحالفات جديدة مستقلة عن واشنطن. إلى جانب أن الهند، التي تعد ثالث أكبر دول العالم إنفاقاً على التسليح بعد الولايات المتحدة والصين، لا تستطيع التعويل على فرنسا، وتدرك أنها لن تكون مهمة في نطاقها الإقليمي من دون الدعم الأميركي تحديداً".
وقال ميرو إن "غضب فرنسا يعود لخسارة صفقة كان من المفترض أن تدر عليها أموالاً كثيرة، إلى جانب شعور بالاستياء نتيجة تفضيل أستراليا للولايات المتحدة وبريطانيا. لكن مع ذلك، لا يعدو موقف باريس أكثر من مجرد مناكفة مع واشنطن تُظهر عدم الرضا من تفرد طرف واحد (واشنطن) بالقرار الدولي".
ووصف صفقة الغواصات الأميركية - الأسترالية بأنها "رسالة" تدل على أن إدارة بايدن تُعيد إنتاج سياسة ترمب (أميركا أولاً) لكن بطريقة ناعمة، و"ذلك رغم محاولات بايدن العودة إلى تحالفات بدت أنها تضررت كثيراً في عهد سلفه"، وفق تعبيره.
وفي قراءته للطرح الفرنسي حيال بناء نظام دولي تعددي، أشار ميرو إلى أنه نابع من تصوّر سياسي يرى أن هناك اضطراباً في النظام الدولي، لم يتم إصلاحه منذ انهيار النظام ثنائي القطب بعد تفكك الاتحاد السوفييتي، إذ لم ينشأ حتى الآن نظام متعدد بكتل وازنة.
وأشار ميرو إلى القمة الرباعية "كواد" التي تعتزم واشنطن استضافتها في 24 أكتوبر المقبل، حيث سيلتقي بايدن مع زعماء الهند واليابان وأستراليا، لإعادة تفعيل الحلف الرباعي "كواد"، في وقت تشهد علاقات الدول الأربع تراجعاً مع الصين، التي خاضت العام الماضي مواجهات دامية مع القوات الهندية في الهيمالايا، وعززت أنشطتها قرب جزر تديرها اليابان، وفرضت عقوبات على منتجات أسترالية بعد سلسلة من الخلافات.
وأوضح المحلل السياسي الذي يُقيم في ألمانيا: "ترى الولايات المتحدة في إعادة تفعيل هذا التحالف خطوة مهمة لضمان الأمن القومي في المحيطين الهادئ والهندي، حيث تسعى إلى تطويق الفضاء الجيوسياسي للصين عبر جيرانها الذين لديهم خلافات معها".
وكانت الدول الأربع أجرت في نوفمبر 2020 مناورات بحرية في خليج البنغال وبحر العرب، حيث شاركت فيها أستراليا للمرة الأولى منذ أكثر من عقد.
سياسة المواجهة
من جانبه، يرى المحلل السياسي مصطفى الطوسة، أن تحرك الدبلوماسية الفرنسية تجاه الهند في أوج الخلاف مع الولايات المتحدة وأستراليا وبريطانيا ليس صدفة.
ولفت في حديثه لـ"الشرق"، إلى أن الهدف الأساسي من هذه الخطوة يتمثّل في أن "فرنسا تُريد أن تقول إنها امتصت الصدمة أو ما وصفته بالطعنة في الضهر، بحيث تحاول اليوم أن تُعيد التمركز في منطقة المحيطين الهندي والهادئ عبر التواصل مع حلفاء مهمين مثل الهند".
وقال الطوسة "في إطار استراتيجيتها التي تراهن على السياسة متعددة الأقطاب، على عكس ما تريده الولايات المتحدة وبريطانيا، لا تفضل فرنسا التصادم مع الصين، بل دائماً ما كانت تقول إنها تُفضل التوصل إلى تفاهمات سياسية وعسكرية واقتصادية".
وأضاف: "لذلك قد تتفق مصالح فرنسا والهند في هذا الشأن، إذ من ناحية تعوّل باريس على الثقل السياسي والاقتصادي لنيودلهي، ومن ناحية أخرى لطالما أرادت الأخيرة أن يكون لها كلمة في القضايا الدولية، وهي تُدرك أن هذا لن يتحقق إلا إذا كان العالم يسير وفق نظام متعدد الأقطاب".
وأشار المحلل السياسي المغربي، الذي يُقيم في فرنسا، إلى أن هناك مقاربتان في العالم بخصوص الصين، الأولى أميركية وتريد ممارسة أكبر قدر من الضغط على بكين، ولتحقيق ذلك تطلب واشنطن من حلفائها تطبيق رأيها، من دون أن يكون لهم أي رأي، في حين تُركز المقاربة الأخرى التي تتبناها باريس، على التوصل لتفاهمات وحوار سياسي ودبلوماسي مع الصين.
ويعتقد الطوسة، أن تواصل فرنسا مع الهند، سيكون "مقدمة لمحاولة إقناع دول أخرى في المنطقة لتبني استراتيجيتها، عوضاً عن الذهاب إلى مواجهات عنيفة ومباشرة مع الصين، وربما عسكرية في المستقبل".
تعاون اقتصادي وعسكري
برزت فرنسا في السنوات الأخيرة كواحدة من أقرب الشركاء الاستراتيجيين للهند، إذ يرتبط البلدان بعلاقات وثيقة في المجالات السياسية والاقتصادية والعسكرية.
وبحسب بيانات نشرتها السفارة الهندية في باريس في يوليو الماضي، تُعتبر فرنسا أحد أهم مصادر الاستثمار الأجنبي المباشر في الهند، حيث تحتل المرتبة الحادية عشر بين أكبر المستثمرين الأجانب في الهند، باستثمارات تراكمية بلغت 9.83 مليار دولار أميركي، في الفترة من أبريل 2000 إلى مارس 2021، إلى جانب وجود أكثر من ألف شركة فرنسية تعمل على الأراضي الهندية.
وفي فبراير الماضي، بلغ حجم التجارة الثنائية بين الهند وفرنسا 814.35 مليون يورو، في حين بلغت صادرات الهند إلى فرنسا 491.9 مليون يورو، وتوظف الشركات الفرنسية حوالي 300 ألف شخص في الهند، ويبلغ حجم مبيعاتها أكثر من 20 مليار دولار أميركي، ولديها محفظة استثمارية للأسهم بحد أدنى 19 مليار دولار.
وعلى الصعيد العسكري، وقعت الهند وفرنسا عام 2018 اتفاقية لوجستية عسكرية، تتيح الوصول المتبادل إلى المنشآت العسكرية لكل منهما، وقد اعتبرت نيودلهي أن تلك الاتفاقية توسع الانتشار الهندي الاستراتيجي في المحيط الهندي، وتعزز قدراتها البحرية الشاملة في المنطقة.
كما أبرم البلدان خلال السنوات الماضية العديد من صفقات الأسلحة، أبرزها شراء الهند مجموعة من مقاتلات "رافال" الفرنسية.
وفي أبريل الماضي، أجرت البحريتان الهندية والفرنسية تدريبات ثنائية استمرت 3 أيام، كانت جزءاً من سلسلة التدريبات الثنائية السنوية بين جيشي البلدين، والتي تهدف إلى تعزيز استقرار النظام الأمني البحري في منطقة المحيطين الهندي والهادئ، التي تشهد صراعاً متزايداً على النفوذ بين الهند والصين.