
"لم يكن ينقصنا شيء سوى حدوث زلزال". هكذا تندّر السوريون على شقاء أحوالهم، بأن تعرضوا لكلّ أشكال الموت، حرباً وغرقاً وحرقاً واختناقاً، وبالرصاص والشظايا والسكّين والحبل، وما لم يخطر في بال البشر.
تجربة السوريين المريرة في الموت، وصلت في الأيام الأخيرة إلى مستوى مختلف، في ظل كارثة الزلزال التي زاد عدد ضحاياها على عدد ضحايا أشدّ سنوات الحرب ضراوة. فطوال 12 عاماً لم تنجح ماكينات الحديد والنار أن تحصد أرواحاً كما حصد الزلزال المدمّر في بلد مُنهك ومستنزف من سنوات نزاع طويلة، وبُنى تحتية متهالكة، وكادر بشري جلّه من الكهلة والشيوخ بعد أن صار أغلب الشباب خارج حدود البلاد.
تطول قائمة الأمراض المستعصية التي يُعانيها البلد المكلوم، غير أن ندبات الحرب تركت علاماتها على كل وجه وعائلة وجدار وحائط ومنزل وبيت وشارع، ولم تسلم منها الحيوانات وكذلك البحر وحتى الصحراء.
ماذا يعني أن يصيب زلزال أي بلد في العالم؟ بكل تأكيد تلك هي الكارثة، لكن ماذا يعني أن يضرب زلزال بلداً يعيشُ حرباً منذ 12 سنة؟ الجواب هو إنها كارثة الكوارث.
خوف من الجدران
على الرغم من انتهاء الهزّة المركزية، لم يرجع معظم السوريين في حلب وإدلب واللاذقية وحماة إلى منازلهم، لا بل فضّل غالبيتهم النوم في العراء وتحت المطر على أن يسترجعوا بالذاكرة اختبار لحظات ما قبل الموت.
في مدينة حلب، افترش الناس الطرقات، ومحظوظ من كانت لديه سيارة بسقف تأويه مع عائلته، وتردّ عنه بعضاً من البرودة القارسة إذ وصلت الحرارة إلى 5 درجات تحت الصفر.
بالإضافة إلى هول الزلزال، قررت الطبيعة أن تضع كل ثقلها، فالثلج ينهمر فوق الأنقاض، ولو كان ذلك مشهداً سينمائياً في فيلم هوليودي، لقلنا إن المخرج بالغ في المبالغة.
مشهد الجدران والعمارات وهي تتهاوى، شكل صدمة نفسية جديدة ترافق أبناء المدن السورية المنكوبة، بعد أن رأوا كيف تتهاوى من شاهق نحو الأرض كمكعبات صغيرة تتناثر وتتكسّر.
في سيارة بيجو 504 قديمة في حي بستان القصر، أمضت نبيلة الحفار (62 عاماً) مع ابنتها وأحفادها ليلة عصيبة لم يغمض لها جفنٌ وهي تترقّب الهزة الارتدادية تلو الأخرى.
وقالت نبيلة لـ"الشرق": "تخيلت الكثير من الاحتمالات التي سوف تنتهي بها حياتي، لكن لم يخطر في بالي يوماً أن أموت في زلزال".
جلست نبيلة في المقعد الأمامي للسيارة، وحولها 5 عائلات ركنت إلى شجرة صغيرة، وعائلتان في سيارتين مجاورتين، وعائلة فضّلت أن لا يكون فوقها إلا السماء خوفاً من الجدران.
وأضافت: "نزحنا 5 مرات خلال الحرب خوفاً من الموت، لكن في الزلزال إلى أين ننزح؟ حتى باطنُ الأرض لن يكون آمناً".
30 في غرفة
على الساحل السوري، بقي الخوف موصولاً بين أبناء مدينتي اللاذقية وجبلة، الذين حملوا خوف حدوث موجات تسونامي لتجتاح الأماكن المفتوحة، وتوجّه الكثير منهم إلى المساجد والكنائس والمدارس التي فتحت أبوابها بعد أن أعلنت الحكومة عطلة رسمية لمعظم مؤسساتها حتى نهاية الأسبوع.
وتحوّلت مقاعد الدراسة في إحدى مدارس مدينة جبلة، إلى أسرّة خشبية من المفترض أن تتسع لشخص واحد، لكن قلّة البطانيات جعلت كلّ 3 أطفال يتشاركون بطانية واحدة ومقعداً واحداً، ويتناوب الآباء والأمهات على النوم تارة وعلى رعاية من يبكي من الأولاد تارة أخرى.
في أحد الصفوف الدراسية، تكدّس أكثر من 30 شخصاً داخل غرفة واحدة، والتصقوا ببعضهم البعض ليمنحوا أنفسهم بعض الدفء.
لا تزال صدمة الهزّة واضحة في عيون طفلة صغيرة تدُعى مروة، قالت والدتها وهي تبكي: "لا نعلم عن زوجي شيئاً، ويداي مكبّلتان فلا أستطيع أن أترك هذه الطفلة ولا أستطيع أن أذهب لأبحث عن زوجي".
تزيغ عيون مروة (5 سنوات)، وبات واضحاً أنها منهارة ولم تعد تقوى حتى على الشكوى والبكاء. أما والدتها، فقد انقطع الاتصال بزوجها (والد مروة) منذ وقوع الهزّة، بعد أن عاد إلى المنزل لإخراج والدته فانهار المبنى بالكامل.
وأضافت أم مروة وشهقات البكاء تفصلُ بين الكلمة والأخرى: "صرتُ أصرخ بملء صدري وأنا أشاهد البناء يتهاوى، حملت طفلتي وابتعدتُ وأنا أبكي بحرقة"
وتابعت: "لديّ أمل كبير بأنه (الزوج) لا يزال حيّاً تحت الأنقاض، وأنني سألتقي به مرة أخرى".
بالأيدي والملاعق
ربّما تكون مدينة حماة وسط البلاد أقلّ نكبة من شقيقاتها في الشمال، إلا أنها تشتركُ مع باقي المدن السورية بوضوح فقر الإمكانات اللوجستية للإنقاذ والإجلاء.
توجّهت عدسات وسائل الإعلام بشكل أساسي إلى حلب وإدلب، وهي المدن الأكثر تضرّراً، لكن في الحقيقة، عندما نتحدث عن الموت، فإن "واحد" هو رقم كبيرٌ جداً.
في حي الأربعين، انهارت أبنية عدة، بينها عمارة كاملة هبطت بساكنيها، ولا تزال فرق الإنقاذ للفجر الثالث على التوالي، تحاول أن تصل إلى أي شخص فيها على قيد الحياة.
جولة سريعة في الحي الفقير، تعمّق جراح العوائل البسيطة التي فضّلت النبش بأيديها وبالملاعق وأدوات المطبخ، على أن تبقى متفرّجة.
يا للفرحة، لقد خرج شخصان من تحت الأنقاض على قيد الحياة، وبثا الأمل في نفوس الأمهات المنتظرات من دون أن يغمض لهن جفن.
منسّق العمليات في الهلال الأحمر العربي السوري علاء شاكر، قال لـ"الشرق": "نعمل بطاقتنا القصوى، لكن ليس باليد حيلة، الكارثة أكبر من إمكانيات بسيطة، ونحن بحاجة حقيقية لدعم وإمداد جوي متواصل من الدول التي لديها خبرة في هذا النوع من الكوارث".
وأضاف: "تنقصنا الآن آليات ثقيلة، ومعدات للحفر، وإنارة، ووقود، وكادر بشري، نحن في كارثة حقيقية".
جسر مقطوع
في ساعات الليل، وصلت قافلة مساعدات عراقية ضخمة إلى مطار دمشق الدولي، ليست الأولى، وما هي إلا دقائق حتى هبط فريق إنقاذ جزائري، وفتح مطار بيروت مجاله الجوي وموانئه لاستقبال المساعدات.
إلى ذلك، أعلنت كل من الإمارات ومصر والأردن وتونس وغيرها من الدول التضامن والاستعداد لتقديم الدعم.
محلياً، انتفض المجتمع الأهلي في المدن والمحافظات السورية الأخرى بشكل طوعي، وبدأ الآلاف يصلون إلى حلب واللاذقية لمدّ يد العون لأبناء وطنهم.
أما في دمشق، فانطلقت شاحنتان من مركز عقمها الصحي، و3 شاحنات من فريق ساعد التطوعي، و20 طبيباً من مبادرة "سماعة حكيم"، وغيرها من المبادرات والجمعيات الأهلية الصغيرة، التي بالكاد تستطيع أن تعين نفسها.
ثمة غصّة كبيرة في قلوب السوريين، تتضح في التعليقات على مواقع التواصل الاجتماعي، بعد أن شعروا بأنهم وحيدون في هذه المحنة، ولا يزالوا يتوقعون المزيد من الدول العربية والأجنبية في هذه الكارثة الإنسانية، في ظل ما وصفه ناشطون بأنه "جسر مقطوع" في إشارة إلى تدفق المساعدات إلى تركيا، من دون أن يصل إلى سوريا إلا اليسير.