"صالون هدى".. كثير من الأسئلة قليل من الإجابات

time reading iconدقائق القراءة - 6
مشهد من فيلم "صالون هدى"
مشهد من فيلم "صالون هدى"
طارق الشناوي*

تحرص "التترات" على التأكيد بأن فيلم "صالون هدى" مأخوذ عن واقعة حقيقة ويطرح في نفس الوقت قضية أكثر عمقاً، وأبعد في الزمان والمكان من المحددات الآنية والحدود الجغرافية، تتجاوز الحدث بكل طقوسه وتضاريسه ونقاطه الشائكة، وسواء أكان ذلك صحيحاً أم لا؟ فالأمر هنا يخضع لمدى مصداقية الشاشة قبل مصداقية الحدث.

ذكرني فيلم المخرج الفلسطيني هاني أبو أسعد الذي يعرض ضمن المسابقة الرسمية في مهرجان البحر الأحمر بالجدار الفاصل بين فلسطين التي يعيش عليها أهلنا العرب وتتمتع بحكم ذاتي منقوص وعاصمتها (رام الله)، ولا يخلو الأمر من سطوة إسرائيلية على الكثير من الأوراق السياسية، بينما على الجانب الآخر ترنو فلسطين التاريخية حيث يعيش أكثر من 25% من العرب بالدماء والانتماء، وفي غضون عقدين أو 3 من الزمان.

صراع نفسي 

 سوف تُصبح لهم الغلبة الواقعية على الأرض، فهم يحملون الهوية الإسرائيلية، بينما قلوبهم أو الأغلبية منهم على أقل تقدير، نبض عروقهم يهتف بفلسطين، الجدار العازل ساهم في تشييده عمال فلسطينون، يبحثون عن قوت يومهم، الجدار يشكل تهديداً لهم، ورغم ذلك بسبب الاحتياج المادي أقاموه.

إنهم أحد تنويعات الصراع النفسي الذي يعيشه الفلسطينيون، فهو من الممكن تحت ضغط الحاجة، أن يساعد العدو على تحقيق أهدافه.

توقفت أمام هذا الخط الفاصل، لأنه أيضاً يتماثل مع الجدار في دلالاته، يرصد المسافة القاطعة، بين الانتماء والخيانة الوطنية، يجب أن نتذكر أن الحقيقة أكثر مأساوية من كل ما نراه أمامنا، وكل أيضا ما يصل إليه خيالنا.

اضطهاد مزدوج

(فلسطيني الداخل) حالة خاصة جداً، فهو مضطهد مرتين، في دولة إسرائيل لأنه عربي، بينما في عالمنا العربي يلاحقه الاتهام بأنه إسرائيلي.

الخيال والتشابك بين الجبهتين هو عمق المأزق، هناك تماس في العديد من الخيوط بين الفلسطيني والإسرائيلي ـ وهناك تهميش متعمد لكل ما هو عربي.

يظل لدينا مساحة عصية على الحسم النهائي، تعاملات يومية لمن نصفهم بعرب إسرائيل منذ 48، ووصلنا للجيل الثالث، ولا يزال هناك خوف إسرائيلي، أمضى سلاح عربي وهو تغيير (الديموغرافية السكانية)، وكأنها قنبلة توشك على الانفجار، ولهذا تنشط المخابرات على الجانبين، ولا يتوقف أيضا الإغراء على الجانبين.

 أسئلة بلا إجابات

صراع خفي بين المخابرات الإسرائيلية والفلسطينية وضع الكاتب والمخرج هاني أبو أسعد يده على كل أبعاده، إلا أنه وكعادته في كل أفلامه، يترك دائما مساحة من الخيال تظل تلازمك حتى بعد نهاية العرض، لا يقدم إجابات جاهزة عن كل الأسئلة، يطلب من المتفرج، قبل أن يهم بمغادرة مقعده، عائدا إلى بيته أن يصطحب معه أيضا الأسئلة.

يحسب لهاني وبرغم التعقيدات والحسابات السرية والمعلنة، فهو يعتز بفلسطين وعدالة القضية ومن الممكن أن تجد أيضا في تلك التفصيلة ما يحدد هذا الموقف وبدون لبس، الوطن بالنسبة لرسالة الفيلم هو الهوية والقلب.

الأحداث في(بيت لحم) حرص المخرج في (التترات) أن يذكر صراحة، وبين قوسين (المحتلة) أي أنها العربية الفلسطينية وهي لمحة قطعا فارقة، تظل تؤكد العمق الفكري لصانع الفيلم، الذي تسير أفلامه دوما على الأسلاك.

الحق الفلسطيني

هاني أبو أسعد أحد أهم المخرجين العرب خلال الألفية الثالثة، حقق أكثر من إنجاز عربي فيلمه الأشهر (الجنة الآن) 2006، كان يتناول المقاومة المباشرة باللجوء إلى سلاح التفجير للدخول إلى الجنة، ومن هنا جاء عنوان الفيلم، إلا أن الفيلم يحرص على ألا يقف على الحياد ،فهو يرفض الاعتداء على المدنيين.

بقدر ما يؤيد الحق الفلسطيني ومن هنا جاءت الصعوبة في توصيل الفكرة حصل على (الجولدن جلوب)، وفيلمه التالي (عمر) 2013 رشح أيضا للأوسكار وحصل على جائزة مهرجان (كان) بقسم (نظرة ما)، يظل أن كل تلك الإنجازات لا تعني أن لديه حصانة أو أن كل أفلامه تصل إلى مستوي الفيلمين السابقين الحدود الدنيا، تعني أن السينما لدي هاني ليست مجرد نزهة عابرة.

 هذا السلاح هو الأقوى والأمضى في التعبير، ما الذي تسفر عنه العلاقات الشائكة العربية الإسرائيلية، في الوجدان العربي العميق، إسرائيل دولة مغتصبة قامت على أساس ديني عنصري كدولة يهودية، أي أن مكون الدين جزء أصيل في التركيبة، بينما الإنسان العربي في عمقه الحقيقي تسامح مع كل الأديان، لا أنكر قطعا أن هناك من خرج عن الإجماع، وارتكب حماقات وقامت جماعات تشرع قتل المختلف مثل (القاعدة) و(داعش) و(بوكو حرام)، وغيرها ولكن هذا لا ينفي أبدا عن الدين الإسلامي تسامحه.

مواهب استثنائية

عدد من الممثلين أصحاب المواهب الاستثنائية كان ينبغي الاستعانة بهم، منال عوض وميساء عبد الهادي وعلي سليمان وعمر أبو عامر وكامل الباشا، الفيلم يغلب عليه مساحات الحوار، القضية تحمل التباسات متعددة، من الممكن لو لم يتم التعبير عنها بمفردات بعضها مباشر يساء التفسير، وينقلب الأمر من النقيض للنقيض. صالون هدي حكاية امرأة تبتز زبائنها النساء من خلال تصويرهم في أوضاع مخلة بعد تخديرهم للسيطرة عليه، ليصبحوا عيون وآذان على الفلسطينيين لحساب الأعداء.

المخابرات الإسرائيلية تخطط وترد عليها المخابرات الفلسطينية، والباب لن يغلق وكل الأسئلة على المحك، بينما المؤكد أن أبو أسعد ظل متمسكا بوطنيته وانتمائه الفلسطيني.

نعم ليس هذا هو ذروة إبداع هاني أبو أسعد ،على مستوى اللغة السينمائية، إلا أنه أكثر أفلامه جرأة في تناول تلك القضية الملتبسة.

*ناقد فني مصري