روسيا.. بوتين يحلم بـ"القوة العظمى".. والشعب: الرفاهية قبل السياسة

time reading iconدقائق القراءة - 8
الرئيس الروسي فلاديمير بوتين. - REUTERS
الرئيس الروسي فلاديمير بوتين. - REUTERS
روستوف - رائد جبر - "الشرق الأوسط"

قد تكون المناورات "النووية" التي أطلقتها القوات الروسية في البحر الأسود، السبت، حملت رسائل إلى الغرب، تحديداً إلى الولايات المتحدة وحلف شمال الأطلسي، وكذلك إلى البلد الجار أوكرانيا، الذي يبدو مستقبله السياسي وسلامة ما تبقى من أراضيه معلقاً بيد الكرملين، ومدى قدرة الأطراف الغربية على لجم طموحاته، أو التوصل إلى صفقات مرضية معه.

لكن هذه المناورات بتوقيتها، في غمار المواجهة الحالية المتفاقمة حول أوكرانيا، وكذلك بحجمها غير المسبوق، لجهة أنها شملت الأسلحة الاستراتيجية بطرازاتها النووية والتقليدية، وبتسميتها اللافتة "الردع الاستراتيجي" المستعارة من مصطلحات عهود "الحرب الباردة"، ليست موجهة بالتأكيد إلى الداخل الروسي، إذ لا يحمل إطلاق الصواريخ العابرة للقارات والقادرة على حمل رؤوس مدمرة، رسائل تهم ملايين الروس الذين أرهقهم، كما دلت استطلاعات، أن يعيشوا دائماً في دوامة مواجهة مع طرف خارجي، بينما يتطلعون لتحسين أحوالهم المعيشية.

بدأ التركيز على "عنصر القوة" في خطاب الرئيس فلاديمير بوتين السياسي الداخلي منذ عام 2012 عندما استعاد مفتاح الكرملين بعد "إجازة" في منصب رئيس الوزراء لمدة 4 سنوات.

قوة عسكرية

بعد انتخابه مجدداً للولاية الثالثة في ذلك الحين، كتب بوتين مقالة مطولة نشرتها صحيفة "روسيسكايا جازيتا" الحكومية، وكان التركيز الأساسي فيها على استراتيجية استعادة القوة العسكرية وإعادة تحويل روسيا إلى دولة عظمى بالمفهوم الحربي، أو بتعبير أدق كما ردد الرئيس، فإن الهدف "استعادة وضع روسيا بين أقوى 5 دول في العالم".

شرح الرئيس في مقالته التي سرعان ما تحولت إلى "خريطة طريق" رئيسية لتنفيذ أهدافه، أن "العالم يتغير، وعمليات التحول العالمي الجارية محفوفة بمخاطر ذات طبيعة جديدة، وغالباً ما تكون غير متوقعة، وفي سياق الاضطرابات الاقتصادية العالمية وغيرها من الاضطرابات، هناك دائماً إغراء لحل مشاكلك على حساب أطراف أخرى، من خلال الضغط القوي".

هذه المقدمة توصلت سريعاً إلى استنتاج "لا ينبغي أن تكون هناك مثل هذه الاحتمالات ولا يمكن أن نسمح لأي طرف باستغلال نقاط ضعفنا، لهذا السبب لن نتخلى تحت أي ظرف من الظروف عن إمكانات الردع الاستراتيجي وسنقويها".

قامت فكرة الرئيس على أن بلاده "لن تكون قادرة على تعزيز مكانتها الدولية، وتطوير الاقتصاد والمؤسسات الديمقراطية، إذا لم نتمكن من حماية روسيا، إذا لم نحسب مخاطر النزاعات المحتملة، وإذا لم نضمن الاستقلال التكنولوجي العسكري ولم نعدّ رداً عسكرياً مناسباً على تحديات معينة".

تمويل ضخم

في تلك الفترة، أطلق بوتين برنامجاً ضخماً لتطوير المؤسسة العسكرية الروسية بموازنة أولية بلغت 23 تريليون روبل، ثم لم يلبث المبلغ أن تضاعف خلال السنوات اللاحقة.

وكان لافتاً أن بوتين في خطته الطموحة وضع كل اعتبارات القوة في المجال العسكري، وحتى عندما تحدث عن التعليم والصحة ركز على القطاعات التي تخدم "الهدف الاستراتيجي" الأعلى، وهو النهوض بالمجمع الصناعي العسكري الروسي.

ولم تكد تمر سنوات بعد ذلك حتى ظهرت نتائج هذا البرنامج، من خلال تعزيز وضع "الثالوث النووي" الذي يضم حاملات الرؤوس النووية براً وبحراً وجواً، وإنتاج جيل جديد من الصواريخ فرط صوتية التي تمت تجربة بعضها ميدانياً أخيراً في مناورات عدة بينها تدريبات في سوريا والبحر المتوسط، لا شك أن جانباً من شعار "استعادة القوة" ورد الاعتبار لهيبة روسيا التي مرت بسنوات من المهانة بعد انهيار الدولة العظمى، وجد قبولاً لدى فئات واسعة من المجتمع، وحمل نوعاً من التعويض المعنوي والوطني عن سنوات من الذل والمهانة، وهو أمر انعكس في بعض دراسات الرأي العام التي دلت على أن 44% من المواطنين يثقون بقدرات جيشهم و42% يثقون بخطوات بوتين، لكن في المقابل، بدا من استطلاعات الرأي أن الرهان على القوة لا يدخل على لائحة أولويات غالبية الروس، الذين يفضلون لبلادهم مساراً آخر.

الشعب في وادي آخر

في المقابل هناك غالبية ساحقة من الروس وصلت إلى 80%، وفقاً لدراسة أعدها مركز "ليفادا"، لا يبدون اهتماماً كبيراً بالسياسة، ولا يفهمون تماماً أسباب بناء تحالفات مع هذا الطرف أو ذاك، أو الانقلاب على تحالفات في حالات أخرى، وفي حالات كثيرة تبدو تحركات السياسة الروسية في تناقض مع "المزاج الشعبي"، فمثلاً تواظب الدعاية الرسمية على وصف العلاقة مع الصين بأنها "تحالف استراتيجي" ضد أخطار خارجية مشتركة، بينما تعج وسائل التواصل الاجتماعي الروسي باتهامات للصين بأنها تقضم تدريجياً مناطق الشرق الأقصى، التي غدت مساحات لسيطرة صينية كاملة، لدرجة أن الروس لا يجدون فرص عمل فيها، أيضاً، لم يفهم كثيرون في 2008 سبب الحرب مع جورجيا أو نتائجها، باستثناء نوع من التذمر، لأن روسيا "سيكون عليها" أن تتحمل مسؤوليات اقتصادية عن إقليمين جديدين هما أبخازيا وأوسيتيا الجنوبية.

وفي 2014 بلغت مشاعر العزة الوطنية أوجها عند "استعادة" القرم التي تحظى بمكانة تاريخية خاصة لدى الروس، لكن سرعان ما برزت بعد سنوات أسئلة حول "ماذا جنت البلاد من هذا الضم"؟

وفي عودة لمفهوم القوة، يبدو التباين شاسعاً في التعامل مع الأولويات المتعلقة بهذا الملف، ووفقاً لنتائج استطلاع واسع أجري في العام الماضي، قال ثلثا الروس إنهم يرغبون في رؤية بلادهم "دولة ذات مستوى معيشي مرتفع، حتى لو لم تكن واحدة من أقوى الدول في العالم"، ويعد هذا أعلى رقم مسجل منذ عام 2003 في إطار السؤال عن موقف المواطنين من "قوة البلاد" في إطار الاستطلاع نفسه، انخفضت نسبة أولئك الذين يرغبون في رؤية روسيا على أنها "قوة عظمى" تحترمها وتخشاها الدول الأخرى إلى 32%، وهذا الحد الأدنى منذ انهيار الدولة العظمى في السابق.

ربيع القرم

لا شك أن ذروة مزاج "القوة العظمى" برزت في مارس 2014، بالتزامن مع ما يسمى "ربيع القرم" في ذلك الوقت، وفقاً لنتائج دراسة استقصائية عرض فيها علماء الاجتماع الاختيار بين "قوة عظمى محترمة ويخاف منها الآخرون"، أو "دولة عادية ذات مستوى معيشي مرتفع"، أطلق 48% من الروس على أنفسهم أنصار "القوة العظمى".

وتدل دراسات على أنه منذ عام 2015، تزداد تدريجياً نسبة أولئك الذين يريدون رؤية روسيا دولة ذات مستوى معيشي مرتفع، وإن لم تكن الأقوى، وصل هذا الرقم الآن إلى الحد الأقصى في إحدى دراسات "مركز ليفادا" في أغسطس 2021، إلى 66%، إذ وجدت الدراسة أن "الناس أصبحوا أقل استعداداً للتضحية برفاههم الداخلي من أجل السياسة الخارجية".

اللافت أنه إلى جانب الرغبة في مستوى معيشة مرتفع، يميل الرأي العام الروسي بشكل ملحوظ نحو الاقتصاد المخطط، وهذا مفهوم في مقابل المعاناة من الفساد وتراكم الثورات في أيدي فئات محدودة، لكن الاستقرار المجتمعي والمعيشي مضمون للجميع.

المثير أن الخبراء لا يرون تناقضاً بين الحنين إلى الدولة السوفياتية وتفضيل الرفاهية المعيشية على القوة العسكرية.

وقال أحد علماء الاجتماع لصحيفة روسية قبل شهور، إن الروس عموماً لا يرون قدرة على توحيد مفهومي القوة العظمى والمستوى المعيشي الجيد، وهما "خطان متوازيان لا يتقاطعان" و"ليس ممكناً هنا تكرار تخيل المواطن الروسي عن الولايات المتحدة".

وزاد أنه لذلك، فإن بعض فئات المجتمع باتت تنكر فكرة القوة وترفضها، بينما تنطلق فئات أخرى من أن "المواطن يفضل تحسين الوضع المعيشي، لكن إذا كنا نتحدث عن أن البلد لم ينجح في السياسة الداخلية، فلا يوجد ما يدعو للفخر من حيث الرفاهية والرعاية الشخصية، يبقى أن نفخر بعظمة البلاد، نعم نحن فقراء، لكننا قوة عظمى".

هذا المحتوى من صحيفة "الشرق الأوسط"

اقرأ أيضاً:

تصنيفات