بريطانيا وأوروبا.. زواج مصلحة وطلاق مرّ

time reading iconدقائق القراءة - 11
رئيس الوزراء البريطاني إدوارد هيث يوقّع في بروكسل على عضوية بلاده في "المجموعة الاقتصادية الأوروبية" - 22 يناير 1972 - AFP
رئيس الوزراء البريطاني إدوارد هيث يوقّع في بروكسل على عضوية بلاده في "المجموعة الاقتصادية الأوروبية" - 22 يناير 1972 - AFP
دبي-الشرق

نشرت مجلة "ذي إيكونوميست" البريطانية تقريراً يفصّل المراحل التي مهّدت لدخول المملكة المتحدة الاتحاد الأوروبي، وعلاقاتها المضطربة مع أعضائه، وصولاً إلى خروجها منه، والذي استُكمل أواخر العام 2020.

واتسمت بداية العلاقة بين لندن والتكتل الأوروبي بطابع احتفائي، إذ شهد التصويت في مجلس العموم (البرلمان) البريطاني بالموافقة على عضوية المملكة المتحدة في "المجموعة الاقتصادية الأوروبية"، في 28 أكتوبر 1971، بهجة عارمة، بعد أن مُرّر القرار في المجلس بغالبية 112 صوتاً.

وأشارت "ذي إيكونوميست" إلى احتفال ساسة بارزين بالعضوية في المجموعة الاقتصادية للقارة العجوز، بينهم رئيس الوزراء إدوارد هيث الذي عاد إلى مقرّه في داونينغ ستريت، وعزف مقدمة قطعة موسيقية للمؤلف الموسيقي الألماني يوهان سيباستيان باخ.

واستدركت المجلة أن استكمال بريطانيا انسحابها من الاتحاد الأوروبي، بعد نصف قرن، أثار احتفالات محدودة. وأضافت أن استطلاعاً للرأي نُشرت نتائجه حديثاً، أظهر أن 48٪ من البريطانيين يعتقدون الآن بأن على بلادهم أن تبقى في التكتل، في مقابل 38٪ رأوا العكس. وسألت: "كيف سارت الأمور بشكل خاطئ؟".

واعتبرت المجلة أن تاريخ بريطانيا أثار لديها مشاعر متناقضة تجاه "المشروع" الأوروبي". فبناء الوحدة الأوروبية شكّل، بالنسبة إلى غالبية دول القارة، ردّ فعل على أهوال الحرب العالمية الثانية وتداعياتها، إذ كان الألمان ينأون عن النازية، والفرنسيون عن هزيمتهم وتعاونهم مع محتلّي بلدهم، والإيطاليون عن ديكتاتورية بنيتو موسوليني، وأوروبا الشرقية عن الهيمنة السوفيتية عندما انضمّت إلى الاتحاد في النهاية.

وكانت بريطانيا العضو الوحيد الذي لم يشعر بحاجة إلى الهروب من ماضيه، إذ رحبّت بالدولة القومية، لا بتجاوزها، عكس بقية الأقطار الأوروبية.

الإمبراطورية البريطانية

كما أن التاريخ الإمبراطوري لبريطانيا أحدث فارقاً، إذ كانت إمبراطوريتها أضخم وأحدث من الدول الأوروبية الأخرى.

ويشعر البريطانيون، ثقافياً، بأنهم أقرب إلى الولايات المتحدة وكندا وأستراليا، ممّا إلى أوروبا. ويقيم عدد أكبر بمرتين ونصف، من المغتربين البريطانيين في الدول الناطقة باللغة الإنجليزية، ممّا في أوروبا، كما أن الأقليات العرقية الرئيسة في بريطانيا هي من دول الكومنولث.

ولفتت "ذي إيكونوميست" إلى أن حماسة رئيس الوزراء الأسبق إدوارد هيث لأوروبا كانت غير عادية، علماً أن الرئيس الفرنسي السابق شارل ديغول اعترض على أول طلب قدّمته بريطانيا لعضوية الاتحاد، في عام 1963، معتبراً أنها "جزيرة، بحرية، مرتبطة من خلال مبادلاتها وأسواقها وخطوط إمدادها، بأكثر البلدان تنوّعاً وغالباً أبعدها".

وذكرت المجلة أن معظم الساسة البريطانيين البارزين في حقبة ما بعد الحرب العالمية الثانية، شاركوا ديغول شكوكه. فرئيس الوزراء هارولد ماكميلان، من حزب المحافظين، أعرب عن قلقه بشأن ظهور "إمبراطورية شارلمان قوية ومتبجّحة"، في إشارة إلى إمبراطور روماني كان ملكاً على فرنسا، وقدّم طلب العضوية جزئياً من أجل تغيير أوروبا من الداخل.

أما زعيم حزب العمال حينها هيو غيتسكيل، فأبدى خشيته من أن تعني أوروبا الفيدرالية "نهاية بريطانيا بوصفها دولة أوروبية مستقلة... نهاية ألف سنة من التاريخ".

استفتاء أول على "بريكست"

دفعت هذه الشكوك حكومة حزب العمال إلى تنظيم استفتاء على عضوية بريطانيا في الاتحاد، في عام 1975، بعد سنتين على انضمامها إليه. لكن المملكة المتحدة كانت في حالة فوضى، بعدما شهدت إضرابات، وبدا أن أوروبا تقدّم مستقبلاً أكثر استقراراً وازدهاراً. وصوّت أكثر من ثلثي الناخبين بالبقاء في التكتل.

وأشارت المجلة إلى أن رئيسة الوزراء البريطانية السابقة مارغريت تاتشر، التي باتت لاحقاً مشككة بالاتحاد، أجرت حملة حماسية من أجل استمرار عضوية بلدها في التكتل، وأقنعته في ثمانينات القرن العشرين باتخاذ أهم خطواته في ذاك العقد، وهي تأسيس السوق الموحّدة.

وأوردت "ذي إيكونوميست"، أن بريطانيا كانت منذ البداية غير راضية عن شروط عضويتها، لا سيّما في ملف الزراعة. وكانت لندن ثاني أبرز مساهم في الموازنة الأوروبية، حتى استردّت تاتشر "أموالنا" في عام 1984.

واستدركت المجلة أن النزعة "فوق القومية" هي أكثر ما أزعج بريطانيا، التي اعتبرت نفسها، منذ البداية، مدافعة عن أوروبا تضمّ دولاً قومية اجتمعت طوعاً لتسهيل إدارة الأعمال في العالم.

لكن مؤسّسي أوروبا رأوا فيها مشروعاً سياسياً استهدف ربط القارة بقوة، بحيث لا يمكن تصوّر نشوب نزاع فيها مستقبلاً. ومع سعي أوروبا إلى "اتحاد أوثق"، تفاقم التوتر مع لندن.

معاهدة ماستريخت

وأشارت المجلة إلى أن معاهدة ماستريخت، المُبرمة في عام 1992، أدت إلى تقارب بين أعضاء الاتحاد، وتباعدهم مع بريطانيا.

وبات سكان التكتل "مواطنين في الاتحاد"، يتمتعون بحقوق أساسية، بما في ذلك حرية الإقامة في أي مكان يريدونه. وحُذفت كلمة "اقتصادي" من اسم التكتل، علماً أنها شكّلت أول عامل جذب للندن.

وأثار تبنّي عملة موحّدة ضغوطاً من أجل زيادة حصر السيادة. واعتقد متفائلون بأن بريطانيا يمكن أن تحصل على حصتها، من خلال كونها عضواً في التكتل، لا في عملته الموحّدة. لكن متشائمين جادلوا بأن الضغط لحصر السيادة سيجعل الحفاظ على هذا الموقف مستحيلاً.

ومع تأسيس أحزاب مشككة بالاتحاد، بينها "الاستفتاء"، و"استقلال المملكة المتحدة" (يوكيب)، وانتشار الشعبوية في العالم بعد الأزمة المالية في عام 2008، شهدت بريطانيا ضغوطاً، نتيجة حجم قطاعها المالي، ولأن حكومة ديفيد كاميرون خفّضت الإنفاق، ما أضرّ بالمناطق الفقيرة أكثر من غيرها.

وجنح حزب العمال يساراً، منتخباً لزعامته جيريمي كوربن، المشكك بأوروبا، فيما دفع "يوكيب" نحو تنظيم استفتاء بشأن عضوية المملكة المتحدة في أوروبا (بريكست)، وافق عليه كاميرون وأُجري في عام 2016.

3 رجال وقضية واحدة

واعتبرت "ذي إيكونوميست" أن 3 رجال وقضية واحدة شكّلوا القوة الدافعة وراء فوز حملة "بريكست". الرجال الثلاثة هم رئيس الوزراء بوريس جونسون، الذي أمّن "وجهاً باسماً" للحملة، ومنظّرها دومينيك كامينغز، وكوربن الذي رأت فيه "ربما السلاح الأمضى" للحملة، لافتة إلى أن "حملته الفاترة من أجل البقاء، ونفوره المعروف من الاتحاد الأوروبي، قلبا النتيجة لمصلحة المغادرة".

أما القضية فتمثلت في الهجرة، إذ ارتفع عدد السكان المولودين في بولندا، المقيمين في المملكة المتحدة، من 56 ألفاً في عام 2001 إلى 911 ألفاً في عام 2016، والرومانيين من 14 ألفاً في عام 2004 إلى 310 آلاف في عام 2016.

وأشارت المجلة إلى أن فشل الحكومة في تقليص أعداد الأجانب، رغم وعود متكررة في هذا الصدد، أسهم في توطيد الشعور بأن بريطانيا "فقدت السيطرة على مصيرها في أهم جوانب السياسة الوطنية، (ويتمثل في) تحديد مَن يقيم داخل حدودك". وكان التصويت بالانسحاب من الاتحاد الأوروبي يعني "استعادة السيطرة" على المملكة المتحدة، في شعار حملة الخروج.

واعتبرت "ذي إيكونوميست" أن التصويت على الخروج من الاتحاد شكّل "واحدة من أكثر الفترات اضطراباً في التاريخ البريطاني الحديث"، مضيفة أن الاستفتاء مسّ "روابط" المملكة المتحدة، إذ إن معظم الأسكتلنديين يريدون الاستقلال الآن، كما يتزايد الدعم لتوحيد شطرَي إيرلندا.

وزادت المجلة: "قد لا تكون النتيجة الأكثر لفتاً للانتباه لذاك اليوم التاريخي في عام 2016، هي خروج بريطانيا من الاتحاد الأوروبي الذي لم تحبّه أبداً، بل تفكّك الدولة القومية التي سعى مؤيّدو بريكست إلى الدفاع عن سيادتها".