
اعتبرت صحيفة "فاينانشيال تايمز" البريطانية، الأربعاء، أن القرار الأميركي، بحظر واردات النفط الروسي، هو "الإجراء الأكثر أهمية حتى الآن" في حرب الطاقة العالمية المتسارعة التي نشبت بين روسيا والغرب في أعقاب روسيا لأوكرانيا.
وفي حين حذر المحللون من احتمال حدوث مزيد من التصعيد، قدمت "فاينانشال تايمز" شرحاً لما يعنيه هذا الحظر بالنسبة للأسواق العالمية، وتداعياته المحتملة.
يحظر الأمر التنفيذي الذي أصدره الرئيس الأميركي جو بايدن، الثلاثاء، الواردات الروسية من النفط الخام والمنتجات البترولية والفحم والغاز الطبيعي المسال، مع "منح مهلة 45 يوماً للعقود الحالية. كما يحظر على الشركات الأميركية "الاستثمار في صناعة الطاقة الروسية".
وبالتزامن أعلنت المملكة المتحدة أنها ستوقف أيضاً "الواردات النفطية تدريجياً"، مع "منح الشركات مهلة حتى نهاية هذا العام لوقف الشحنات"، فيما أعلنت كندا، التي تستورد كميات ضئيلة من النفط الروسي، حظراً مماثلاً بالفعل.
وتعتقد الصحيفة البريطانية أن هذه ليست محاولة لحظر الصادرات الروسية عالمياً، على غرار ما حدث عندما توقف ضخ إمدادات النفط الإيراني إلى درجة كبيرة في الأسواق العالمية، وكان آخرها في 2018.
فالاتحاد الأوروبي الذي يعتمد بدرجة أكبر بكثير على الطاقة الروسية لم ينتهج الطريقة ذاتها حتى الآن. كما أن الحظر على نطاق أوسع سيتطلب تطبيق عقوبات ثانوية، وربما يحتاج إلى تعاون دول الاتحاد الأوربي، وحتى الهند والصين، المشتري الأكبر من روسيا.
حجم المشكلة للولايات المتحدة
تمثل الولايات المتحدة بدرجة كبيرة أكبر سوق نفطية في العالم، حيث تبلغ معدلات استهلاكها نحو 20 مليون برميل يومياً. كما بلغ إجمالي الواردات الأميركية من النفط الخام والوقود 8.5 مليون برميل يومياً في 2021، وفرت روسيا 8% منها.
ورجحت الصحيفة البريطانية أن يكون "التماهي مع خسارة النفط الخام الروسي أسهل من عدم الحصول على منتجات بترولية" مثل زيت الغاز المفرغ الذي تستخدمه معامل التكرير الأميركية كمواد أولية لمنشآتها.
ووصف روبرت كامبل، المحلل في شركة "إنرجي أسبكتس" للاستشارات لـ"فاينانشال تايمز" واردات الخام الروسي بأنها "انتهازية إلى حد كبير"، مؤكداً أن "التأثير الأعمق سيظهر في واردات المواد الأولية".
وبينما زادت إمدادات النفط الأميركية المحلية بدرجة كبيرة في السنوات الأخيرة، بُنيت معامل التكرير في البلاد لمعالجة "الخام الأثقل" من الذي تنتجه حقول النفط الصخري الأميركية، ما اضطرها إلى استخدام المنتجات البترولية الروسية للمحافظة على استمرار التشغيل بسلاسة.
وأضاف كامبل إنه "برغم قلة الكميات مقارنة بالطلب الإجمالي على النفط الأميركي، فإن خسارة هذه الإمدادات ستعقد العمليات في معامل التكرير الأميركية، وستضيق الخناق على سوق الوقود الأميركي".
بالنسبة لروسيا
من الناحية النظرية، تستطيع روسيا بيع نفطها لمشترين آخرين في سوق يتحكم فيه الشراة، إذ يمكنها شحن النفط الذي لا تشتريه الولايات المتحدة والمملكة المتحدة إلى أي مكان آخر.
لكن موسكو تواجه ما يصفه المحللون بـ"إضراب المشترين"، الذي يعني أن الشركات تصبح أقل استعداداً للمخاطرة بتسليم النفط الخام الروسي المنقول بحراً، خوفاً من المخاطر القانونية أو الإضرار بالسمعة.
وقال المحللون إن "انتكاسة العلاقات العامة" التي أعقبت قرار شركة "شل" الأخير بالتوقف عن شراء الخام الروسي ووقف أنشطتها في قطاع الهيدروكربونات الروسية تدريجياً، كان "درساً بالغ الأهمية للمشترين الآخرين المحتملين".
هذا العقاب الذي يتضاعف في الوقت الحالي بفعل الحظر الأميركي، يبقى "المشكلة الأكثر خطورة"، وفقاً للصحيفة البريطانية.
في السياق، قال روبرت كامبل: "ما لم تستطع روسيا مواصلة إرسال شحنات الديزل والوقود كل شهر، سيؤدي هذا إلى سقوط قطع الدومينو توالياً، حيث ستجد معامل تكريرها نفسها مضطرة لوقف نشاطها. وبدوره، سيؤدي توقف طلب المصافي على النفط الروسي إلى إجبار الشركات المنتجة للنفط على إبطاء أو وقف إنتاجها.
ماذا بعد؟
على الرغم من أن تأثير الحظر الأميركي والبريطاني قد يكون طفيفاً في ذاته، فإن "عمقه الحقيقي يكمن في أن البيت الأبيض أظهر عزمه على المضي قدماً في فرض العقوبات، بما في ذلك على قطاع الطاقة الروسي"، وفقاً لما قاله ريتشارد نفيو، كبير الباحثين في مركز سياسة الطاقة العالمية، لتابع لجامعة كولومبيا.
وأضاف نفيو لـ"فاينانشيال تايمز"، الذي ساعد في صياغة العقوبات التي فرضتها إدارة أوباما على إيران: "إنهم يقولون هذه المساحة نحن مستعدون لخوضها".
لكن الخوف الأكبر على سوق النفط، الذي يفسر هذا الارتفاع الفادح في أسعاره على مدار هذا الأسبوع، يكمن الآن في "هذا التصعيد"، وفقاً للصحيفة، برغم قول نائب رئيس الوزراء الروسي، ألكسندر نوفاك، الاثنين، إن بلاده لديها "كل الحق في اتخاذ قرارات مماثلة"، وقطع إمدادات الغاز الطبيعي التي يتم نقلها إلى أوربا عبر خط الأنابيب "نورد ستريم 1"، التي تمثل شريان حياة لقارة لا تزال تعتمد بقوة على الطاقة الروسية.
وقال بوب ماكنالي، رئيس شركة "رابيدان إينرجي جروب" للاستشارات، بواشنطن لـ"فاينانشال تايمز": "نحن أمام كرة ثلج، ولا نزال في المرحلة الأولى. لا أعتقد أن الأمر الأسوأ قد أتى بعد".
ورأت هليما كروفت، العضو المنتدب في "أر بي سي كابيتال ماركتس"، والمحللة السابقة في وكالة الاستخبارات المركزية الأميركية "CIA"، أن "دعوات توقيع عقوبات ثانوية على النفط الروسي قد يصعب تجاهلها مع استمرار زيادة حصيلة الخسائر البشرية الناجمة عن الغزو الروسي".
وأوضحت للصحيفة أن هذا سيحدث "عندما يصبح الأمر خطيراً حقاً، وعندما تجد جميع المصافي في الصين والهند نفسها مضطرة لإجراء تحليل التكلفة والعائد" حول شراء النفط الروسي. كما ستجد ألمانيا وكبار المستوردين الآخرين أنفسها "في مأزق".
وتساءلت: "ما الثمن الذي يمكنك أن تدفعه لإظهار أنه لا أحد يمكنه غزو دولة مستقلة وذات سيادة، وأن يقلب نظام ما بعد الحرب في أوربا رأساً على عقب؟".
إلى أين تتجه الأسعار؟
مع زيادة خسارة النفط الروسي، ستواصل أسعار النفط ارتفاعها. كما أن حالة عدم اليقين ضاعفت احتمال ارتفاع أسعار النفط متجاوزة أعلى سعر قياسي لها في السابق عند 147 دولارا للبرميل في عام 2008 (بالقرب من 200 دولار للبرميل عند تعديله وفقاً للتضخم).
وحذر نوفاك، الذي شغل أيضا منصب وزير الطاقة في روسيا في وقت سابق، الاثنين، من أن يصل سعر البرميل إلى 300 دولار، "إذا حذت أوربا حذو الولايات المتحدة في فرض حظر على واردات الخام الروسية".
وقال المحللون في "بنك أوف أميركا" للصحيفة إن توسيع نطاق حظر النفط الروسي من شأنه أن يؤدي إلى "صدمة في الإمدادات تعادل تقريبا ... أزمة النفط عام 1979"، والتي تسببت في تداعيات اقتصادية قاسية في الدول الغربية. وحذروا من أن أسعار النفط قد "تتجاوز 200 دولار للبرميل" في ظل مثل هذا السيناريو.
هل يمكن للشركات خرق الحظر؟
أمضت إدارة بايدن أسابيع بحثاً عن براميل النفط، حيث شجعت المنتجين المحليين على تكثيف التنقيب، وضغطت على تحالف منتجي "أوبك+" لزيادة الإمدادات، ودعمت الصفقات المحتملة لإلغاء تجميد الخام الإيراني والفنزويلي اللذين يخضعان للعقوبات، وأطلقت النفط من المخزونات الاستراتيجية.
من جانبها، أشارت الوكالة الدولية للطاقة (IEA)، التي أعلنت الأسبوع الماضي إطلاق 60 مليون برميل من مخازن الطوارئ الحكومية، إلى إمكانية ضخ المزيد من الإمدادات في محاولة لكبح جماح الأسعار.
وقالت كروفت لـ"فاينانشال تايمز" إن إقناع المملكة العربية السعودية، المنتج الوحيد في أوبك الذي يمتلك طاقة إنتاجية احتياطية هائلة، بضخ مزيد من الخام قد يتطلب من إدارة بايدن إصلاح علاقاتها مع المملكة أولا.
ومع ذلك، فإن الحجم الهائل لتأثير روسيا في أسواق النفط العالمية، باعتبارها ثالث أكبر منتج وأكبر مصدر للمنتجات النفطية في العالم، يعني استحالة تعويض الخسارة الكاملة لإمداداتها.
الحلول طويلة المدى
يؤكد المدافعون عن الطاقة النظيفة أن الأزمة، وما صاحبها من ارتفاع أسعار النفط، تقدم سبباً وجيها آخر للدول الغربية المستهلكة لإنهاء اعتمادها على الوقود الأحفوري الذي يثري أنظمة مثل نظام بوتين في روسيا.
في هذا السياق، قال إد ماركي، عضو مجلس الشيوخ الديمقراطي عن ولاية ماساتشوستس الأميركية لـ"فاينانشال تايمز"، إن "هذه اللحظة تقدم دعوة واضحة للحاجة الملحة للانتقال إلى الطاقة النظيفة المحلية حتى لا نكون متواطئين مرة أخرى في صراع الوقود الأحفوري".