
جدد وزير الخارجية الأميركي أنتوني بلينكن خلال مشاركته الاحتفال بمئوية مجلة "فورين أفيرز"، عناصر الاستراتيجية الأميركية تجاه الصين مع بعض التفصيلات الإضافية، ولكنه لم يكشف عن السبب الذي أخر الإفصاح عن هذه الاستراتيجية، ولماذا أهملت العديد من القضايا الرئيسة التي تواجه البلدين.
3 عناصر رئيسة
وتتمثل خطة إدارة الرئيس جو بايدن الاستراتيجية التي أعلنها بلينكن بجامعة "جورج تاون" في 3 عناصر رئيسة، أولها زيادة الاستثمار داخل الولايات المتحدة في التكنولوجيا الفائقة كأشباه الموصلات والرقائق الإلكترونية وغيرها من الصناعات الموجهة نحو المستقبل، حتى تتمكن من منافسة الصين.
وثاني العناصر هو الاصطفاف مع الحلفاء الذين يعارضون رؤية الصين للتنمية وينحازون للمنهج الغربي الديمقراطي، وذلك من خلال إنشاء تحالفات اقتصادية مثل الإطار الاقتصادي المُعلن عنه أخيراً لمنطقة المحيطين الهندي والهادئ، وعسكرية مثل اتفاق "إوكوس" بين أستراليا وبريطانيا والولايات المتحدة، وتوسيع نطاق التعاون من خلال المجموعة الرباعية " كواد".
وتكتسب هذه التحالفات أهمية، لأن ثقلها الجماعي له تأثير أكبر من أي بلد يعمل بمفرده، وقد يصل التحالف إلى 60% من الناتج المحلي الإجمالي العالمي، حسب وصف بلينكن في احتفال مجلة "فورين أفيرز".
وثالث العناصر هو التنافس مع الصين للدفاع عن مصالح الولايات المتحدة وحلفائها وبناء رؤيتهم للمستقبل، مع التشديد على أن الهدف "ليس عزل بكين أو إلحاق الضرر بها"، ولكن دعم النظام الدولي القائم على القواعد، وتقديم بدائل للدول النامية عن مبادرة الحزام والطريق الصينية.
تأخر وعقبات
ورغم دعوة بلينكن الصين لأخذ الدروس الصحيحة من حرب أوكرانيا، وكيف اجتمع حلفاء واشنطن معاً بطرق غير مسبوقة لدعم أوكرانيا عسكرياً واقتصادياً وإنسانياً أمام روسيا، إلا أن الاستراتيجية تأخرت لأكثر من عام، ما عكس انقساماً وارتباكاً في الإدارة حول كيفية التعامل مع القضايا الحرجة الخاصة بالصين، مثل قضية تايوان.
وأهملت الاستراتيجية الكثير من القضايا الرئيسية التي واجهت البلدين، كما يشير إيان جونسون الخبير في مجلس العلاقات الخارجية في واشنطن، إذ كان من المتوقع أن يكشف بايدن بعد توليه منصبه، النقاب عن سياسة جديدة تجاه التحدي الخارجي الرئيسي الذي يواجهه، لكن عام 2021 مر، بينما استمرت الإدارة الجديدة في اتباع العديد من السياسات نفسها من إدارة الرئيس السابق دونالد ترمب.
وأبقت إدارة بايدن على تعريفات جمركية تهدف إلى معاقبة الصين على الممارسات التجارية غير العادلة، ولم تحاول إحياء البرامج الفردية والأكاديمية التي أنهتها إدارة ترمب.
وعلاوة على ذلك، فإن العنصر الأول في استراتيجية الإدارة المتعلق بالاستثمار داخل الولايات المتحدة، وقع ضحية الانقسام السياسي في الداخل الأميركي، وقد يواجه مزيداً من القيود إذا فاز الجمهوريون في الانتخابات النصفية بأحد مجلسي الكونجرس، فضلاً عن أن المجالات التي حددها بلينكن للتعاون بين واشنطن وبكين، كانت قضايا مألوفة إلى حد كبير، تشمل تغير المناخ، وكورونا، والانتشار النووي، والعقاقير الاصطناعية، وأزمة الغذاء العالمية الناشئة.
"العصا والجزرة"
وفي حين كان خطاب بلينكن مناقضاً لخطاب ترمب، من حيث تأكيده أن الولايات المتحدة لا تسعى إلى تغيير نظام الحكم في الصين، ولا تبحث عن صراع أو حرب باردة جديدة، ولا تسعى لمنع بكين من ممارسة دورها كقوة كبرى، إلا أنه أكد أن من غير المرجح أن تقبل الصين بسياسة "الجزرة"، وذلك في إشارة إلى الدبلوماسية.
وكان بلينكن بدأ خطابه بـ"سياسة العصا" بالقول إن الصين هي أخطر تحدٍ طويل الأجل للنظام الدولي، وهي الدولة الوحيدة التي لديها نية لإعادة تشكيل النظام الدولي، وتمتلك بشكل متزايد القوة الاقتصادية والدبلوماسية والعسكرية والتكنولوجية للقيام بذلك.
وسلّط بلينكن الضوء على المخاطر الأمنية المحتملة على الولايات المتحدة وحلفائها، والتي يمثلها تحالف الصين مع روسيا، والإعلان عن صداقة بلا حدود بينهما قبيل غزو أوكرانيا، فضلاً عن إجراء مناورات بالقاذفات الاستراتيجية بينهما عندما كان بايدن في اليابان.
وجاءت آراء المحللين والمراقبين في كل من واشنطن وبكين متباينة، بشأن ما إذا كان هذه الاستراتيجية واقعية وسيحالفها النجاح خلال السنوات المقبلة، أم حالمة وستتعثر مع طبيعة التغيرات السياسية الحزبية في واشنطن، وإمكانية تغير خريطة التحالفات والاصطفافات، خاصة في شرق وجنوب آسيا.
واعتبرت سوزان شيرك، رئيسة مركز الصين في القرن الـ21 بجامعة كاليفورنيا في حديث مع موقع "بوليتيكو"، أنه يجب على الإدارة الأميركية أن تقدم بعض النوايا الحسنة، ففي الوقت الحالي، يعتقد الصينيون أنه لا يهم ما يفعلونه، وأنهم إذا عدّلوا سياساتهم، فلن تعدّل واشنطن موقفها من منافسة أكثر عدائية الآن، إلى منافسة أكثر ودية.
ولم يكن كريج سينجلتون، كبير الباحثين في "مؤسسة الدفاع عن الديمقراطيات"، متفائلاً بديمومة الشراكات الاقتصادية، حيث قارن في حديث لنفس الموقع بين رحلات وزير الخارجية الصيني وانج يي في جميع أنحاء المحيط الهادئ لإنشاء اتفاقيات أمنية إقليمية رسمية واستراتيجية تدوم طويلاً، وبين القمم التي لا تؤدي إلى صفقة موقعة ولا تعد استراتيجية، في إشارة إلى اتفاقيات الإطار الاقتصادي الأخيرة.
رؤية بكين
وبينما وضع خطاب بلينكن جدولاً زمنياً لإجراء مكالمة خلال أسابيع بين بايدن والرئيس الصيني شي جين بينج من أجل دفع بكين للعمل مع واشنطن، إلا أن بكين بدت غير مرتاحة من الاستراتيجية حيال رغم كونها ليست جديدة كلياً.
واعتبر لي يان نائب مدير "معهد الدراسات الأميركية" التابع لـ"معهد الصين للعلاقات الدولية المعاصرة"، وهو من أقدم المعاهد البحثية الصينية وأكثرها تأثيراً في الدراسات الدولية، أن الاستراتيجية الأميركية تعكس ازدواجية واعترافاً أكبر بمدى التعقيد في العلاقات الأميركية - الصينية، لأنها تسعى إلى تكثيف المنافسة مع الصين، وفي نفس الوقت إدارة التفاعلات التنافسية بشكل استراتيجي لتجنب الرد الصيني المتصاعد.
وأضاف يان في مقال نشره موقع "شاينا يو إس فوكوس" المختص بالعلاقات الصينية الأميركية، أن استراتيجية واشنطن تنبع من "قلق طويل الأمد" من إدارة بايدن، وأن الولايات المتحدة لن تكون قادرة على السيطرة على مسار العلاقات الثنائية مع الصين، وتعكس المعارضة المتزايدة داخل الحكومة الأميركية لتعقيد هذه العلاقات، بعدما تبين أن الإجراءات التي اتبعها ترمب، من حرب تجارية، وحصار تكنولوجي، وتطويق جيوسياسي، وضغط أيديولوجي، غير ملائمة للأهداف الاستراتيجية المعلنة لأميركا.
وعلى سبيل المثال، لم تؤد الحرب الاقتصادية والتجارية إلى قطع العلاقات الاقتصادية والتجارية بين البلدين، لكن الضغط التضخمي المتصاعد في الولايات المتحدة، جعل إزالة التعريفات الجمركية على الصين، مصلحة أميركية واقعية. كما أن الولايات المتحدة لن تكون قادرة على التعامل مع التحديات العالمية مثل تغير المناخ ووباء كورونا أو معالجة المشاكل الجيوسياسية مثل الصراع بين روسيا وأوكرانيا، من دون تعاون مع الصين، ولا يمكن لواشنطن أن تتوقع دعماً استراتيجياً من بكين، بينما تحاول تقييد سلوكها وتنتقده.
غير أن شين يامي مديرة قسم الدراسات الأميركية بمعهد الصين للدراسات الدولية، اعتبرت في مقال نشره نفس الموقع، أن الاستراتيجية الأميركية الجديدة التي تستهدف الصين، تحاول إلى حد كبير إثارة مخاوف الجماهير الانتخابية، وأنها أصبحت عملاً سياسياً يهدف إلى تخفيف الضغط من انتخابات التجديد النصفي، ولا أحد يعرف المدة التي ستنجح فيها هذه الاستراتيجية، خصوصاً لأن آفاق اللعبة طويلة المدى، وتعتمد بشكل أساسي على أي منهما يمكنه المحافظة على زخم التنمية الجيد.
"تغيير حاسم"
ومنذ رحلة الرئيس الأميركي ريتشارد نيكسون المفاجئة إلى الصين قبل نصف قرن، حتى وصول ترمب إلى الرئاسة في عام 2017، رأت الولايات المتحدة، الصين كشريك محتمل، وكبلد يرغب في دخول الأسواق الغربية والحصول على رأس المال والتكنولوجيا، في مقابل قبول التطويق العسكري والتأثير الثقافي الأميركي لها.
ولكن في ظل إدارة ترمب، أجرت واشنطن التغيير الحاسم في سياستها من التعاون إلى المواجهة. ففي عام 2018، وصفت حكومة الولايات المتحدة، لأول مرة الصين بأنها "منافس استراتيجي"، وبدأ الحديث عن تجارة غير عادلة للصين بشكل منهجي، أو تجسس اقتصادي تعسفي، أو نفوذ متزايد على الشركات الأميركية، أو محاولة تغيير ميزان القوى الإقليمي في آسيا.
وظهر في النهاية الرأي السائد بأن الصين شكلت تهديداً وجودياً أساسياً للولايات المتحدة، وأعلن وزير الخارجية الأميركي آنذاك مايك بومبيو أنه إذا لم تتحرك واشنطن الآن، فسوف يؤدي الحزب الشيوعي الصيني في النهاية إلى تقويض النظام القائم على القواعد، الذي عملت أميركا على بنائه.
وفي حين توقع الكثيرون أن يتخذ الرئيس الديمقراطي بايدن مقاربة أقل تصادماً مع الصين، حيث كان وجهاً مألوفاً للصينيين منذ أن كان نائباً للرئيس الأسبق باراك أوباما، إلا أن الإدارة حافظت على سياسات سلفها.
ولكن سياسة بايدن تجاه الصين استندت إلى تقييم أقل إثارة للقلق من تقييم ترمب، ولكن يتم متابعتها بجدية وعمق استراتيجي، مما يجعلها تحدياً أكبر للصين.
لحظة "سبوتنيك"
صاغ بايدن وفريقه صعود الصين على أنه أشبه بلحظة "سبوتنيك"، عندما صدم خبر إطلاق الاتحاد السوفيتي لأول قمر اصطناعي في العالم في عام 1957، إدارتي دوايت أيزنهاور وجون كينيدي، ودفعهما بقوة إلى إصلاح شامل للسياسات الداخلية. ولهذا جادل بايدن أن على واشنطن إعادة البناء بشكل أفضل، وإلا فإن الصين "ستأكل غدائنا" حسب تعبيره.
ومن ثم أدخلت الإدارة تدابير جديدة لحماية القطاعات الاقتصادية الرئيسية في الولايات المتحدة وتسعى للحصول على أموال فدرالية لتسريع البحث والتطوير في تقنيات القرن الحادي والعشرين الرئيسية.
"إصلاح الضرر"
وتمثل العنصر الاستراتيجي لإدارة بايدن في محاولة إصلاح الضرر الذي ألحقه ترمب بنظام التحالف الأميركي، على اعتبار أن شبكة الحلفاء الكبيرة للولايات المتحدة هي إحدى المزايا الاستراتيجية الأساسية لواشنطن، كونها تُعقّد حسابات المنافسين.
وتحقيقاً لهذه الغاية، عمل مسؤولو الإدارة، بمن فيهم بلينكن ووزير الدفاع لويد أوستن، على استعادة ثقة اليابان في الالتزام الدفاعي للولايات المتحدة، وأعادت واشنطن التأكيد على التزامها تجاه حلف شمال الأطلسي والاتحاد الأوروبي، وقد تجلى ذلك بشكل كبير من خلال رد الحلفاء المنسق على الغزو الروسي لأوكرانيا.
كما تفاوضت واشنطن على اتفاقية "أوكوس" مع أستراليا والمملكة المتحدة لتزويد البحرية الأسترالية بغواصات تعمل بالطاقة النووية، بهدف بناء توازن نفوذ في العالم يكون في صالح الولايات المتحدة وحلفائها.
غموض بكين؟
من جهتها، يمكن وصف النية الصينية بـ"الغموض"، خصوصاً أن تصريحات الرئيس الصيني حول السياسة الخارجية لبلاده لا تقدم سوى القليل من التبصر في خططه، فقد تحدث كثيراً عن طموحات الصين العالمية، لكن كلماته عادة ما تكون غامضة وخاضعة للتأويل.
وفي حين يستخدم شي جين بينج، عبارة "تغييرات كبيرة لم نشهدها خلال قرن من الزمان"، إلا أنه لا يزال غامضاً ما إذا كان يعتقد أن هذه التغييرات تمتد إلى ما هو أبعد من التجديد وتحقيق الإنجازات الكبرى، وصولاً إلى تغيير مركز القوة في العالم.
ويلجأ المحللون إلى كتابات كبار الأكاديميين الصينيين، بناءً على افتراض أنهم ربما يعرفون أو يتوافر لديهم تأثير على ما تفكر فيه القيادة الصينية، إلا أن هذه الكتابات لا تقدم المزيد من المساعدة، لأنها أيضاً مجردة وغامضة.
مقياس النجاح
ولا ينبغي قياس نجاح استراتيجية بايدن من حيث احتواء الصين في وضعها الحالي. ولكن هناك العديد من العوامل التي يمكن من خلالها الحكم على هذه الاستراتيجية بالنجاح أو الفضل، منها منع الصين من الاستيلاء قسرياً على تايوان، والاحتفاظ بوجود عسكري قوي في آسيا، مع الحفاظ على نظام تحالفها، وقيادة تقنيات القرن الحادي والعشرين الرئيسية، وممارسة نفوذ أكبر من الدول الأخرى في المؤسسات العالمية.