كان لتسارع الاعتماد على الإنترنت خلال العقدين الأخيرين أثره الواضح على سلوكنا ورؤيتنا للأشياء، فبفضل هذه الأدوات الجديدة أصبح التواصل بين الأفراد أيسر من أي وقت مضى.
وبات تدفق المعلومات والبيانات والصور في أرجاء العالم يحدث بلمح البصر. هذا الواقع الجديد فرض كذلك آليات مختلفة للتفاعل بين الناس، كما فجّر العديد من التساؤلات والمشاعر، وغيّر نظرتنا إلى كثير من الأمور.
فكيف تعامل الفن مع هذه الأطروحات الرقمية التي تفرضها هذه الثقافة؟ وكيف عبّر الفنانون عن هذه التصورات الجديدة والمشاعر المستحدثة التي أفرزتها؟ وكيف تغيّرت الصورة ونظرتنا إليها أمام كل هذه التحولات؟
هذه التساؤلات وغيرها هي محور النصوص النقدية التي يضمها كتاب "الفن في زمن القلق" الصادر أخيراً عن مؤسسة الشارقة للفنون بالتعاون مع دار مورال للنشر في لندن.
ويُظهر هذا الإصدار الأخير سعي مؤسسة الشارقة لتوثيق أبرز تجارب الفن المعاصر في المنطقة، وتسليط الضوء على أهم القضايا والتحديات التي تواجه الفنانين ومتخصصي الفن على الصعيدين الإقليمي والعالمي.
ويأتي الكتاب مكملاً للحوارات التي استلهمها المعرض الفني الذي يحمل العنوان نفسه، ونظمته المؤسسة في يونيو الماضي.
وكان المعرض المشار إليه قد جمع أعمالاً فنية لأكثر من 30 فناناً وفنانة من مختلف أنحاء العالم، يربط بينهم السعي للكشف عن تأثيرات التكنولوجيا والأجهزة وشبكات التواصل الاجتماعي على وعينا.
وسلطت هذه الأعمال الضوء على التدفق الهائل للمعلومات وما تنطوي عليه من تضليل وخداع ومشاعر زائفة، خلافاً للسرية التي تغزو الحياة الإلكترونية والواقعية، وما استتبع ذلك من تغيّر في السلوكيات والعلاقات بين الناس.
كما أثار المعرض بعض التساؤلات المبطنة بشأن مستقبل البشرية في ظل التسارع المحموم للاعتماد على هذه الوسائل والتقنيات الجديدة.
وضعت مقدمة الكتاب الشيخة حور بنت سلطان القاسمي رئيس مؤسسة الشارقة، والتي ترى أن برنامج النشر في المؤسسة يشكل إحدى الوسائل الأساسية في التعاون مع الفنانين والقيّمين والمؤسسات من جميع أنحاء العالم، لإنتاج كتب ومنشورات من شأنها تعزيز حضور وأثر المبادرات والفعاليات التي تنظمها مؤسسة الشارقة، وكذلك الالتزام الذي توليه المؤسسة لتوفير إنتاج فكري لدعم الممارسة الفنية بالجانب النظري والنقدي.
معارض ونقاشات
ويمكن اعتبار كتاب "الفن في زمن القلق" امتداداً للمعرض والنقاشات التي أثيرت حوله، وهو يضم أكثر من 400 صفحة تشمل صوراً فوتوغرافية توثق الأعمال المشاركة في المعرض، إضافة إلى عشرات المقالات المتنوعة لمجموعة من أبرز قادة الفكر في مجالات الصورة وثقافة الإنترنت.
وتتناول هذه الكتابات والمقالات النقدية مدى تأثر الوعي الجمعي بانتشار الأجهزة التكنولوجية والمنصات الإلكترونية.
كما تحمل مجموعة متنوعة من وجهات النظر بشأن تأثير المحتوى الرقمي وتعاطي الفنانين المعاصرين مع ثقافة الإنترنت.
ويأتي تأليف الكتاب خلال فترة الحظر وصدوره في ظل هذا الوقت العصيب الذي يعايشه العالم بسبب وباء كورونا كي يضفي عليه طابعاً خاصاً، ليصبح بمثابة وثيقة تاريخية تعكس نظرتنا تجاه الفن خلال عصر الأزمة.
وتشمل الموضوعات التي يستكشفها الكتاب مستقبل المال، ودور الفن في حقبة ما بعد "كوفيد-19"، والصحة العقلية في العصر الرقمي، وثقافة الصورة عبر الإنترنت، وخوض الجمهور تجربة المعارض على الإنترنت، إضافة إلى موضوعات أخرى مثل تضخم المجال الرقمي.
وقد أسهم في وضع هذه النصوص أكثر من خمسة عشر كاتباً وفناناً من جميع أنحاء العالم، بينهم فنانون شاركوا بأعمال في معرض "الفن في زمن القلق"، ومنهم الفنان الأميركي كوري أركانجل، وجيرمي بيلي من كندا، ودوجلاس كوبلاند من ألمانيا، وسايمون ديني من بريطانيا، إضافة إلى محرر الكتاب عمر خُليف الذي يستهل نشاطه كقيّم ومدير للمقتنيات في مؤسسة الشارقة. يقدم المعرض والكتاب خلاصة هذه الأبحاث التي أجراها خُليف حول الموضوع نفسه، وكذلك المعارض الدولية التي أشرف على تنظيمها، والمؤلفات المختلفة التي أصدرها خلال العقد الماضي، ومن بينها كتابه "الفن في عصر الإنترنت" و"نظرة للفن في العصر الرقمي".
يأتي كتاب "الفن في زمن القلق" ضمن ستة كتب أخرى أصدرتها مؤسسة الشارقة هذا الموسم في سياق برنامجها للنشر الفني.
وتضمنت هذه الإصدارات مجموعة من الدراسات المكثفة عن كبار الفنانين من الإمارات ومنطقة الشرق الأوسط وشمال إفريقيا، وبحوثاً فكرية ونقدية تتناول القضايا الملحة في الفن المعاصر، إضافة إلى المنشورات المتصلة بالمبادرات والفعاليات الفنية التي تنظمها المؤسسة.
وشملت هذه الإصدارات الجديدة كتابين يبحثان في التجربة الفنية لاثنين من أعلام الفن عربياً، وهما حسن شريف وعبد الحي مسلم زرارة، وكتابين آخرين يوثقان النسخة الأخيرة من بينالي الشارقة، إضافة إلى النسخة الثانية من كتاب القصص المصورة "كورنيش".
*هذا المحتوى من إندبندنت عربية