تكشف وثائق ورسائل سرّية، حصلت "المجلة" على نسخ منها، أن الرئيس العراقي صدام حسين بدأ الإعداد لغزو الكويت أغسطس 1990، غداة خروجه من حربه مع إيران بين 1980 و1988.
وأظهرت الوثائق والرسائل، أن صدام عمل على أكثر من مسار: تشكيل مجلس تعاون يضم الأردن واليمن ومصر، خطف الخطاب الفلسطيني والتحالف مع رئيس منظمة التحرير الفلسطينية ياسر عرفات، "تخوين" الرئيس السوري حافظ الأسد، تهدئة مع بعض الدول الخليجية واستضافته القمة العربية في بغداد.
لكن المفاجأة، هي إرسال رسائل سرّية، حمل بعضها عرفات، إلى "المرشد" الإيراني علي خامنئي والرئيس هاشمي رفسنجاني قبل الغزو وبعده، تضمنت تنازلات مفاجئة لطهران، وقوله في رسالة بعثها لرفسنجاني في منتصف أغسطس: "في قرارنا هذا أصبح كل شيء واضحاً، وبذلك تحقق كل ما أردتموه، وما كنتم تركزون عليه".
تتضمن الحلقة الأولى (مجلس التعاون، والوساطة اليمنية بين صدام والأسد، والقمة العربية). فيما تتضمن الحلقة الثانية (نصوص رسائل صدام إلى خامنئي ورفسنجاني.. وقيام عرفات بلعب دور "ساعي البريد" بينهما).
صدام.. "مناورات تصالحية"
ما إن وضعت الحرب العراقية- الإيرانية أوزارها في العام 1988، بقرار "المرشد" الخميني الذي تجرع "كأس السم"، حتى راح الرئيس صدام حسين يُعد العدة لقرار دفع هو وشعب العراق والمنطقة أثماناً باهظة له، وهو غزو الكويت.
"استسلام" إيران، استخدمه صدام للتمهيد لـ"الغزوة" المقبلة. عمل على أكثر من مستوى: إحكام قبضته في العراق، والدخول في حلف رباعي عربي، طمح أن يضم اليمن والأردن ومصر، شن حملة ضد سوريا وخصمه "البعثي" حافظ الأسد، إجراء مناورات تصالحية في الخليج.
أثناء لقائه في نوفمبر عام 1988 مع وفد من المحامين العرب، تجاهل صدام، بحسب ما يكشف محضر الاجتماع الذي وصل إلى الأرشيف الرسمي السوري، إيران وركّز حملته على الأسد، مكرّراً الاتهامات حول موقفه من الحرب العراقية- الإيرانية والوضع في لبنان ومنظمة التحرير الفلسطينية.
وقال: "النظام في سوريا وقف إلى جانب العدو والمحتل الغازي، فلماذا تستبعدون اليمن وتقرّبون سوريا؟ فإذا كان الموضوع يتصل بالشعب والجغرافيا فأنتم لا تقيمون علاقة مع الشعب والجغرافيا وإنما تقيمون علاقة سياسية مع النظام القائم نفسه... هل الناس الذين يحكمون سوريا غيروا تفكيرهم؟ فهذا تفكير وموقف استمر ثماني سنوات (وقوف الأسد مع إيران) وليس أسبوعاً لكي نقول إنها غلطة أو إغراء جن، أليس كذلك؟".
كما بالغ صدام في حديثه عن "عدم التدخل في الشؤون الداخلية". وقال: "مقتنعون بالمبادئ التي أشرنا إليها بعدم التدخل في الشؤون الداخلية وأشرح لكم هذا، إننا إذا بقينا كل واحد منا يتدخل في الشؤون الداخلية للآخرين فسوف يظل الإحساس العام إحساساً بعدم الثقة، وسوف يظل موضوع التدخل في الشؤون الداخلية مسألة اجتهادية، فمن الذي يقول إن صدام على حق أكثر من حافظ الأسد في التدخل في الشؤون الداخلية". ودعا العرب إلى "تجييش الجيوش لمحاربة العراق إذا اعتدى على قطر عربي أو إذا تدخل في شؤونه".
هل كان اجتياح الكويت ناضجاً في ذهنه، فأراد التمويه من خلال حملته على سوريا، وتكراره مرات عدّة رفضه ومقاومة كل شكل من أشكال التدخل من قبل دولة عربية ضد أخرى؟ لماذا دعا لحشد الجيوش لمحاربة العراق إذا قام بالتدخل في شؤون دولة عربية أو إذا اعتدى عليها؟
تكتل إقليمي
في أواخر عام 1988 بدأت مناقشات عراقية- أردنية لإقامة تشكيل إقليمي عربي يضمهما ودولاً عربية أخرى، ووسعت الدولتان هذه المناقشات لتشمل مصر واليمن، واتفقت الدول الأربع على تشكيل "مجلس التعاون العربي". وقفت دمشق طويلاً أمام إعلان الدول الأربع عن إقامة هذا المجلس الذي حاول مؤسسوه إعطاءه طابع التعاون الاقتصادي نظراً إلى الاختلافات السياسية بين الدول الأربع.
هذا التكتل أثار الكثير من الأسئلة، خصوصاً أنه عدا العراق والأردن، ليس هناك رابط جغرافي بين أعضائه، إضافة إلى وجود نزاعات حدودية بين بعض الدول وجيرانها.
ويقول نائب الرئيس السوري عبدالحليم خدام في وثيقة تُحلّل التكتل موجودة في أرشيفه الذي نقله معه إلى باريس في 2005، وحصلت "المجلة" على نصّها: "استبعدنا أن يكون الهدف سوريا أو محاولة عزلها بسبب طبيعة العلاقات بين مصر وسوريا رغم خلافاتهما بعد زيارة (الرئيس أنور) السادات للقدس، فقد نأت كل منهما عن التآمر ضد الأخرى وبقي الخلاف في حدوده السياسية والإعلامية. كما أن علاقات سوريا واليمن جيدة وليس هناك أسباب للخلاف، وعلى عكس ذلك فإن اليمنيين يحفظون لسوريا دورها في مساعدتهم. كما أن العراق يدرك أن التورط مع سوريا مكلف إذا كان التورط عسكرياً بسبب معرفة القيادة العراقية لإمكانياتنا العسكرية وأيضا خوفاً من امتداد إيراني باتجاه بغداد. كان استنتاجنا أن هذا المجلس سيفرز سلسلة من الأزمات في الساحة العربية، فثلاثة من أعضائه لديهم تطلعات باتجاه السعودية والكويت".
التحرك في الحدود الشرقية والجنوبية لسوريا، قوبل بتحرك من الأسد في محاولة لوقف التكتل، في وقت بدأ فيه الاتحاد السوفياتي الدخول في مرحلة الغياب والتفكك. بالفعل جرت لقاءات قمة بين الأسد وقادة الخليج.
ويقول زعيم خليجي: "نحن في الواقع نستغرب الوضع. زارنا (العاهل الأردني الراحل) الملك حسين وهو يأتي إلينا دائماً، في الشهر أحيانا عدة مرات، وكنا قد عرفنا بموضوع التجمع، وانتظرت أن يحدثني عنه فلم يتحدث بكلمة واحدة، واستغربت ذلك، وتساءلت: لماذا لم يطرح الموضوع علينا؟ هم قالوا تجمع اقتصادي بحت، قلنا ماشي الحال".
يتدخل مبعوث الأسد ليقول: "أجبت: الأمر ليس اقتصادياً، ماذا يربط بين العراق واليمن، وبين مصر والعراق، وبين الأردن واليمن؟ ليست هناك عوامل اقتصادية واحدة ولا عوامل جغرافية، هناك أهداف سياسية". وقدّم علي صالح مشروع اتفاق بين صدام والأسد.
في إحدى زيارات الملك حسين إلى دمشق، طرح على الأسد إمكانية دخول سوريا مجلس التعاون العربي فرفض الرئيس السوري، بسبب العلاقة المتوترة مع العراق. وقال: "الوضع العربي يتطلب التجميع لا الشرذمة، أو تشكيل مثل هذه المجالس، فهذا سيؤدي إلى تفكك في الساحة العربية بين مجلس التعاون الخليجي ومجلس التعاون العربي والمجلس المغربي، وهكذا نكون قد أعلنا تفكيك الجامعة العربية".
عندما سأل الأسد، الملك حسين، عن موقف دول الخليج، أجاب: "زرت بعض دول الخليج وتعمدت أن لا يرافقني أحد حتى لا يشكل حرجاً لأحد. في الكويت عاتبنا أمير الكويت الشيخ جابر لأننا نعيش في مستوى معين وهم يرون أنه لا داعي للتنمية ولا للمشاريع". وتابع الملك حسين حملته على دول الخليج التي بدأت تبدي تخوفاً من العراق، و"حاول تطمينها والتأكيد على أن العراق قوة لهذه الدول"، حسب محضر اجتماع الأسد – حسين.
بعد انتهاء زيارة الملك حسين لدمشق، استعرض الأسد مع مستشاريه نتائجها ووصل إلى "قناعة بأن روايته غير صحيحة، لأنها لا تتفق مع رؤيتنا للخلفية التي أدت إلى إنشاء ذلك المجلس. لقد استنتجنا منذ البدء أنه سيكون مشكلة لدول الخليج والتي على ما يبدو أبدت تخوفها وحاول الملك حسين كما قال تطمينها".
كما أن الملك حسين كان قد أبلغ رئيس الوزراء السوري في عمان: "الإخوان في دول الخليج يجتمعون دوريا وعندهم لجان وكل شيء وكذلك دول المغرب تحاول التجمع. أما نحن فلا بد من عمل شيء، إذا استطعنا توحيد جهودنا في هذه المنطقة ما كانوا يستطيعون حشرنا واللعب بنا، لا بد من عمل شيء والاعتماد على النفس، لو كانت العلاقة التي تربطنا مع سوريا هي نفسها التي تربط سوريا والعراق لما تجرأوا أن يعملوا ما يعملونه الآن. أنا تحدثت مع الرئيس حافظ عن التجمع الاقتصادي ومكان سوريا محفوظ وقيادي. لا بد أن نكون حذرين في البداية ونعلن أنه تجمع اقتصادي، هذه الدول تشكل عمقا، لدينا المواد الخام والبشر، مكان سوريا محفوظ وهام".
زائر الليل.. وتوحيد الاستخبارات
في إطار الموقف من السعودية، تكشف وثيقة أن الملك حسين قال للأسد: "في مؤتمر القمة الإسلامي الذي عقد في الكويت ولم يحضره صدام حسين بل حضر نائبه، وفي نهاية المؤتمر، أخذت معي نائب الرئيس العراقي (عزت الدوري) وسألته عن سبب عدم حضور الرئيس صدام حسين إلى الكويت فأجابني نائب الرئيس: أنا شخصياً لم أكن سأحضر. ولما سألته عن السبب قال إن برقية وردتهم من السعودية تطلب أن لا يشارك العراق لأن الرئيس الأسد سوف يحضر، وعلق الملك حسين أنهم لا يريدون اللقاء بين أي قطرين".
ناقشت القيادة السورية، حديث الملك حسين، وتساءل الرئيس الأسد عن أسباب الرسالة التي بعث بها الملك حسين، وما هي مصلحة السعودية في عدم حضور صدام حسين وهي التي كانت قد بذلت جهودا للمصالحة بين القطرين، سوريا والعراق، وكان الاستنتاج أن "الهدف خلق الشكوك بين سوريا والسعودية، وإيجاد المبرر العراقي لعدم زيارة صدام حسين للكويت، لأنه كان يعد لزيارة من نوع آخر وقد تحققت في الثاني من أغسطس 1990"، حسب وثيقة سورية.
بعد اجتياح العراق للكويت أخذت مصر موقفاً معارضاً بشدة للاجتياح. وكشف الرئيس حسني مبارك للأسد في لقاء مغلق، حسب وثيقة سورية، أنه لمس "سوء النية عندما عرض العراقيون والأردنيون إنشاء قوة عسكرية". ويضيف: "فوجئت وقلت لهم: لماذا؟ كما فوجئ الرئيس مبارك بطلب صدام حسين توحيد أجهزة المخابرات في الدول الأربع، فرفض الرئيس مبارك الاقتراح، وقال لنتعاون وننسق، أما توحيد الأجهزة فهذا شيء خطير".
كانت المحاولة السورية الثانية لــ"تفكيك" مجلس التعاون العربي الاتصال مع اليمن العضو في هذا المجلس. فقد توجه خدام مبعوثاً من الأسد، إلى صنعاء بتاريخ 13 سبتمبر 1989، والتقى الرئيس علي عبدالله صالح مرتين. ويقول: "كان اللقاءان وديين وصـريحين، ولمست أن عاملين متناقضين يتحكمان في مواقفه: الأول أنه شريك العراق في الحرب ضد إيران وفي مجلس التعاون العربي وفي محاولة لتطويق السعودية، والثاني أنه قوي الصلة بسوريا وقيادتها التي وقفت مع الثورة اليمنية في أصعب ظروفها وساهمت مرات عديدة في حل خلافاته الدامية مع حكومة عدن بالإضافة إلى الوشائج القوية بين الشعبين اليمني والسوري".
بدأ الحديث بسؤال وجهه الرئيس اليمني عن مؤتمر قمة عدم الانحياز الذي عقد في مطلع سبتمبر في بلجراد، "فأجبته: كان جيداً لولا المجلس الرباعي؟ فتساءل أتقصد سفيرنا محمد الرباعي. فأجبته: كلا المجلس الرباعي، أنتم أقمتم، لا بل أعلنتم، أنه مجلس اقتصادي فتحول إلى محور سياسي. فعقب قائلاً: بالتأكيد سوف يكون سياسياً، لا يوجد في العالم شيء غير سياسي". اللافت، أن علي صالح حاول التوسط بين صدام والأسد وسلّم خدام وثيقة للمصالحة.
*هذا المحتوى من مجلة "المجلة".
اقرأ أيضاً: