ضمن مشاركات السينما السعودية في الدورة 45 لمهرجان القاهرة السينمائي الدولي، جاء عرض فيلم "ثقوب" في مسابقة آفاق عربية من تأليف الكاتب فهد الأسطا، وإخراج عبد المحسن الضبعان، وهو الفيلم الفائز منذ أكثر من 3 أعوام في مسابقة ضوء لدعم الأفلام التابعة لوزارة الثقافة السعودية.
يعد "ثقوب" الفيلم الروائي الثاني للمخرج عبد المحسن الضبعان، والذي أنجزه بعد 6 أعوام من عمله الأول "آخر زيارة"، الفائز بجائزة لجنة التحكيم في مهرجان مراكش السينمائي، وكان أيضاً أول فيلم عربي يتم اختياره لمسابقة "شرق الغرب" في مهرجان كارلوفي فاري السينمائي الدولي.
في "ثقوب"، اختار الضبعان هذه المرة استكشاف عناصر التشويق والإثارة النفسية، مستعيناً بعدة طرق من إثارة الإحساس البطيء بالحركة في فيلم ساكن ومشحون بالرمزية، فكيف اختمرت التجربة لتصبح امتداداً جديداً لرؤيته السينمائية؟.
جاذبية التجريب نحو التجريد
ينطلق الفيلم من مبدأ أن تأثير الفن يتمحور في الأساس حول الإحساس النفسي الذي يتركه، حيث يصبح الفن وسيلة لفهم الذات والآخر.
هذه الفرضية تتيح مسوغاً جوهرياً لكل فنان يسعى لتشكيل عوالمه، وتتجلى بوضوح في النهج الذي يتبناه المخرج عبد المحسن الضبعان، إذ يعكس الفيلم نمطاً مألوفاً في تجارب العديد من المخرجين السعوديين في أعمالهم الأولى والثانية، وهو نمط اللجوء إلى رسم شخصياتهم الرئيسية نحو الفردانية والعزلة الوجودية، وبالتالي، تنتج عن تلك التركيبة الإنسانية عناصر مرتبطة بالمينمالية كمفهوم جوهري في بناء عالمهم السينمائي.
منذ المشاهد الأولى، يبدو جلياً أن الفيلم يتبنى التقشف، يبرز الشح في الشخصيات، حيث تنحصر الحبكة حول الشقيقين "تركي" و "راكان" (يقوم بدورهما الممثل مشعل المطيري) معلقين في عاصفة ذهنية عنيفة رغم تصوير نمط حياة راكان أهدأ من المعتاد.
الحوار المحدود، الذي يترك مساحات للصمت الثقيل واللغة البصرية بين الابن ووالدته المسنة (تقوم بالدور الممثلة تهاني عبد الله) يضيف بعداً آخر للأحداث.
التفاصيل المكانية البسيطة، في استخدام الحد الأدنى من الأثاث كجزء من البناء الدرامي، وأزقة الحي المتواضع في الرياض، كما تتداخل إسقاطات الضوء والظل مع دقة شريط الصوت لتصدير إحساس الانعكاس والانكسار، في تجسيد صراعات الشخصيات، بالإضافة إلى تجلي السينوغرافيا في تصميم المشاهد وتوظيف المساحات الفارغة و الفراغات كتعميق الشعور بالعزلة.
نحن أمام لغة في غاية الحرفية وجمال التكوين البصري، لغة تنشر خطوطها لتعزيز شعور الأبطال المنعزلين والعالقين في عالم قاسٍ، وفي غمرة هذه اللغة، يظهر الثقب كمعنى رمزي في الفيلم، ليكون النقطة التي تلتقي عندها جميع هذه الخطوط، وكذلك مركز الإسقاط، وبمجرد أن يكتمل التتبع على مستوى الثقب، يفترض بعدها استكشاف الأشياء الضبابية.
يبدأ الحوار بالتمهيد حول انتقال الزوجين إلى منزل جديد، والاستقلال عن منزل الوالدة، حين تم اختيار المنزل لوحظ وجود هوة كبيرة في أحد الجدران، الزوجة (تقوم بالدور ببساطة وتلقائية الممثلة مريم عبد الرحمن) رغم ملاحظتها للثقب، لم تُظهر تقبلها له بقدر ما كانت تسعى للابتعاد عن منزل والدة زوجها لسبب غير معلن. حين رأت الثقب، نظرت إلى زوجها بخوف بأنه "بيت ممتاز"، وأردفت أن "بقية الأمور من السهل إصلاحها". هذا التصرف والنظرة التي رافقته يعكسان حالة من التوتر الخفي، وكأن الثقب ذاته يمثل خللاً أكبر يتجاوز المادي إلى المعنوي والنفسي.
تشير هنا الكلمات المبطنة والعابرة في الفيلم إلى ما هو أكثر من ثقب داخلي يتجاوز الظاهر علناً على الحائط، والثقب هنا ليس مجرد تفصيل مكاني بل شروخ ذاتية عميقة، إذ يتحول هذا الثقب الكبير من مشهد تلو الآخر، إلى نقطة محورية تحمل أبعاداً نفسية مؤلمة. وهو الأمر الذي يدفع بالمشاهد إلى محاولة تفكيك الرموز كلما ازداد الصمت واعتلت اللغة البصرية، وتعددت أشكال الثقوب في محور العنف الحركي المفاجئ.
كل هذا الجرح البصري الفني في أشكاله المتعددة وإسقاطه على العلاقات، تُخفيها الشخصيات في صمتها الطويل. فتدفع المشاهد لتأمل هذه التفاصيل، محاولاً قراءة ما وراء السطح، فهل كان من اليسير قراءة ماورائيات العمل؟.
المهلة السينمائية
رغم أن الرمزية أداة فعالة في التعبير، إلا أن الفيلم بدا عاجزاً عن الحفاظ على تماسكه السردي، الشخصيات هنا لا تعيش صراعاتها في السياق الاجتماعي العادي، بل في سياق أقرب إلى أفلام النوار، وأفلام النوار كما نعهدها تعتمد على الإيقاع الذي يشبه نبض القلب تحت الضغط، والمهلة السينمائية تبرز هذا الإيقاع من خلال التباطؤ المبرمج في الأحداث.
ولكن، إذا ما افترضنا أن تذبذب الرؤية هنا كان مقصوداً ومدروساً للحيرة والغموض، فلا الأحاديث المقتصدة استطاعت أن تنسج خيوط الأحداث، ولا الصمت بمهابته والذي تلتزم به كلاً من الأم، الزوجة، الشقيقان، الابن، قد تمكنوا من كشف خلفية هذا الكدر المشاع بين العائلة!
لقد تكررت مفردات مثل (عدم الغفران) على لسان البطل، بينما لا يعود المخرج إلى الوراء ولو مرة واحدة لاختراق سر الماضي، وهو أمر غير شرطي بالمطلق، لكن في الوقت ذاته لا يسير في الحاضر بإيقاع منتظم، بل يدور حول نفسه وفي هوة ثقوبه.
غياب القفزة السينمائية المناسبة، وافتقار التباطؤ المدروس في السرد، جعلت الأحداث تبدو متقطعة وغير مترابطة، مما يصعب على المشاهد تتبع تطورات القصة والانغماس في عالم الشخصيات. هذه الضبابية المكثفة افتقرت إلى الوضوح الفني اللازم لربط المشاهد بمغزى الأحداث.
بين الحذر والجرأة الفنية
يتعامل كل من المخرج والكاتب بحذر شديد في طرح العلاقات، حيث نشهد تلميحاً غير مباشر إلى احتمالية وجود توتر خفي بين الزوجة وشقيق زوجها، مما يشكل عبء التحليل والاستنتاج على عاتق المتلقي، استنتاج يبدو أقرب إلى اجتهادات شخصية منه إلى تأكيدات درامية واضحة.
هذا الحذر ينبع من إدراك المخرج لحساسية الموضوع في سياقاته الاجتماعية والدينية، بناءً على ذلك اختار أن يجسد الفكرة عبر مشهد واحد، ومررها طوال الفيلم بين الشخصيات في إشارات دقيقة مضمنة في نظرات مقتضبة، مسافات محسوبة، وصمت ثقيل.
تعكس هنا محاولة المخرج السير على خيط رفيع بين الجرأة والالتزام، حيث يقترب من حدود القضايا الشائكة لكنه يتوقف قبل تجاوزها، تاركاً الفضاء مفتوحاً للتأويل دون فرض تفسير بعينه.
ربما يكمن التحدي الأكبر في اختيار المخرج عبد المحسن الضبعان وبقية المخرجين الموهوبين، هو قيامهم بالتجريب في تمرير الهواجس الفنية بعيداً عن معطيات السينما المرغوبة.
إذ نستطيع أن نستشعر حساسيتهم البالغة وهم يفرون من الواقع إلى الآلام، الألم الذي يجعل الشخصيات تنطوي على نفسها، وتشعر بالظمأ إلى ما وراء الحُجب، وما تنفك تبحث عن كل محرم من الأفكار والمشاعر، بكل الألام المنصهرة بالشك والقسوة والندم والخوف. حان الوقت أن تتحرر خارج إطار العزلة الدرامية المعهودة، كي لا تصبح عبارة عن لغز مرهق يصعب تفكيكه.