في فيلمه الروائي الأول، الذي يحمل اسم "إلى عالم مجهول"، والمعروض في المسابقة الرسمية لمهرجان البحر الأحمر، يعود مهدي فليفل إلى عالمه المألوف الذي طالما ارتاده في أعماله الوثائقية والقصيرة السابقة: عالم الشتات الفلسطيني بين المخيمات وأوروبا.
هذا العالم الذي عرفه وعايشه فليفل منذ طفولته، وحتى عندما انتقل إلى حياة أخرى مستقرة، كمواطن دنماركي ناجح، درس السينما وتخرج في أفضل معاهدها بلندن، ثم صار مخرجاً معروفاً دائما ما تنتزع أفلامه الجوائز والثناء، لم يستطع أن يغادر عالمه الأول، وصنع عنه معظم أفلامه.
حكاية لا تنتهي
بالرغم من كونه فيلماً روائياً، إلا أن المتابع لأعمال مهدي فليفل السابقة سيشعر أن "إلى عالم مجهول" هو امتداد لحكاية الطويلة التي بدأها بفيلمه الجميل "عالم ليس لنا"، 2012، الذي رصد فيه محاولات بعض الشباب الفلسطينيين من أقاربه في مخيم الحلوة بلبنان للهجرة إلى اليونان أو أي بلد أوروبي آخر، وما تسفر عنه هذه المحاولات، وهي الرحلة التي تابع نتائجها في أربعة أفلام لاحقة هي"زينوس"، 2014، "عودة رجل"، 2016، "رجل يغرق"، 2017، ثم في "ثلاثة مخارج منطقية"، 2020.
في هذه الأعمال تتبعنا مسيرة حياة رضا وزينوس وغيرهما من شباب مخيم الحلوة، في تيههم المتواصل عبر بؤس المخيمات وعسر السفر وصعوبة التأقلم والسقوط في عالم الإدمان والانحراف والجريمة والعودة المرة، مرة أخرى، إلى بؤس المخيم.
حيلة خيالية
هنا يبدو وكأن مهدي فليفل يرغب في عرض وجه آخر للتيه الفلسطيني، أكثر درامية وحرية في التناول. ربما في الأعمال الوثائقية السابقة لم يستطع أن يقول كل شئ، نظرا لحساسية بعض الموضوعات والأحداث، خاصة أنها تقال على ألسنة ومسئولية أصحابها.
ومع أن "إلى عالم مجهول" يحتوي على كثير من الدراما السينمائية، من مواقف بوليسية خطرة ومواجهات عاطفية عاصفة وقصة مترابطة الأحداث والمسار، خيال بالمعنى العام، لكن هذا الخيال يبدو "واقعياً" و"توثيقياً" ومتوقعا، وذلك بفضل معرفة صانع الفيلم، ومعرفتنا السابقة، بهؤلاء الشخصيات وأصدقائهم وتجاربهم الخطيرة في الهجرة غير الشرعية، والعيش على حافة العالم.. ذلك العالم الذي ليس لهم.
الفلسطيني التائه
يبدأ "إلى عالم مجهول" بشابين فلسطينيين يتسكعان في شوارع آثينا، قبل أن يقوما بخطف حقيبة سيدة عجوز والفرار، ليكتشفا أنها لا تحتوي سوى على بعض الأدوية وخمسة يوريهات!
الشابان هما شاتيلا (على اسم المخيم الذي شهد واحدة من أبشع المذابح) ورضا (الذي يحمل اسم الشخصية الحقيقية التي ظهرت في أعمال فليفل سابقة الذكر). يؤدي دور "شاتيلا" محمود بكري، الذي ظهر من قبل في فيلمي "الأستاذ" و"علم" وهو صاحب حضور طاغ ووجه حاد قوي وموهبة تمثيلية طبيعية.
ويؤدي دور "رضا" آرام صباح، وهو وجه طازج جاء به فليفل من طين الواقع، ومن الطريف أنه يشبه "رضا" الحقيقي كثيراً.
يضم الفيلم أيضا فريق من الممثلين، قليل منهم معروف مثل السوري منذر رياحنة واليونانية أنجليكا بابوليا، وبعضهم ليسوا من المحترفين، ولكن لا تشعر بفارق كبير، إذ يجيد فليفل إدارة ممثليه بشكل جيد ويستخرج منهم أداءا طبيعيا للغاية.
"شاتيلا" و"رضا" أبناء عمومة، وشاتيلا يعتبر رضا أخاه الأصغر، كلاهما جاءا إلى أثينا هربا من جحيم المخيم وبحثا عن مصدر رزق وحلم بالانتقال إلى بلد أفضل مثل ألمانيا.
"شاتيلا" قوي الشخصية، قاس، لديه زوجة وطفل حديث الولادة في المخيم، ولكن من الواضح أنه عاش متسكعا في الشوارع لسنوات طويلة.
"رضا" على العكس، رقيق وشديد الحساسية، ولكنه ضعيف للغاية، مدمن للمخدرات لا يستطيع التعافي، حتى لو اضطره هذا الإدمان للانحراف جنسيا. يتسبب رضا في ضياع المال الذي جمعه الإثنان تمهيدا للسفر إلى ألمانيا بجواز سفر مزور. وعندما يظهر في حياتهما صبي فلسطيني غزاوي بلا مأوى، لا يعرف أحد كيف انتهى به المطاف في أثينا، يحاولان مساعدته للسفر إلى عمته في إيطاليا على أمل كسب مبلغ مالي كبير، ولكن الأمور تتطور إلى سلسلة من المصائب المتلاحقة.
قسوة النظرة وحنانها
نظرة فليفل وتحليله للشتات الفلسطيني نافذة، صريحة وقاسية مع أنها مفعمة بالتعاطف. وهو يبدأ فيلمه بعبارة لإدوارد سعيد عن التيه الفلسطيني، وفي مشهد متأخر يتلو أحد الرفاق مقطعا من قصيدةمحمود درويش "مديح الظل العاري"، ولكن من يتلو القصيدة مدمن وتاجر للمخدرات صعلوك، كان يتمنى أن يكون شاعراً، وانحدر به الحال إلى المستنقع، وهو يتلوها على "شاتيلا" و"رضا" وعدد من الضائعين الآخرين في المتاهة.
ويطول هذا كل الشخصيات الفلسطينية الموجودة داخل هذا الفيلم وهذا المكان والواقع، باستثناء شخصيتي زوجة "شاتيلا" وعمته (والدة رضا)، واللتين لا نراهما على الإطلاق، إذ تسكنان المخيم بعيدا جدا، تأملان وتحلمان بأن يستطيع الرجال تغيير الواقع للأفضل، ولكن الرجال قد هبطوا إلى قاع الجحيم.
"إلى عالم مجهول" فيلم مفعم بالعاطفة، ولكنه يخلو من الرومانتيكية ومن "تجميل" أو تطليف الشخصيات أو واقعهم بالمرة.
هذا واحد من أقسى وأصدق الأعمال الفلسطينية بشكل خاص، والأعمال التي تتناول حياة المهاجرين غير الشرعيين بشكل عام.
وهذه البصيرة النافذة والصراحة الجارحة لم تكن لتتأتى من أي مخرج آخر لم يعاشر هذه الشخصيات والواقع على مدار عقدين، وصنع عنها لا فيلماً واحداً، ولكن سلسلة من الأفلام، يمكن أن نقارنها، على سبيل المحاكاة الساخرة، بالملاحم الشعرية والسينمائية. ولعل أقرب تشبيه لما فعله مهدي فليفل هو ما فعله الأديب الأيرلندي جيمس جويس حين حاكى، وهدم، الأوديسا الإغريقية في روايته "أوليسيس" منذ قرن تقريباً.
يهدم مهدي فليفل قالب الفيلم الفلسطيني النمطي، ليصنع شيئا صادماً ولكن صادقاً، ومن خلال هذا الصدق يعيد بناء النمط، فيجعله أكثر إنسانية ومدعاة للفهم والتعاطف.
لولا المعادلات!
"إلى أرض مجهولة" خطوة كبيرة في مسيرة صانع أفلام موهوب وصاحب رؤية وقضية.. غير أنه يحمل بعض بصمات معادلات الانتاج السينمائي الحالية، والتي تعتمد على جهات الدعم المتعددة، التي يشترط بعضها اجراء "تطوير للسيناريو"، وعلى مشاركة أطراف عدة في الكتابة والانتاج.
وتتمثل هذه "البصمة" تحديداً في الثلث الأخير من الفيلم، حين يجنح بشكل مفتعل بعض الشئ لحبكة عصابات بوليسية تعتمد على الفعل والحل العضلي، ورغم أنها مشوقة إلا أنها تبعد بالفيلم عن طبيعته الاجتماعية الواقعية، وتجعل المشاهد يفقد ارتباطه بالشخصيات الرئيسية لبعض الوقت، قبل أن يعود إلى مواجهة أزمتها الإنسانية والنفسية الأصلية مع نهاية الفيلم.
ولولا هذه المعادلات التي أحدثت بعض النشاز في نسيج الفيلم واسلوبه، لكان له أن يصل إلى مكان آخر في خريطة السينما العالمية.
* ناقد فني