المخرج حاتم علي.. رحلة إبداع تنتهي بأزمة قلبية

time reading iconدقائق القراءة - 8
بيروت-رنا نجار

أغمض المخرج السوري حاتم علي (58 عاماً)، صباح الثلاثاء في القاهرة، عينيه اللتين حوّلتا كاميرا الدراما العربية إلى عالم مشحون بالفانتازيا والتاريخ والسيرة الذاتية والهموم الاجتماعية والإنسانية، بجرعات من المتعة الاستثنائية. 

وتوقف قلب ذاك الطفل الذي نزح من الجولان المحتلّ مع عائلته إلى أطراف مخيم اليرموك، حيث عاش طفولة صعبة مرّسته على العنفوان والإصرار ورسمت في خياله "أحلاماً كبيرة" وهو عنوان أحد أهم مسلسلاته الاجتماعية.

لكن للأسف رحل ذاك المخرج الفذّ الذي لاعب الكاميرا ومواقعها وتحولاتها وتطوّراتها خلال 30 سنة من العمل الجاد والممتع، من دون أن يحقق كل أحلامه، خصوصاً العمل الضخم الذي كان يحضر له في مصر عن الحرب العالمية الأولى، والتي تعرف في بلاد الشام بـ"سفربرلك".

دراما تاريخية

وانتهت حياة الشاب الوسيم المقدام الطموح المثقف، صاحب أكثر المسلسلات العربية يقظة في وجدان وذاكرة العرب من "الفصول الأربعة" و"الجوارح" و"الزير سالم" و"التغريبة الفلسطينية" و"ثلاثية الأندلس" و"صقر قريش" و"ملوك الطوائف" و"الملك فاروق" و"عمر" وغيرها، قبل أن يحقق أحلامه ويخرج ما يشبه "التغريبة السورية" التي كان يطمح أن يعالج قضاياها بعد الحرب الطاحنة التي شغلت باله وفكره.

فهو كان يعتبر أن "الدراما السورية وإن نجحت في الخارج، فهي لا تزال تعاني من تلك التغريبة وصعوبة في خلق وطن موازٍ لها"، كما قال في إحدى مقابلاته. وأضاف: "كسوري لن يكون لي وجود بالمعنى الممتلئ للكلمة إلا داخل سوريا وأي وجود آخر سيكون مؤقتاً وعابراً".

ويبدو أن المؤقت صار أبدياً، حيث رحل صاحب مسلسل "سفر" و"صلاح الدين الأيوبي" وهو بعيد عن وطنه الذي حمل نكهاته وروحه معه أينما حلّ وفي كل أعماله، إذ كان يعتبر صناعة الدراما والسينما هي مسؤولية وطنية واجتماعية.

وكانت تؤرق صاحب الأعمال الجريئة مثل "قلم حمرا" مساحات الحرية الضيّقة والرقابات التي يرى أنها "تحدّ من مساحات الإبداع وتقمع المواهب"، بحسب تصريحاته.

حساسية الكاتب والممثل 

وتخرّج حاتم علي عام 1986 في المعهد العالي للفنون المسرحية بدمشق، وخطّ طريقه بداية من مسلسل "دائرة النار" عام 1988 للمخرج هيثم حقي الذي نعاه بتأثر عالٍ كصديق وزميل وتلميذ مميز، ثم عرفه الناس في لوحات كوميدية مع الفنان ياسر العظمة في سلسلة "مرايا".

كان ممثلاً بدرجة عالية، كما كان كاتباً ماهراً للسيناريو والقصص القصيرة. انتقل بعدها إلى ما وراء الكاميرا منذ منتصف تسعينيات القرن الماضي، وتحديداً في عام 1995 مع مسلسل "فارس في المدينة"، فقدم مسلسلات كان أبطالها أكبر منه سناً بكثير وأصحاب خبرات عالية مثل الراحل خالد تاجا والممثل القدير بسام كوسا، لكنه استطاع أن يفرض احترامه من خلال موهبته الفذة وقيادته موقع التصوير بحرفية.

كان حاتم علي "يبحث عن وسيلة للتعبير عن ذاته وتحقيق مشروعه الفني والشخصي، فوجد أن الإخراج أكثر هذه المهن قدرة على تقديم نتاج ثقافي خاص"، بحسب تعبيره في مقابلة مع صحيفة "الجزيرة" السعودية.

أعمال ناضجة

قدّم حاتم علي أعمالاً ناضجة وملفتة تمزج بين المتعة والمعرفة والتسلية والعمق، التي ميّزت أعماله وجعلت كبار الكتّاب في مجال الفن والبحث الاجتماعي والتاريخي يتعاملون معه مثل أحمد حامد في مسلسل "سفر"، والشاعر ممدوح عدوان في "الزير سالم"، والباحث والشاعر الفلسطيني وليد سيف الذي تعاون معه في كثير من أعماله اللامعة والحاضرة في الذاكرة الجماعية العربية مثل "صلاح الدين الأيوبي" و"التغريبة" الفلسطينية الذي يعتبره النقاد من أروع ما قدّمت الدراما السورية في القرن الـ20. 

مساحة كبيرة للإنسان

لكن من أبرز ما ميّز أعمال حاتم علي في مسلسلاته السهلة الممتنعة التي انطبعت في عقول المشاهد، مثل "الفصول الأربعة" و"أحلام كبيرة"، أنه أعطى مساحة كبيرة للفرد وأعطى للإنسان العادي الذي يكدّ ويعمل ويصر على الوصول إلى مبتغاه مهما طال الزمن، أدواراً بطولية.

وهذا النموذج من الأعمال التي كانت تبدو في شكلها بسيطة وتجذب نسب مشاهدة عالية، هي عميقة جداً في مضمونها الذي يحمل همّاً إنسانياً من دون نسيان المتعة. وهي أعمال كانت تبثّ الأمل في نفوس العائلات خصوصاً الفقيرة التي كان التلفزيون وسيلة الترفيه الأهم لديها.

تطوّر تكتيكي

وبين سرعة حركة كاميرته وبطئها، وتطوّر قطاع صناعة الدراما السورية ومن ثم المصرية والخليجية التي كان نجمها أيضاً، استطاع حاتم علي أن يطوّر نفسه وموهبته الفذة وكادراته وألوانه الخاصة ويلحق بركب التكنولوجيا، بما يتوافق مع قصة العمل وطبيعته والمعالجة الدرامية التي ينتهجها.

لذا دخل عالم منصات البثّ الرقمي من بابه الواسع مع مسلسل "أهو دا اللي صار"، الذي يعرض حالياً على منصة "نتفليكس" ويتصدر قائمة المسلسلات الأعلى مشاهدة.

كما خاض غمار السينما وبرز فيلمه "الليل الطويل" الذي تناول الواقع السياسي السوري والعربي المعاصر في المجتمعات العربية، وفاز عنه بجوائز عربية ونال تنويهاً خاصاً من مهرجان "روتردام" للفيلم العربي في عام 2009.

ونال جوائز عدة عن أعماله الدرامية منها ذهبية مهرجان "القاهرة للإعلام العربي" لأفضل مسلسل عن "الملك فاروق" وأفضل مخرج عن ذات المسلسل من نفس المهرجان.

نأي عن الاستعراض

وفي تصريح لـ "الشرق"، قال الكاتب والناقد السوري محمد منصور الذي تابع حاتم علي عن قرب: "جزء أساسي من نجاح حاتم علي كمخرج يرتكز على عنصرين مهمين: الأول دراسته لفن التمثيل في المعهد العالي للفنون المسرحية بدمشق، ومعرفته بشكوى الممثلين من المخرجين وحساسية العلاقة بين الطرفين، والأمر الثاني موهبته في الكتابة الأدبية، حيث بدأ بكتابة القصة القصيرة وهو لا يزل طالباً في المعهد، وأصدر مجموعتين قصصيتين كما كتب المسرحية والمسلسل التلفزيوني".

وأضاف منصور أن ذلك "منح الراحل حساسية الكاتب والممثل معاً في التقاط نبض الشخصيات التي حركها على رقعة الدراما، ثم أضاف عليها رؤية المخرج الذي أحب شخصياته، لكنه كان ينأى بها دائماً عن البطولات المجانية والاستعراض". 

وأكد أن علي "كان مسكوناً بالخوف من الشعاراتية، وهذا ما جعله بارداً أحياناً خوفاً من أن ينجرف نحو الاستعراض الشعاراتي، ولهذا تألق في الدراما الاجتماعي، واجتذبته نصوص دراما الحياة العادية التي لا أحداث كبيرة فيها ولا تحولات عاصفة كما برع في الدراما التاريخية، لكنه ابتعد بها عن التفخيم والتبجيل". مضيفاً: "لو أردنا اختصار مسيرته بمسلسل واحد لكان مسلسل التغريبة الفلسطينية أبلغ اختصار لها".