"ليس سهلاً ربما أن أغير الواقع، لكنني على الأقل كنت قادرة على إيصال ذلك الصوت إلى العالم"، كلمات قالتها شيرين أبو عاقلة، في أكتوبر الماضي، باتت من أكثر العبارات المتداولة على مواقع التواصل الاجتماعي فور رحيلها.
إحدى أشهر الوجوه الإعلامية الفلسطينية التي ولدت في القدس عام 1971، أنهت قوات الاحتلال الإسرائيلي حياتها بطلقة في الرأس، الأربعاء، خلال اقتحام مدينة جنين بالضفة الغربية، لتصبح مراسلة قناة "الجزيرة" خبراً ينقله زملاؤها بعد 25 عاماً قضتهاً في الميدان وحلت خلالها ضيفة على ملايين البيوت العربية.
نشأت شيرين أبو عاقلة في القدس، وتخرجت من مدرسة راهبات الوردية في بيت حنينا، ثم درست الهندسة المعمارية في جامعة العلوم والتكنولوجيا بالأردن.
كانت فتاة متفوقة دراسياً، إذ قالت في حوار سابق مع إذاعة "راية إف إم" إنها كانت في القسم العلمي أثناء دراستها الثانوية، و"الأولى على صفها".
"لم يكن مطروحاً بالنسبة لي في يوم من الأيام أن أعمل في الصحافة"، رغم ما حكته عن إحدى أقاربها التي قالت لها ذات مرة في صغرها: "شايفة هادول (هؤلاء) الصحافيين اللي بيلاحقوا المسؤولين، أنا هيك بأشوفك (أراك) في يوم من الأيام".
تعجبت حينها شيرين لترد "أكيد لأ مش أنا، ما بأشوف حالي ماسكة ميكرفون أبداً".
الاقتراب من الناس
ولكن كيف تحوّل مسار شيرين أبو عاقلة من دراسة الهندسة إلى الإعلام، ومن استبعاد الإمساك بميكرفون يوماً ما إلى الوحدة معه؟
أجابت شيرين، بأن "الشيء الوحيد الذي كنت أحبه هو الاقتراب من هموم الناس.. هذا اللي حببني أروح هذا المجال"، مضيفة: "سبحان الله، هناك شيء في الدنيا يقودك في مسار معين، لم أكن أفكر في هذا الطريق، لكن ما صار في الآخر كان لصالحي".
حصلت شيرين أبو عاقلة على بكالوريوس في الصحافة والإعلام من جامعة اليرموك الأردنية. وعادت بعد تخرجها إلى فلسطين لتعمل في عدة مؤسسات إعلامية بداية من إذاعة صوت فلسطين، ثم إذاعة مونت كارلو، وصولاً إلى قناة الجزيرة عام 1997.
غطّت أبو عاقلة أحداث الانتفاضة الفلسطينية الثانية عام 2000، والاجتياح الإسرائيلي لمخيم جنين وطولكرم في 2002، والغارات والعمليات العسكرية الإسرائيلية المختلفة التي تعرض لها قطاع غزة.
كما تعد أول صحافية عربية يسمح لها بدخول "سجن عسقلان" في عام 2005، ومقابلة الأسرى الفلسطينيين الذين أصدرت محاكم إسرائيلية أحكاماً طويلة بالسجن في حقهم، بحسب هيئة الإذاعة البريطانية.
الحياة تحت الاحتلال
حياة شيرين أبو عاقلة في القدس حيث مسقط رأسها كانت إحدى القضايا التي شغلتها، إذ قالت: "القدس جرح كبير، وأهلي متروكون لوحدهم في الميدان والرب راعيهم".
وأضافت أن مجرد سيرها في شوارع القدس يولد لديها شعوراً بالتوتر، معتبرة أن الفلسطيني حين يمشي في الشارع يشعر أنه "دائماً مهدد ومتهم من دون أن يفعل شيء".
واقع جديد تريد إسرائيل فرضه على مدينة القدس، وفصل ارتباط الفلسطينيين بها، هذا ما رأته شيرين: "أنا لما بأنزل أمشي في شوارع القدس اليوم، أشعر بغربة عما عشته في طفولتي، الشوارع اختلفت، والجيش والاستيطان أصبحوا في كل مكان".
منزل في القدس
وحكت أبو عاقلة عن تجربة شخصية عاشتها عند محاولة بناء بيت في القدس عوضاً عن المنزل التي قضت فيه حياتها كمستأجرة، واصفة ما جرى معها بأنه كان بمثابة "توقف للحياة".
وأوضحت: "لو عايزة تبني بيت في القدس إنتي بتوقفي حياتك علشان تناضلي وتبنيه. قدمنا على طلب رخصة منذ عام 2013 وحصلنا عليها في 2019، والمبالغ اللي بيتم دفعها تعجيزية، بجانب إجراءات معقدة جداً".
وتابعت أنه "في المقابل بجانبك مستوطنات عمالة تطلع في انتظار يهود وإسرائيلين مش عارفين بييجوا منين علشان يسكنوا فيها".
جواز سفر فلسطيني
شيرين أبو عاقلة التي طالب السفير الأميركي في إسرائيل بالتحقيق في ملابسات وفاتها باعتبارها صحافية، ومواطنة أميركية - فلسطينية، قالت في حوار سابق لها: "أنا فلسطينية وبأتمنى في يوم حمل جواز سفر فلسطيني".
وشددت على رفضها المشاركة في الانتخابات البلدية الإسرائيلية، موضحة: "أنا ما بدي أصلح هذا النظام، أنا عايشة تحت احتلال"، ورأت في هذه الخطوة "اعتراف وإعطاء شرعية".
وقالت إن بقاء الفلسطيني وصموده في القدس "إنجاز كبير ... لو أن هناك شيء مطلوب اليوم فهو تقوية صمود الفلسطيني في القدس المحتلة في مواجهة قوة تدفعك طول الوقت للمغادرة"، منبهة أن "عامل القوة الوحيد الآن هو بقاء الفلسطينيين في القدس رغم عدم وجود إمكانيات".
"أيقونة مقدسية"
مراسل "الشرق" في القدس قاسم الخطيب وصف الراحلة بأنها ترقى إلى مرتبة "الأيقونة" في العقلية المقدسية، باعتبارها ضمن مجموعة من شخصيات يمكن عدّها كرموز في القدس.
وأوضح أنه على مدار 25 عاماً من علاقة الزمالة والصداقة مع شيرين أبو عاقلة "وجدتها في مستوى إنساني من الصعب تكراره"، مُبيناً أنها تمتعت بدماثة الخلق والأدب الشديد والقدرة على احترام الجميع.
ولفت إلى أن "وجود شيرين في موقع العمل كان يدعو إلى الطمأنينة بفضل اهتمامها دائماً بحماية من حولها".
"التحليق" في جنين
في جنين حيث رحلت أبو عاقلة، كان للمكان قصة معها، إذ كتبت عنه في دورية "فلسطين هذا الأسبوع"، أكتوبر الماضي، "جنين بالنسبة لي ليست قصة عابرة في مسيرتي المهنية أو حتى في حياتي الشخصية. إنها المدينة التي يمكن أن ترفع معنوياتي وتساعدني على التحليق عالياً"، بحسب ما نقلت "فرنس برس".
وها هي بعد أقل من عام على ما كتبت، "تحلّق من جنين" لتشهد المدينة على فصل جديد في مسيرة ابنة القدس، تنتهي معه رحلتها على الشاشة، وتتواصل في سجلات التاريخ الصحافي والذاكرة الفلسطينية.
اقرأ أيضاً: