محمد علي شمس الدين.. شاعر يتأمل في موته

time reading iconدقائق القراءة - 5
الشاعر الراحل محمد علي شمس الدين
الشاعر الراحل محمد علي شمس الدين
دبي - ثناء عطوي

محمد علي شمس الدين (1942-2022)، شاعرٌ يتأمّل في موته، يكتب له القصائد كي يواسيه، يخطّط لأشعاره، يعدّ لها الأرض والمناسبة، يجعل منها الرثاء، وأنشودة الوداع الأخير.

رحل محمد علي شمس الدين، بل دعا نفسه بلباقة الشاعر العارِف بمصيره، إلى الترجّل بهدوء، والانسحاب بشجاعة من المكان والزمان وفصول الربيع، فكتب قبل أيامٍ على رحيله عبر صفحته الخاصة آخر الكلام وأمرّه، تحت عنوان "هنا/ هناك": 

"عليك أن تغادر المكان، عليك أن تغادر الذين طالما ألِفتهم، كُرسيك الذي جلست فيه، مهد أمّك التي رأتك فيه مثل نجمة الزمان، ونِسرك الذي تحبّ أن تكون مثله.. عليك أن تذوب في المدى كنقطة الدخان، وأن تغيب في البحار، لا صدى، ولا تعود..".

فلسطين في الجوار

في أرضٍ متاخمة لفلسطين، ولد محمد علي شمس الدين، من مكانٍ أنجب من عُرفوا بـ"شعراء الجنوب" في السبعينيّات، تلك المرحلة التي شهدت على العصر الذهبي لحركات اليسار اللبناني، الداعم بالدرجة الأولى للقضية الفلسطينية، ولقضايا التحرّر الوطني عموماً.

اتسم شعره بالبساطة الأقرب إلى شخصه، شاعر التساؤلات الكبرى، التي لا تنفصل عن الهمّ السياسي والوطني والاجتماعي، الذي احترف التحليق في فضاءاتٍ ترفد الأخيلة بالعاطفة والشغف. 

تنقّل بين الشعر العامودي، وشعر التفعيلة، وتمسّك بموقفه من قصيدة النثر، إذ اعتبرها "تغريباً للقصيدة وإفقاراً للشعر من موسيقاه المتحقّقة بالوزن"، ولطالما رأى أن الشعر العربي لم يستقرّ على حالٍ بعد، بل هو يمرّ بتحوّلاتٍ عظيمة، ويعيش مرحلة ما بعد الحداثة.

عُرف شمس الدين بغزارة إنتاجه وحضوره الثقافي الواسع، ورفد الصحف والمجلّات اللبنانية والخليجية بنصوصٍ شعرية ومقالاتٍ أدبية كثيرة. 

اشتهر بديوانه "قصائد مهرّبة إلى حبيبتي آسيا" (1975)، وقد سمّى ابنته الصغرى آسيا على اسم ديوانه الشعري الذي نشرته دار الآداب اللبنانية، وأتبعه بـ "أناديك يا ملكي وحبيبي" عن الدار نفسها.

شاعر الأسئلة الكبرى

الشاعر اللبناني شوقي بزيع اعتبر في تصريحٍ لـ "الشرق"، أن رحيل شمس الدين "لا يعني فقط رحيل صديقٍ ورفيق دربٍ منذ 50 عاماً، أي منذ انطلاقة حركة "شعراء الجنوب" وصولاً إلى المهرجانات الشعرية والفعاليات المشتركة، بل إن هذه الرحلة الطويلة كانت كافية أن تجعل منا توأمَين على صعيد الشعر، إذ لطالما نُظر إلينا بوصفنا ثنائياً شعرياً، حتى أننا شكّلنا ثنائياً على صعيد الشكل والملامح".

وأضاف أن الأهم من ذلك هي "شعرية شمس الدين المتميزة والفريدة، فهو شخص يملك موهبةً عالية جداً، ويملك حساسيةً أيضاً تجاه اللغة والإيقاع، وهو شاعر مرئيات، وشاعر صورة".

ورأى بزيع أن الشعر "يبدأ عند محمد علي من الإيقاع، وخصوصاً أن علاقته بالعروض والوزن علاقة وثيقة جداً، كما يبدأ عنده فعلياً من الصوت، ويتفرّع إلى العين والبصريات وحواس أخرى مثل اللمس والتذوّق. واصفاً الراحل بأنّه شاعر مفعم بالحياة، يستثمر وجوده بشكلٍ استثنائي، ليحوّله إلى شعرٍ خالص. وقد حاول أن يستلهم عناصر فطرية موجودة في الريف لها علاقة بالتاريخ والوجدان، لكنه لم يجعل منها مطيّة للكتابة الشعرية، بل جعلها خلفية لرؤياه الشعرية إلى العالَم والوجود".

"شاعر وجودي بامتياز، شاعر أسئلة كبرى، حاور الحبّ والموت والألم والحرّية، وجمع بين الغنائية والبُعد المعرفي والفلسفي والصوفي على نحوٍ خاص"، هكذا وصف بزيع شمس الدين، مشيراً إلى "أنه تربى في عهدة جدّه الذي كان ملمّاً بالتصوف والعرفان، وهذا أعطاه خلفيةً صوفية متميزّة، برزت في معظم مراحل تجربته الشعرية. وبخسارة شمس الدين، نخسر موهبةً فذّة من الصعب تعويضها حتى زمنٍ بعيد". 

شعره يشبه حياته

الباحث والناقد الأدبي الدكتور علي نسر اعتبر أن قصائد شمس الدين "انبثقت من قاعٍ ثقافي عميق، يحمل في طيّاته من الفلسفة والتاريخ والعلم والقراءة الكثير. ونهض شعره على مداميك عدة، على رأسها الكلمات، شريطة أن تكون قابلة للتحوّل والتغيّر ساعة يريد". مضيفاً: "بهذا نرى الشاعر يقف في منتصف الميزان بين القديم والجديد، وشعره يشبه حياته، وهو تمسّك بالشعر العامودي لكنه لم يحدّه ولا يقيّده". 

وفي رصيد شمس الدين مجموعات شعرية عدة بينها "أما آن للرقص أن ينتهي؟"، و"أميرال الطيور" (1992)، و"يحرث في الآبار" (1997)، و"منازل النرد" (1999)، و"ممالك عالية" (2003)، و"شيرازيات" (2005)، و"اليأس من الوردة" (2009)، و"النازلون على الريح" (2013)، و"كرسي على الزبد" (2018).

كما طرح أيضاً "غنّوا غنّوا" (1983) وهي مجموعة شعرية للأطفال، وكتب قصصاً للصغار تجاوزت اثنتي عشرة قصة، تم تلحين وغناء بعضها، أبرزها "كنزٌ في الصحراء".

تُرجمت قصائده إلى لغاتٍ عدّة منها الإسبانية والفرنسية والإنجليزية، وحاز جوائز أدبية مرموقة، منها جائزة سلطان بن علي العويس الثقافية (2011).

بعد عقود من الكتابة، ودّع محمد علي شمس الدين قراءه تاركاً إرثاً شعرياً غنياً كان الموت والرحيل أحد أهم موضاعاته: "أوّل الدهر معقودٌ بآخره، وأجمل الناس ما يُلقى إلى الحفر، وما الخليقة إلا طيف نائحةٍ، بيضاء تعبُر بين الطين والمدر".

تصنيفات