قال رئيس الوزراء البريطاني ريشي سوناك خلال استقباله الرئيس الأوكراني فولوديمير زيلينسكي في لندن مؤخراً، إنه لا يوجد شيء خارج طاولة البحث، في ما يتعلق بدعم أوكرانيا، حتى تحقق "نصراً عسكرياً حاسماً" في مواجهة روسيا.
وعلى الرغم من هذا الحماس، أُثيرت في بريطانيا أسئلة كثيرة بشأن قدرة المؤسسة العسكرية على تلك المساعدة اللامحدودة للأوكرانيين، بينما يعاني الجيش البريطاني من التضعضع أصلاً.
ووفقاً لخبراء عسكريين، سيضعف تدفق السلاح البريطاني إلى أوكرانيا من قدرات المملكة المتحدة الدفاعية، ويُوقع الجيش في نقص لا بد من تعويضه في أسرع وقت.
ولكن المشكلة أن استراتيجية تطوير القوات المسلحة تستند على مراجعة حكومية أُنجزت العام الماضي قبل التدخل العسكري الروسي في كييف. والإمكانات الاقتصادية للدولة اليوم، لا تساعد كثيراً على تغيير هذه الاستراتيجية أو تسريعها كما تأمل حكومة سوناك.
تراجع العدد والعتاد
تشير أرقام رسمية إلى أن حصة الدفاع من الناتج الإجمالي المحلي للمملكة المتحدة تراجعت من 2.4% عام 2010 إلى 1.9% عام 2020، قبل أن تتجاوز مجدداً 2.2% خلال العامين الماضيين. كما توضح الأرقام أن الجيش البريطاني خسر كثيراً من عتاده منذ مطلع الألفية الثالثة، كما تراجع عدد الجنود بشكل ملحوظ، ليصل إلى 76 ألف جندي في 2022؛ مقارنة بنحو 213 ألفاً عام 2000.
رصيد الجيش البريطاني من الدبابات تراجع من 1200 دبابة عام 1990 إلى 227 حالياً. والتقرير الأخير للجنة الدفاع في مجلس العموم البريطاني يقول إن أكثر من نصف هذه الآليات يحتاج إلى إعادة تأهيل. كما أن لندن قررت مؤخراً إرسال 14 دبابة إلى أوكرانيا.
أما بالنسبة للطائرات الحربية التي لا تستبعد حكومة سوناك إرسال بعضاً منها إلى كييف في المستقبل القريب، فقد كان الجيش البريطاني يمتلك نحو 1000 طائرة عام 2006، أما اليوم فلديه 479 فقط. وهذا الرقم يتضمن 278 طائرة مقاتلة، و244 مروحية.
القوات البحرية البريطانية كانت تمتلك 164 قطعة عسكرية في عام 1982، من بينها 3 حاملات طائرات و64 فرقاطة ومدمرة. أما اليوم فتعداد قطعها يبلغ 72، تتضمن حاملتي طائرات و18 فرقاطة ومدمرة.
وعلى الرغم من هذا التراجع في العقود الماضية، يقول خبراء عسكريون إن الأسطول البحري يعتبر الأفضل حالاً بين مختلف القوات البريطانية من ناحية الحداثة وتطور التقنيات المستخدمة فيه.
خطط تطوير الجيش
مطلع عام 2021، في عهد رئيس الوزراء الأسبق بوريس جونسون، وضعت بريطانيا استراتيجية لتطوير جيشها تمتد لعقد من الزمن، وتبلغ قيمتها نحو 250 مليار جنيه إسترليني. ولكن اشتعال الحرب الأوكرانية قلب الموازيين وخلط الأوراق. فوجدت لندن نفسها أمام استحقاق تسريع تطوير القدرات العسكرية للدولة خلال زمن أقصر بكثير. وهذا الاستحقاق اصطدم بأزمة التضخم وارتفاع أسعار الطاقة عالمياً، كما ترافق مع موجة من الإضرابات بين موظفين القطاع العام احتجاجاً على الرواتب.
حتى اليوم، قدمت الحكومة البريطانية مساعدات عسكرية لأوكرانيا قيمتها نحو 2.3 مليار جنيه إسترليني. كما قدمت عشرات الصواريخ المضادة للدبابات، وأكثر من 200 عربة مدرعة، وما يقرب من 10000 طلقة مدفعية.
ولكن هذا الدعم تحوّل إلى نقص في قدرات الجيش البريطاني، وأثار القلق من عدم القدرة على مواصلة الدعم إن طال أمد الحرب، والعجز في الدفاع عن النفس إن تعرضت البلاد لاعتداء خارجي، ما أدى إلى المفاضلة بين دعم القوات المسلحة أو زيادة الإنفاق على القطاعات الأخرى.
وثمة استثمارات بقيمة 24 مليار جنيه إسترليني خصصتها الحكومة للقوات المسلحة خلال السنوات الأربعة المقبلة. ولكن يبدو أن كل التحذيرات التي تخرج اليوم من تراجع إمكانات الجيش مع استمرار الحرب في القارة الأوروبية، لم تدفع برئيس الوزراء ووزير خزانته إلى رفع حصة الدفاع في ميزانية العام المالي الجديد، التي سيعلن عنها في بيان الربيع خلال أسابيع، وفق مصادر مطلعة تحدثت لصحيفة "ديلي ميل" البريطانية.
تغيير السياسة الدفاعية
ولا يبدو أن المعارضة مرتاحة إزاء نية الحكومة عدم تغيير سياسة الدفاع، والإبقاء على ميزانية القطاع كما هي. وبحسب وزير الدفاع في حكومة الظل العمالية (المعارضة) جون هيلي، فإن الاستمرار في النهج الذي وُضع قبل الحرب الأوكرانية، وعدم الاعتراف بالحاجة إلى زيادة الإنفاق من أجل تطوير الجيش، "لا يعكس فهماً كاملاً لحقيقة ما يجري في ظل هذه الظروف التي يعيشها العالم وأوروبا على وجه الخصوص".
وأوضح هيلي في خطاب أمام "المعهد الملكي للخدمات المتحدة" بلندن، أن حزب "العمال" يخشى من تأجيل الحزب الحاكم للقرارات المصيرية حتى اقتراب موعد الانتخابات المقبلة، منوهاً إلى أن الاستراتيجية الدفاعية التي وضعتها حكومة "المحافظين" مطلع عام 2021، تنطوي على أمور إيجابية، ولكنها لم تعد كافية بعد الغزو الروسي لأوكرانيا، ومحاولة الرئيس فلاديمير بوتين "ضرب الوحدة الأوروبية، وتهديد دول القارة من دون أي استثناء".
ولفت الوزير العمالي إلى أن كل الدول الأوروبية أعادت النظر في استراتيجياتها الدفاعية بعد الحرب الأوكرانية. وحتى ألمانيا التي لطالما تحفظت على هذا الأمر، قررت ضخ 100 مليار يورو لتطوير قواتها المسلحة، وبالتالي يجب على الحكومة البريطانية قراءة واقع الحال بطريقة مختلفة، والانفتاح على حاجة الجيش للتطوير.
ولكن هيلي شدد على أن رفع ميزانية الدفاع لا يكفي "إن كانت الحكومة ستتبع سياسة غير رشيدة في الإنفاق، وتضيّع الأموال في مشتريات سيئة كما حدث قبل أعوام قليلة فقط".
وأشار إلى ضرورة تعزيز ارتباط الاستراتيجية الدفاعية لبلاده مع حلف "الناتو"، ورأى أن التزامها يجب أن ينحصر في "الناتو" وأوروبا وشمال المحيط الأطلسي والقطب الشمالي، "وبعد أوكرانيا سيتعين على الحلفاء الأوروبيين تحمل المزيد من المسؤولية عن أمن القارة".
خيارات التطوير وتحدياته
على نحو مماثل، لا يتوقع مركز "مراقبة الأمن والدفاع" أن تقوم الحكومة البريطانية برفع ميزانية الدفاع، لأنها ستجد نفسها موضع انتقاد من قبل بقية مؤسسات القطاع العام التي يتظاهر موظفوها احتجاجاً على تآكل قيمة أجورهم، وتردي الأوضاع الاقتصادية نتيجة لأسباب عديدة، على رأسها الخروج من الاتحاد الأوروبي "بريكست".
وبالتالي يتوقع المركز في تقرير نشره مؤخراً على موقعه الإلكتروني، أن تلجأ الحكومة إلى حلول "تجميلية" من قبيل دعم صناعات عسكرية محلية، أو تعزيز برامج إعادة تأهيل الأسلحة الحالية.
ويشير الموقع إلى أن الاستعانة بالصناعة العسكرية المحلية يقدم دعماً للاقتصاد الوطني، ولكنه سيبقى محدوداً، لأن بريطانيا توسعت خلال السنوات الماضية في الاعتماد على الواردات العسكرية الخارجية. كما أن التصنيع بحد ذاته يحتاج إلى وقت طويل نسبياً، وهنا ربما تتسع رقعة احتياجات الجيش بتأثير دعم أوكرانيا المستمر.
ويوضح المركز المختص، أن إعادة تأهيل مخزونات الجيش الحالية، مهمة يشوبها قلق حقيقي إزاء عدم فاعلية وجاهزية الأسلحة بشكل كافٍ بعد الانتهاء من صيانتها وتصليحها. وهنا يأتي خيار تأجيل مشاريع تسليح طويلة الأجل لصالح أخرى عاجلة وأقل كلفة وزمناً في التصنيع. ولكن لا يمكن معرفة توجهات الحكومة في هذا الإطار عموماً، إلا بعد إعلان المراجعة الجديدة لاستراتيجية الدفاع في شهر مارس المقبل.
موقف الشارع واتجاهاته
من جانبه، يقول الباحث في الشأن البريطاني جوناثان ليز، إن رصد النقاش المجتمعي بشأن الإنفاق الدفاعي عبر وسائل الإعلام، "يظهر قبولاً" في المزاج الشعبي إزاء تطوير أسلحة الجيش ودعم قدراته. ولكن "ثمة خلاف بين التوجه نحو هذا الفعل من أجل دعم أوكرانيا، أو في سبيل تعزيز قوة الردع الخاصة بالمملكة المتحدة كجزء من الناتو".
ونوه ليز في حديث مع "الشرق" إلى أن البريطانيين ما زالوا يؤيدون تماماً دعم أوكرانيا ضد روسيا، و"لكن التصريحات الأخيرة لرئيس الوزراء بعدم وجود شيء خارج الطاولة بشأن هذا الدعم، هو ما يقلق نوعا ماً، إذ يخشى البعض من أن تنجرف بريطانيا ودول الغرب نحو تصعيد يضع الجميع في مواجهة مباشرة مع روسيا".
ولفت ليز إلى أن الاستقبال التاريخي للرئيس الأوكراني فولوديمير زيلينسكي في البرلمان، قدم دليلاً واضحاً على اتفاق الحكومة والمعارضة على دعم كييف، ولكن طبيعة هذا الدعم وسقفه، هو ما قد يكون موضع خلاف سياسي وشعبي؛ خاصة إن جرى تنفيذه بشكل منفرد، ومن دون التنسيق والاتفاق مع الحلفاء.
اقرأ أيضاً: