لم تكن صناعة الترفيه خلال السنوات الأخيرة مجرد مشهد يتسم بالإنتاج الغزير والعائدات العالية والسريعة، بل صارت ميداناً للاستثمارات الضخمة عالمياً، وللصراعات الاقتصادية والثقافية أيضاً.
هكذا شهدنا شركات عملاقة مثل "نتفليكس" و"أمازون" و"ديزني" تستثمر مليارات الدولارات في بناء منصات للبث المباشر تتيح للمشاهدين الوصول إلى مكتبة ضخمة ومتنوعة من الأفلام والمسلسلات عبر الإنترنت، متوقعةً تحقيق عوائد ضخمة، وهو ما لم يتم بالصورة المطلوبة، رغم مساهمته في تعزيز قاعدة المشتركين.
وبعد فترة استثنائية من النمو السريع، عُرفت بعصر "الذروة التلفزيونية"، تواجه تلك المنصات الكبرى، واقعاً جديداً يتطلب من القائمين عليها إعادة النظر في استراتيجياتهم أمام تباطؤ وتيرة النمو، وتغير أذواق الجمهور، وازدياد تحديات المنافسة.
تقرير Variety Intelligence Platform كشف النقاب عن تفاصيل هذا التغير الجذري، وقدم نظرة شاملة على مدى انتشار التوجهات العالمية الجديدة في مجال البث، وكيف باتت الشركات تستجيب للضغوط المالية المتزايدة من خلال تركيزها على الإنتاجات المحلية، وتبنيها لنماذج الاشتراك المدعومة بالإعلانات، واعتمادها تقنية الذكاء الاصطناعي في تكييف المحتوى.
الإنفاق.. وترتيب الأولويات
يشير التقرير إلى أن الإنفاق على المحتوى بلغ ذروته في الولايات المتحدة، والتي كانت لفترة طويلة المحرك الرئيسي للمنصات الكبرى، وتوقع أن ينخفض بنسبة تتجاوز 20% بحلول عام 2028.
ففي عام 2024، أنفقت ديزني وحدها 32.1 مليار دولار، بينما أنفقت كومكاست 27.5 مليار دولار، وأمازون 22.2 مليار دولار، تليها نتفليكس بـ19.6 مليار دولار.
تعكس هذه الأرقام قوة وحجم الاستثمار، ولكنها تُبرز في الوقت ذاته صعوبة تحقيق عوائد كافية تغطي هذه التكاليف.
ويتوقع ألا يقتصر التراجع في الإنفاق على الولايات المتحدة وحدها؛ فقد أدى الوضع المالي المتوتر إلى توجه شركات مثل "ديزني" و"وارنر براذرز" إلى تقليل الإنفاق على الإنتاجات المحلية، خاصة في الأسواق الأكثر تشبعاً مثل أوروبا الغربية.
وفي الوقت ذاته، تبحث منصات البث عن فرص جديدة للنمو في أسواق ناشئة لا تزال بحاجة إلى تنمية البنية التحتية الرقمية وثقافة البث، مثل أميركا اللاتينية، التي يتوقع أن تشهد نمواً بنسبة 19% خلال السنوات القادمة، وأفريقيا التي من المتوقع أن تحقق نمواً بنسبة 10%.
المحتوى المحلي.. وإعادة تشكيل الاستراتيجيات
أدت التغيرات في أذواق الجمهور حول العالم إلى تسليط الضوء على المحتوى المحلي بشكل غير مسبوق، بعد أن أظهرت تجارب سابقة، مثل نجاح مسلسل Squid Game الكوري الجنوبي، إمكانيات هائلة لتوسيع قاعدة المشاهدين من خلال إنتاجات محلية تعكس ثقافة المجتمع وتفاصيل الحياة اليومية في تلك الدول.
وقد شهدت الأعوام الأخيرة ارتفاعاً واضحاً في نسبة البرامج غير الإنجليزية على منصات البث؛ من 23% في 2021 إلى 33% في 2023، مع تزايد الإقبال على المحتوى المحلي من قبل جمهور يتطلع إلى رؤية ثقافاته الخاصة على الشاشة.
كما حقق الموسم الأول من المسلسل نجاحاً ساحقاً حيث تجاوزت مشاهداته 2.2 مليار ساعة خلال أول 90 يوماً من عرضه، ليصبح أكثر الأعمال غير الناطقة بالإنجليزية مشاهدة على نتفليكس.
هذه الأرقام دفعت نتفليكس إلى توسيع إنتاجها المحلي في دول آسيوية مثل كوريا الجنوبية واليابان، وباتت تستثمر بشكل أوسع في إنتاجات تلبي الطلب المتزايد على المحتوى الكوري، مثل مسلسل All of Us Are Deadالذي حقق نسبة مشاهدة مرتفعة أيضاً، وإن كانت أقل من Squid Game.
وتزامن توجه نتفليكس وأمازون للتوسع في إنتاج المحتوى المحلي عالمياً، مع ازدياد المنافسة مع المنصات المحلية التي تسعى لتلبية متطلبات الجمهور في مناطقها.
الأسواق الإقليمية.. وتغيير خريطة المنافسة
لكل منطقة خصائص ثقافية وديموجرافية تؤثرعلى استراتيجيات الشركات العالمية، ففي أميركا اللاتينية، على سبيل المثال، تتمتع نتفليكس بحصة سوقية قوية، حيث يُتوقع أن يصل عدد مشتركيها في المنطقة إلى 54.9 مليون مشترك بحلول 2029.
في حين تحظى ديزني+ بـ22.2 مليون مشترك وأمازون بـ21.1 مليون مشترك، ما يعكس هيمنة الشركات الأميركية على السوق اللاتينية بنسبة تصل إلى 83% من إجمالي المشتركين.
وفي إفريقيا، تسيطر منصتا Showmax ونتفليكس على 70% من السوق، بينما تتوزع الحصة المتبقية على عدد من المنصات المحلية، كما ساعد التعاون بين Showmax وComcast على ازدياد شعبية المحتوى المحلي، في حين استطاعت نتفليكس زيادة حصتها من خلال تقديم برامج محلية تتناسب مع الجمهور الأفريقي.
أما منطقة الشرق الأوسط وشمال أفريقيا، فقد شهدت دخولاً متأخراً إلى سوق البث، لكنها في المقابل حققت نمواً سريعاً، إذ بلغت إيراداتها حوالي مليار دولار في 2023، وتتصدر منصة "شاهد"، المدعومة من مجموعة MBC السعودية، السوق بنسبة 22% من إجمالي المشتركين، تليها نتفليكس وStarzplay Arabia بـ17% و18% على التوالي.
الذكاء الاصطناعي.. والتوطين عبر الدبلجة المتطورة
مع تطور الذكاء الاصطناعي، بدأت المنصات بالاستفادة من هذه التقنية في تكييف المحتوى للمشاهدين حول العالم.
وتشير تقارير إلى أن الذكاء الاصطناعي يمكن أن يُستخدم لدبلجة المحتوى بحيث تتوافق حركات الفم للمتحدثين مع الصوت الجديد، مما يجعل تجربة المشاهدة أكثر واقعية.
وبحسب تقرير "فارايتي" فإن حوالي 47% من الجمهور الأميريكي استعدادهم لمشاهدة محتوى أجنبي إذا تمت دبلجته بشكل يتماشى مع حركة الفم، بينما أظهر 43% منهم استعدادًا إذا كانت الأصوات الجديدة قريبة من أصوات الممثلين الأصليين.
وتتوقع شركات البث أن إتقان الذكاء الاصطناعي في الدبلجة سيساهم في تعزيز ربحية توطين المحتوى عبر تخفيض تكاليف الإنتاج وزيادة الوصول إلى جمهور أوسع.
ورغم أن هذه التقنية ما زالت في مراحلها الأولى، فإن العديد من الخبراء يرون أنها ستعيد تشكيل اقتصاديات الصناعة وتوفر حلولًا مبتكرة للتحديات اللغوية والثقافية في المحتوى الرقمي.
نماذج الاشتراك.. والطبقات المدعومة بالإعلانات
لمواجهة تباطؤ نمو عدد المشتركين، بدأت الشركات في استكشاف نماذج جديدة لزيادة الإيرادات، من بينها تقديم خيارات اشتراك مدعومة بالإعلانات.
وقد بادرت منصات مثل نتفليكس وديزني+ إلى تجربة هذا النموذج في بعض الأسواق، حيث يمكن للمشتركين الاختيار بين دفع اشتراك أعلى للحصول على تجربة خالية من الإعلانات أو الاشتراك بخيار أرخص مع إعلانات مدرجة.
في المقابل، لا يزال هذا النموذج غير جذاب في أسواق مثل الهند، حيث تفضل نتفليكس تخفيض أسعارها لجذب المشتركين بدلًا من تقديم إعلانات.
وتُظهر البيانات أن الخيارات المدعومة بالإعلانات قد تكون أكثر نجاحاً في الأسواق الأكثر قدرة على الدفع مثل الولايات المتحدة وأوروبا الغربية، حيث يمكن للمشتركين الاختيار بين الدفع مقابل تجربة خالية من الإعلانات أو الاشتراك في خطط مدعومة .
المنافسة مع وسائل التواصل الاجتماعي
لم يعد التحدي الأكبر لمنصات البث يقتصر على جذب المشاهدين من خلال الأفلام والمسلسلات الطويلة، بل أصبحت تواجه منافسة شرسة من وسائل التواصل الاجتماعي، حيث باتت الفيديوهات القصيرة تستحوذ على اهتمام المتابعين، خاصةً بين الشباب.
ووفقًا لدراسة Simon-Kucher، يتجه الجمهور لقضاء وقت أطول على المحتوى القصير على وسائل التواصل الاجتماعي، مما يفرض على منصات البث تطوير استراتيجيات للتنافس على اهتمام هذا الجمهور.
تحولات صناعة البث العالمي
ويخلص تقرير "فارايتي" إلى أنه بينما تواصل شركات مثل نتفليكس وأمازون وديزني+ قيادة صناعة البث المباشر عالمياً، فإن نجاحها المستقبلي سيعتمد على قدرتها في التكيف مع خصوصيات الأسواق المحلية وتقديم تجارب مشاهدة تتوافق مع احتياجات وتفضيلات المشاهدين المتنوعة حول العالم.
وبالنظر إلى الاتجاهات الحالية، يبدو أن التوازن بين الإنتاج المحلي والجاذبية العالمية سيظل المفتاح لتحقيق التفوق في هذه الصناعة المتغيرة.
وستظل مسألة القدرة على تقديم محتوى يلبي الأذواق العالمية مع احترام التفاصيل الثقافية لكل منطقة عاملًا حاسماً في بناء قاعدة جماهيرية واسعة ومتنوع، في وقت تتزايد فيه التحديات وتشتد المنافسة، مما يجعل مستقبل صناعة البث المباشر مجالًا مليئًا بالتحديات والفرص.
وهكذا، لن تكون صناعة البث محصورة في سباق الوصول إلى أكبر عدد من المشتركين، بل في بناء تجربة متكاملة تضع المشاهد في قلب كل قرار، وتضمن تحقيق توازن بين الربحية والالتزام بإنتاج محتوى يعكس تطلعات متزايدة لجمهور عالمي متنوع.