يأتي طرح الفيلم الروائي الأميركي The Apprentice، عن بدايات دونالد ترمب في عالم المال الأعمال، قبل أسابيع قليلة من الانتخابات الرئاسية الأميركية، في توقيت قد يكون له تأثير كبير على الصراع بين المرشحين.
الفيلم، المقرر طرحه 11 أكتوبر في دور العرض، متوقع أن يثير جدلاً جديداً حول المرشح الرئاسي ترمب، خاصة بين الناخبين الذين لم يحددوا موقفهم بعد، وفي الوقت نفسه سيعيد إحياء النقاش حول مواقف ترمب وأسلوبه في القيادة، ويمكن اعتباره عاملاً مؤثراً في تذكير الناخبين بسلوكياته المثيرة للجدل، في وقت حرج من الحملة الانتخابية، ما قد يُستغل من قبل منافسيه في السباق الرئاسي.
يأخذ فيلم The Apprentice اسمه من برنامج تلفزيوني شهير، شارك في تقديم وإنتاج النسخة الأميركية منه ترمب نفسه في بداية الألفية، ويحاول خلال 120 دقيقة، تقديم نظرة على جزء من العالم المعقد لترمب، في محاولة لفهم شخصية أثرت في مسار السياسة الأميركية.
ورغم أن الفيلم يبدأ بإخلاء مسؤولية تفيد بأن العديد من أحداثه غير حقيقية، إلا أن عرضه الأول في دورة مهرجان كان السينمائي الماضية لم يمر دون جدل، إذ اعترضت حملة ترمب الانتخابية على العمل، واعتبرت أن توقيت العرض يهدف إلى التأثير على الرأي العام وإلحاق الضرر بفرص ترمب في الفوز بمنصب الرئيس.
هذا الاعتراض ربما يزيد من انقسام مؤيدي ترمب ومعارضيه، إذ سيعتبر البعض الفيلم محاولة للتأثير على نتيجة الانتخابات، بينما يراه آخرون وسيلة مشروعة لتحليل شخصية ترمب.
رحلة صعود
فيلم The Apprentice، للمخرج الإيراني الدنماركي علي عباسي، يسلط الضوء على مرحلة هامة في حياة ترمب، إذ يركز على الفترة التي عاشها في السبعينيات والثمانينيات، وكيف تطور من رجل أعمال شاب ليصبح صاحب قوة مؤثرة في عالم المال، ولا يكتفي بعرض صعوده في مجال الأعمال، بل يعرض أيضاً صورة معقدة عن التحولات النفسية التي مر بها وهو يسعى لتحقيق طموحاته، مقدماً رؤية عميقة لشخصيته من خلال علاقته بمحاميه الشهير روي كوهن.
في هذه المرحلة المبكرة من حياته، كان ترمب شاباً طموحاً يسعى للنجاح في عالم العقارات، متأثراً بوالده، الذي كان يدير إمبراطورية عقارية في نيويورك، ويظهر في بداية الأحداث، وهو يعمل في شركة والده، يقوم بتحصيل الإيجارات من المستأجرين الفقراء الذين يعيشون في العقارات التي تملكها الشركة.
ورغم أنه يتبع تعليمات والده، يسعى ترمب لتحقيق شيء أكبر، حلمه هو بناء فندق فاخر بالقرب من وسط المدينة في نيويورك، ولكن هذا الطموح يتعقد بسبب الدعاوى القضائية التي تواجهها شركة عائلته بسبب التمييز العنصري في تأجير العقارات.
يقدم الفيلم في هذا الجزء، تحليلاً للعلاقات الأسرية وتأثيرها على تشكيل الشخصية، العلاقة بين ترمب ووالده تُعرض كعامل حاسم في صياغة طموحاته وطريقة تفكيره، إذ يرى في والده نموذجاً للنجاح يجب أن يتفوق عليه، هذا الصراع الداخلي بين الحاجة إلى إثبات الذات والرغبة في الاعتراف الأبوي، يُعد محركاً رئيسياً لتطور شخصية ترمب في الفيلم، وبداية طريقه نحو بناء علامته التجارية، التي ستصبح فيما بعد رمزًا للثروة والنجاح.
المبادئ الثلاثة
في هذا السياق، يظهر روي كوهن في حياة ترمب، ليصبح ليس فقط محامياً له، بل أيضاً معلماً ومرشداً.
كوهن، الشخصية القوية الصارمة غير المبالية، الذي اشتهر بأساليبه اللا أخلاقية في التعامل مع القضايا القانونية والسياسية، تجاوز تأثيره على ترمب الجانب المهني ليصل إلى تشكيل شخصيته وأسلوبه في الحياة العامة، ليقدم له مبادئه الثلاثة التي أصبحت جزءاً لا يتجزأ من فلسفة ترمب الشخصية: "الهجوم دائماً، عدم الاعتراف بأي خطأ، وعدم التراجع أبداً".
النجاح بأي ثمن، هو موضوع آخر يتكرر في الفيلم، الذي يعرض هذه الفكرة من خلال سلسلة مواقف يواجهها ترمب، ويضطر معها إلى اتخاذ قرارات صعبة تُظهر مدى استعداده للتضحية بأي شيء يعترض طموحاته، هذه الفكرة تتجلى في لحظات التوتر بين ترمب وكوهن، حيث ينقل الأخير لترمب فكرة أن العالم مقسم بين الفائزين والخاسرين، وأن عليه أن يختار في أي جانب يريد أن يكون.
بين الطموح وعدم الأمان
ما يميز السيناريو (كتبه الصحفي السياسي جابرييل شيرمان)، هو قدرته على تصوير ترمب كشخصية إنسانية، مزيج من الطموح وعدم الأمان، بعيداً عن الصورة الإعلامية المبالغ فيها التي أصبحت شائعة عنه في السنوات الأخيرة.
لعب سيباستيان ستان دور ترمب بأسلوب دقيق ومبسط، مبتعداً عن محاولات التقليد الكاريكاتوري التي غالباً ما ارتبطت بتصوير هذه الشخصية في وسائل الإعلام، فقدمه كرجل يعاني من انعدام الثقة بالنفس، يسعى بشكل دائم إلى أن يظهر بصورة مثالية، ما يمنحه بُعداً جديداً يستدعي التعاطف ولو للحظة.
أما جيريمي سترونج، فقدم أداءً استثنائياً في دور روي كوهن، المحامي القاسي والمعلم الذي يجذب ترمب الشاب إلى عالم السلطة والخداع، سترونج يتفوق في تقديم شخصية كوهن كمعلم ذو تأثير عميق في حياة ترمب المهنية والشخصية، ومع ذلك، من المؤسف أن النصف الثاني من الفيلم يدفع بشخصية كوهن إلى الهامش، مما يحوّل القصة إلى استعراض نجاحات وإخفاقات ترمب التجارية، بجانب علاقته السامة مع زوجته الأولى إيفانا (ماريا باكالوفا)، التي يغتصبها، بعد سخريتها من وزنه الزائد، في أحد المشاهد التي قد تثير الجدل بين مؤيديه.
ومع ذلك، يبقى الفيلم مثيراً للاهتمام؛ لأنه يعرض الجوانب المظلمة من رحلة ترمب نحو النجاح، واحدة من النقاط البارزة في الفيلم هي كيفية تصويره لانحطاط ترمب في عالم الأعمال، وكيف يبدأ في تعاطي "الأمفيتامينات"، وإجراء عمليات التجميل، والانخراط في علاقات مع نساء أصغر سناً.
يستكشف سيناريو The Apprentice بذكاء وحرفية مفهوم النجاح في السياق الأميركي، وكيف يتم بناء الإمبراطوريات الشخصية في ظل نظام رأسمالي شرس، من خلال شخصية ترمب كنموذج، مع التركيز على الأساليب المثيرة للجدل التي استخدمها لتحقيق أهدافه.
يُظهر الفيلم أيضاً، أن النجاح الذي يسعى إليه ترمب يأتي بتكلفة شخصية كبيرة، حيث يبدأ شيئاً داخله في التلاشي مع مرور الوقت، يتحدث ترمب أكثر ويستمع أقل، ويبدو أنه يفقد قدرته على إظهار أي عاطفة حقيقية، وهو ما يعكس تأثير التحولات التي مر بها.
من خلال هذا التحول التدريجي في شخصية ترمب، يستدعي الفيلم أعمالاً كلاسيكية مثل Citizen Kane وThe Godfather، لنجده مثل الشخصيات الرئيسية في تلك الأفلام، إذ ينتقل من شخص طموح إلى شخصية تستهلكها السلطة والمال، وصولاً إلى تخلّيه بطريقة مُهينة عن معلمه ومرشده كوهن.
دعوة للتأمل
استخدم المخرج علي عباسي في الصورة ألواناً داكنة وباهتة تذكّر بشرائط الفيديو القديمة، كما جاء استخدامه نسبة عرض إلى ارتفاع الشاشة التي تحاكي أشرطة VHS القديمة، ليجعل المشاهد يشعر وكأنه يشاهد تسجيلاً وثائقياً أو عرضاً تلفزيونياً من الثمانينيات، بجانب العناصر البصرية التي أسهمت بشكل كبير في استحضار الزمن، وربط السياق التاريخي بالشخصيات، ما جعل الفيلم يبدو كأنه جزء أصيل من تلك الفترة.
في فيلم The Apprentice، يترك عباسي المشاهد مع أسئلة حول مفهوم النجاح والسلطة، الفيلم لا يقدم حكماً نهائياً على شخصية ترمب، بل يترك المجال للجمهور لتكوين رأيه الخاص، الرسالة الأساسية للفيلم قد تكون دعوة للتأمل في كيفية تشكيل القيم الشخصية في عالم يتسم بالتنافس الشديد، وما إذا كانت الوسائل تبرر الغايات في رحلة السعي وراء النجاح.
في النهاية، يمكن اعتبار The Apprentice أكثر من مجرد فيلم سيرة ذاتية؛ إنه تحليل نفسي واجتماعي لشخصية مثيرة للجدل ولنظام ساعد في تشكيلها، بل هو رؤية سينمائية تتجاوز السطح لتصل إلى أعماق الشخصية الإنسانية، مما يجعله تجربة سينمائية تستحق المشاهدة والتفكير.