فاقم اغتيال رئيس هايتي، جوفينيل مويس، أزمة تشهدها بلاده، مهدداً بإشاعة مزيد من الفوضى، في أفقر دولة بالأميركتين، والتي عانت من دكتاتوريات واضطرابات سياسية عرقلت توطيد حكم ديمقراطي.
ولكن مَن نفذ العملية، لا سيّما أن معلومات أفادت بأن القتلة تحدثوا باللغتين، الإنجليزية والإسبانية، وأنهم زعموا أنهم عملاء في إدارة مكافحة المخدرات الأميركية؟
لم تستبعد مجلة "ذي إيكونوميست" أن يكون هؤلاء من المرتزقة، متسائلة: مَن جنّدهم؟ ونقلت عن مونيك كليسكا، وهي مسؤولة سابقة في الأمم المتحدة، قولها إن مويس "كان لديه الكثير من المال والقوة". وأضافت المجلة أن كثيرين لمّحوا إلى مسؤولية ساسة معارضين، أو نخب هايتية، فيما يُرجّح آخرون حصول تدخل أجنبي، ربما من فنزويلا، إذ أن مويس لم يعترف بفوز الرئيس نيكولاس مادورو في انتخابات 2018، أو من الولايات المتحدة.
وإذ أن الإشاعات تؤجّج الوضع، ذكّرت المجلة بأن حكومة مويس اعتقلت، في فبراير الماضي، 23 شخصاً على الأقلّ، بينهم قاضٍ بارز وضابط بارز في الشرطة، اتُهموا بالتخطيط لاغتيال الرئيس وتنفيذ محاولة انقلاب.
صراع على السلطة؟
مويس الذي أدار مزرعة، ووصف نفسه باسم "رجل الموز"، بات رئيساً في عام 2017، لكنه واجه احتجاجات على غلاء المعيشة، كما اتهمه منتقدوه بالتورّط بسرقة ملايين الدولارات من "بيترو كاريبي"، وهو صندوق مساعدات من فنزويلا.
اشتدت الاحتجاجات ضد رجل الموز في مطلع العام، إذ يعتبر معارضوه أن ولايته انتهت في 7 فبراير، أي بعد 5 سنوات على تنحّي سلفه، ميشال مارتيلي. لكن مويس رأى أن ولايته بدأت عندما تولّى الحكم، بعد ذلك بسنة، وهذا موقف دعمته الولايات المتحدة، على رغم أن إدارة الرئيس جو بايدن حضّت على تنظيم انتخابات جديدة هذا العام، وفق "ذي إيكونوميست".
وقد تشهد هايتي صراعاً على السلطة، إذ أن مويس قُتل بعد يوم على ترشيحه أرييل هنري، وهو جرّاح أعصاب، لتولّي رئاسة الحكومة، علماً أن كلود جوزيف شغل منصب رئيس الوزراء بالوكالة، في أبريل الماضي، بعد استقالة رئيس الوزراء السابق، جوزيف جوث.
وقال كلود جوزيف إنه تحدث 3 مرات مع هنري، مضيقاً أنهما اتفقا على أن يتولّى هو السلطة الآن. وتابع، في إشارة إلى هنري: "عُيّن بالفعل، ولكن لم يتولَ منصبه مطلقاً. أنا كنت رئيساً للوزراء. هذا ما ينصّ عليه القانون والدستور". في المقابل، تحدث هنري عن "وضع استثنائي وشيء من الارتباك"، وزاد: "أنا رئيس الوزراء".
مشكلات اقتصادية وكوارث طبيعية
اعتبر ديدييه لو بريت، وهو سفير فرنسي سابق في هايتي، أن الوضع في البلاد بات متقلباً، لدرجة أن "لدى كثيرين مصلحة في التخلّص من مويس". وأعرب عن أمله بأن يتمكّن جوزيف من إدارة البلاد، على رغم افتقاره إلى الشرعية السياسية، منتقداً المجتمع الدولي، لتجاهله الوضع السياسي في هايتي، وداعياً إياه إلى مساعدتها لـ "ضمان انتقال سلس" للسلطة.
أما أليكس دوبوي، وهو عالم اجتماع مولود في هايتي، يدرّس في جامعة ويسليان في ميدلتاون بولاية كونيتيكت الأميركية، فرأى أن أفضل سيناريو يتمثل في أن يتفق رئيس الوزراء بالوكالة وأحزاب المعارضة، على تنظيم انتخابات، علماً أنها مقررة في سبتمبر المقبل. واستدرك: "في هايتي، لا شيء مسلّماً به. يعتمد الأمر على توازن القوى الحالي".
وتفاقمت المشكلات الاقتصادية والسياسية والاجتماعية في هايتي أخيراً، مع تصاعد عنف العصابات في العاصمة بورت أو برنس، وارتفاع التضخم، وندرة الغذاء والوقود، في بلد حيث يكسب 60% من سكانه أقلّ من دولارين يومياً. يأتي ذلك فيما لا تزال هايتي تحاول التعافي من زلزال مدمّر ضربها في عام 2010، أسفر عن حوالى 250 ألف قتيل و1.5 مليون مشرّد، وإعصار "ماثيو" في عام 2016، الذي أدى إلى مقتل 500 فرد.
"أعداء كثيرون"
وحلّ مويس البرلمان، في يناير 2020، وحكم عبر مراسيم، فيما طالب معارضوه ومتظاهرون بتنحّيه. ومع تفشّي فيروس كورونا المستجد، سيطرت عصابات مسلّحة ذات ولاءات غير واضحة، على أجزاء متزايدة من البلاد، وأرعبت السكان، بعمليات خطف واغتصاب وقتل.
ما لا يقلّ عن 278 هايتياً قُتلوا هذا العام، خلال هجمات دفعت مواطنين إلى الفرار من العاصمة، عبر قوارب وطائرات، لتجنّب طرق خطرة تسيطر عليها العصابات.
واعتبر روبرت فاتون، وهو خبير في شؤون هايتي بجامعة فيرجينيا، أن لمويس "أعداء كثيرين"، مضيفاً: "ربما كانت هناك درجة من التواطؤ، من الذين يحمون الرئيس. السنوات الثلاثون الماضية كانت كارثة تلو أخرى، والآن يزداد الأمر خطورة. لدينا شخصان يتنافسان على منصب رئيس الوزراء. الاقتصاد في وضع سيء. وضع كوفيد آخذ في التدهور، لم يتم تطعيم أحد... الشرطة مجزأة تماماً، وبعض أعضاء العصابات هم شرطيون سابقون".
ولم يستبعد فاتون أن تشهد هايتي تدخلاً من الأمم المتحدة، إذا ساء الوضع الأمني بعد مقتل الرئيس، علماً أن المنظمة الدولية نفذت مهمة مثيرة للجدل لتحقيق الاستقرار في البلاد، بين عامَي 2004 و2017.
هزيمة نابليون بونابرت
يقطن هايتي 11 مليون شخص، 59% منهم تحت خط الفقر. وعانت البلاد من عدم استقرار، إذ تعاقبت 20 شخصية على حكمها، منذ أنهت انتفاضة شعبية، حكم جان كلود دوفالييه، الذي استمرّ 15 سنة، في عام 1986، علماً أنه خلف والده، فرانسوا، الذي حكم منذ عام 1957.
هزم الهايتيون قوات نابليون بونابرت، في عام 1803، وتخلّصوا من الحكم الاستعماري الفرنسي، إذ باتت هايتي، في العام التالي، أول دولة مستقلة في أميركا اللاتينية ومنطقة البحر الكاريبي، وأول دولة تلغي العبودية.
لكن تاريخها كان مضطرباً، منذ استقلالها، إذ أدى اغتيال رئيسها، جان فيلبرون غيوم سام، في عام 1915، إلى احتلال الولايات المتحدة للبلاد، حتى عام 1934. وفي عام 1994، تدخلت واشنطن لإعادة الرئيس جان برتران أريستيد، وهو قسّ كاثوليكي كان أول رئيس مُنتخب ديمقراطياً لهايتي، في عام 1991، قبل أن يطيح به انقلاب عسكري. وبعدما استعاد أريستيد الحكم، في انتخابات عام 2000، أُطيح به مجدداً بعد تمرد في عام 2004، وأقام في المنفى.
"إخفاقات النظام"
في عام 1825، أرسلت فرنسا سفناً حربية إلى هايتي وأرغمتها على دفع ما يُعادل 21 بليون دولار، اعتبرت أنها "تدين" لها بها. تطوّع مواطنو هايتي للمشاركة في دفع هذا المبلغ الضخم، واستكملوا ذلك في عام 1947.
قد تحتاج البلاد إلى هذه اللحمة، بعد الرصاصات الـ 12 التي اخترقت جسد مويس. وقال مايكل ديبرت، الذي أعدّ كتابين عن هايتي، وكان سيلتقي مويس الأسبوع المقبل، إن وفاة الأخير لن تؤدي إلى تبسيط الأمور. وزاد: "كان شخصاً معقداً ومعيباً، لكن الأشخاص الذين جعلوه محور التركيز الوحيد لكل ما هو خطأ في نظام هايتي، فاتتهم الإخفاقات الأكبر لهذا النظام".