"حاضر مظلم ومستقبل مشؤوم".. شهادات من الحياة في ظل طالبان

time reading iconدقائق القراءة - 12
طفلة أفغانية تعانق شقيقها الخائف بعد فرار عائلتهما إلى العاصمة كابول هرباً من المقاطعات الشمالية حيث تقاتل "طالبان" القوات الحكومية - 10 أغسطس 2021 - REUTERS
طفلة أفغانية تعانق شقيقها الخائف بعد فرار عائلتهما إلى العاصمة كابول هرباً من المقاطعات الشمالية حيث تقاتل "طالبان" القوات الحكومية - 10 أغسطس 2021 - REUTERS
دبي - الشرق

عيون وآذان حركة "طالبان" تنتشر في كل مكان.. هذا ما أدركته المعلمات في أفغانستان، الشهر الماضي، عندما أصدر المسلحون تهديداً بشأن استخدام النساء للهواتف الذكية. 

ماه جان، المعلمة في ولاية بلخ الشمالية حيث حققت "طالبان" انتصارات كبرى في الأشهر الأخيرة، روت لصحيفة "واشنطن بوست" التفاصيل؛ وقالت إن إحدى المعلمات رفعت البرقع وكشفت عن وجهها للحظة في صبيحة يوم حار، وبعد قليل نظرت زميلة أخرى في هاتفها.. ولم يمضِ وقت طويل حتى جاءتهن جميعاً رسائل من "طالبان" تم تسليمها عن طريق إحدى المسنّات المحليات، لتحذّرهن من أنه في حال تكرار هذه المخالفات، "سنأخذكن بعيداً ولن يتمكن أحد من إنقاذكن".

وقالت ماه جان، التي رفضت ذكر شهرتها خوفاً من انتقام الحركة، إن طنين الخوف الذي يقرع آذانها كل لحظة يجبرها على وداع عائلتها في كل صباح قبل الذهاب إلى العمل في المدرسة، خشية أن تُقتل جراء الاشتباكات التي تقع في الطريق بين منزلها وصفّها المتقلص باستمرار.

"حاضر قاتم.. ومستقبل مشؤوم"

ومع اتساع رقعة الأراضي التي تسيطر عليها "طالبان" في كافة أنحاء أفغانستان، تزداد أعداد المدنيين الذين يصطدمون بإرادة الحركة المسلحة.

ففي مقابلات أجرتها "واشنطن بوست" مع أكثر من 12 أفغانياً في الولايات الشمالية، حيث يعيش بعضهم خلف خطوط "طالبان" ويفر آخرون إلى مخيمات النازحين، أفاد مدنيون بأن مدارس الفتيات أغلقت، وأن الأسر الفقيرة تُجبَر على طهي الطعام للمقاتلين، والشباب على الانضمام إلى صفوف المسلحين. كما أفاد أشخاص عدة بتهديدات بالعنف من الوافدين الجدد إلى قراهم. 

كل هذه المشاهد مجتمعة ترسم صورة قاتمة لكيفية تغير الحياة منذ بدأت القوات الأميركية المرحلة الأخيرة من انسحابها من أفغانستان، في ما يمكن أن يكون نذير شؤم لمستقبل البلاد في حال استعادت "طالبان" السيطرة عليها. 

بعض القيود التي يفرضها المسلحون، مثل البراقع للنساء، واللحى للرجال، والحضور إلى المساجد، تعيد إلى الأذهان فترة حكمهم في نهاية تسعينات القرن الماضي. لكن، ثمة قيود جديدة تهدف الحركة منها إلى كبح جماح تكنولوجيا القرن الحادي والعشرين، والتقدم الذي تحقق على صعيد حقوق المرأة.

وقالت ماه جان، التي تعلمت في سنوات الحكم الطالباني، إن المسلحين كانوا يراقبون المعلمين وعلاقاتهم بمجموعات الإغاثة قبل إسقاطهم في عام 2001 بفعل الغزو الأميركي، لكنهم لم يكونوا بهذه الدرجة من السلطوية؛ أما الآن، فأصبحت طالبان "شديدة الوحشية"، على حد تعبيرها. 

قيود على الخصوصية

قيود "طالبان" اقتحمت حتى أشد اللحظات خصوصية. وقالت أنصاري، وهي شابة من ولاية بلخ، إن "طالبان" حظرت الهواتف الذكية بشكل كامل، ما حدّ بشدة من التواصل مع أفراد العائلة المقيمين خارج البلاد، وقوّض قدرة الطلاب على التواصل مع معلميهم أثناء فترات قيود وباء كورونا. 

وأضافت أنصاري أن هذه المراقبة اللصيقة أدت إلى الشعور بـ"جنون الاضطهاد"، وكأن الجميع مراقبون طوال الوقت من بعيد. 

وأردفت أنصاري، التي رفضت الكشف عن اسمها الكامل أيضاً بداعي الخوف: "إذا تم العثور على فتيات عازبات يستخدمن الهواتف الذكية، يتم استجوابهن من منطلق احتمال إقامة علاقة مع شاب.. وإذا استمع الأولاد للأغاني، يقوم عناصر طالبان بتحطيم ’بطاقات الذاكرة‘ الخاصة بهم". 

وقال محللون أفغان إن معاملة "طالبان" للمدنيين تختلف باختلاف الولايات والمناطق، حيث يقوم القادة المحليون المستقلون بتعديل مقارباتهم وفقاً للروابط العرقية والسياسات المحلية. 

وقالت باتريشيا غوسمان، المديرة المشاركة في قسم آسيا بمنظمة "هيومن رايتس ووتش" الحقوقية، إن بعض المجتمعات، خصوصاً في المناطق الريفية، قد تكون لديها بالفعل قيود محافِظة تعكس بعض سمات "طالبان"، مثل عدم تشجيع الفتيات على ارتياد المدارس. وأضافت أن بعض المجتمعات ترحب بـ"طالبان" بدافع الخوف، فيما يرحب بها آخرون جراء ما يجدونه من إحباط بسبب "فساد الشرطة واستغلال المليشيات". 

وفاقمت مكاسب "طالبان" وقتالها المكثف ضد القوات الأفغانية، الذي يقترب من المراكز المأهولة بالسكان، الكارثة الإنسانية في البلاد، حيث اضطر قرابة 360 ألف أفغاني للنزوح الداخلي خلال هذا العام، وفقاً لإحصاءات المنظمة الدولية للهجرة. 

ولجأت أكثر من 2000 أسرة نازحة إلى مدينة مزار الشريف، عاصمة ولاية بلخ ورابع أكبر مدن أفغانستان، بحسب المنظمة الدولية للهجرة. ويعيش كثير من هؤلاء الآن في أكواخ من المشمع البلاستيكي على أطراف هذا المركز الاقتصادي الحيوي الذي تحاصره "طالبان" الآن. 

باب الهمفي

في صباح يوم حارق من أغسطس، وبينما كان الأطفال يلعبون خارج خيمته في المخيم الذي يخنقه الغبار، روى ضابط الشرطة الأفغاني نعيم الصمادي لـ"واشنطن بوست"، كيف شكّل باب سيارة "همفي" (العسكرية) الفرق بين الحياة والموت في معركة مارس. 

كانت وحدة الصمادي قد تلقت أوامر بإنقاذ زملاء لهم في مخفر بمنطقة ألمار، في ولاية فارياب شمال غربي أفغانستان على الحدود مع تركمانستان، حيث نصب مقاتلو "طالبان" كميناً لضباط المخفر، وأمطروهم بوابل من القذائف الصاروخية.

وقال الصمادي إن مسلحي "طالبان" ملأوا الطرق بالحجارة، وأغلقوا منافذ الانسحاب، وأجبروا مركبات الشرطة على التوقف. وتعرّض القائد، الذي ترجّل من سيارته، لرصاصات أحد القناصين، واضطر الصمادي لسحب صديقه المصاب إلى داخل سيارة الهمفي، وأغلق بابها، وانتظر وصول الجنود الأفغان في صباح اليوم التالي لإنقاذ من تبقى من زملائه. 

وأوضح أن كثيراً من زملائه الضباط قُتلوا خلال المعركة، وبعد بضعة أيام سقطت ألمار في قبضة "طالبان". 

وفرّ الصمادي إلى مزار الشريف بعدما استولت "طالبان" على قريته خوفاً من أن تنتقم منه الحركة كونه ضابط شرطة. وأمرت "طالبان" المدنيين باستخدام أدوات يدوية لهدم جدران مخفر الشرطة والقاعدة العسكرية في القرية. وأضاف: "دمرت طالبان منزلي لأنني حاربتهم".

ونقلت "واشنطن بوست" عن العديد من النازحين أن "طالبان" تطالب سكان المناطق التي تستولي عليها بدعم قواتها من خلال انضمام الأبناء الصغار إلى صفوف المقاتلين أو مصادرة ما يعادل أجر مقاتل. 

ويختلف نوع الضغط الذي تمارسه الحركة من مكان إلى آخر. فالبعض ينضم بإرادته، وآخرون يواجهون ضغوطاً من أفراد أسرهم للخضوع لـ"طالبان" تفادياً لمزيد من العواقب، وفق ما قاله توماس روتيغ، المؤسس المشارك والمدير المشارك في "شبكة محللي أفغانستان". 

هروب وجوع

جلس يار محمد بيغ، البالغ من العمر 65 عاماً بجسد عامل يرتع فيه الألم، على أرضية تغطيها أكياس الإسمنت ليصف تجربته مع تجنيد "طالبان".

وقال إن أحد أبنائه فر إلى إيران، والآخر في مخبئه بعدما طلبته "طالبان" للتجنيد الإجباري، ولم تشفع له إعاقته- التي نجمت عن سقوطه من سطح المنزل قبل سنوات- من أن تتغاضى الحركة عن تحميله السلاح. 

ويخشى بيغ العودة إلى قريته في منطقة خواجة سابز بوش في فارياب، خوفاً من أن يبحث المسلحون عن ابنه. لكنه لا يستطيع أن يكسب رزقاً كثيراً في حياته الجديدة خارج مزار، حيث يرفضه أصحاب العمل طلباً لأيادي عاملة أصغر سناً. 

وقال بيغ: "في الصباح، أذهب إلى السوق للعمل، وكثيراً ما أعود جائعاً"، ويضيف: "أما بقية اليوم، فلا يسعني سوى الجلوس في الظل". 

تجنيد بالقوة

وكالة الصحافة الفرنسية، ذكرت أيضاً قصة الشاب عبد الله البالغ من العمر 17 عاماً وينحدر من مدينة قندوز شمال أفغانستان، والذي جندته طالبان للقتال إلى جانبها بالقوة.

يستعيد عبد الله بينما يستظل بفيء خيمة باتت مأوى عائلته في ضاحية في شمال العاصمة، تفاصيل مرعبة من يومه الأخير حين كانت قندوز محاصرة. ويقول إنّه كان يعلم صباح الأحد، أن مقاتلي طالبان لن يتأخروا في الوصول إلى حيّه.

بعد وقت قصير، لم يجد نفسه إلا في قبضة المتمردين الذين أوقفوه في الشارع واصطحبوه إلى تلة قريبة لتزويده بالسلاح: حقيبة مملوءة برؤوس قاذفات "أر بي جي" على ظهره يتجاوز وزنها 20 كلغ، وعلبة ذخيرة في كل يد.

ويقول عبد الله الذي تملأ البثور وجهه ويرتدي لباساً أفغانياً تقليدياً أزرق اللون، إنه تعرّف خلال وجوده مع المتمردين إلى طلاب مدرسة قرآنية قريبة من المدينة. وجنّدت الحركة ثلاثين إلى أربعين شاباً بالكاد لامس عمر بعضهم 14 عاماً.

ويروي أنهم "طلبوا منهم حمل السلاح والانضمام إلى صفوفهم. وعندما حضر أهاليهم مطالبين بتحريرهم، تم تهديدهم بالأسلحة".

استمرت محنة عبد الله ثلاث ساعات قبل أن يحضر أقاربه ويتمكنون من إقناع طالبان بتركه. عندها قررت العائلة الفرار وتوجّه لإبلاغ جده بالأمر. 

لكن المتمردين كانوا له مجدداً بالمرصاد. فقد أقدم أربعة مقاتلين "باكستانيين"، على حد قوله بحسب لهجتهم، على توقيفه، وأخذه مجدداً لإعداده للقتال. ويقول "تعرضنا للضرب، لدي بعد آثار" كدمات على جسده.

بعد ساعة، كان الفتى الذي اعتاد العمل مع والده في صالون حلاقة، يحمل بندقية "أم 16" السلاح الهجومي الذي يستخدمه الجيش الأميركي، ويتوجّه مع المتمردين إلى الجبهة حيث كانوا يهاجمون مكاتب للشرطة.

ويستعيد تلك اللحظات قائلاً: "كنت أرتجف ولم أتمكن من حمل بندقيتي"، هو الذي لم يشارك في القتال يوماً أو يحمل سلاحاً في حياته.

لم يكن التواجد على الجبهة سهلاً. ويقول: "كان ثمّة قصف جوي ودبابات تطلق" النيران، لافتاً إلى أن "ثلاثة أو أربعة صبيان كانوا يحملون بنادق قد اصيبوا، ثم قتلوا بعدما انفجرت حقائبهم".

وأسفر القصف كذلك عن "مقتل أحد عناصر طالبان وفقدان آخر لساقه وذراعه"، وفق عبد الله.

ومع مقتل وإصابة نصف عدد المجموعة التي اقتادته، وجد فرصة سانحة للهرب. قرر رمي البندقية وركض بعيداً.

تطلب الأمر قرابة الساعة حتى وصل إلى حيّه. ويقول "كنت تحت الصدمة. لم أكن قادراً حتى على التعرّف إلى بابنا (...) عندما وصلت إلى المنزل، لم أكن حتى متأكداً من أنني ما زلت على قيد الحياة".

بعد وصوله، استعدت العائلة للرحيل على عجل. اقترضت بعض المال وباعت الهاتف النقال لوالدته من أجل دفع تكاليف الرحلة إلى كابل. ويقول بأسف: "لم نأخذ شيئاً معنا. حتى أننا بعنا الطعام الذي توفّر لدينا".

"سأصبح دبابة لأقتل طالبان"

وفي خيمة تتكئ إلى جدار من الطين، يُجلس نادر نبيزاده، الأب لأربعة أطفال، ابنته الرضيعة على إحدى ركبتيه، فيما خرجت زوجته من الخيمة على عجل عندما سمعت أن عمال الإغاثة يوزعون الأرزّ، لكنها سرعان ما عادت خالية الوفاض.

وقال نبيزاده إنه فرّ برفقة أسرته من منطقة خواجة سابز بوش الخضراء التابعة لولاية فارياب، في يونيو، عقب معركة انتهت باستيلاء المتمردين على منازل المدنيين، ما دفع القوات الأفغانية إلى إضرام النار فيها. 

وتفحّمت الجثث بعدما بقيت تحت شمس الصيف لأيام. ومنع مقاتلو "طالبان" أي شخص من دفنها، ما يمثل انتهاكاً صارخاً لقواعد دفن الموتى في الإسلام. 

وتركت هذه القصة أثراً عميقاً في نفس أحد أطفال نبيزاده، البالغ من العمر 3 سنوات. وقبل أن يبلغ سن الدراسة، بدأ هذا الطفل يتخيل أنه تحول إلى آلة حرب، وأنه يواصل دائرة العنف التي عصفت بأفغانستان طوال عقود. وقال نبيزاده: "لقد قال لي.. إذا أصبحتُ دبابة، سأقتل طالبان".

لمتابعة التغطية المباشرة لأحداث أفغانستان: