
في أفلام الرعب، وخارجها، لا تموت المسوخ أبداً، قد ترقد لبعض الوقت، أو تفقد الحياة مؤقتاً، ولكنها تعاود النهوض من جديد، لتمارس هوايتها الأزلية في إزعاج الأحياء وقض مضاجعهم.
وكلما أفلست هوليوود، ونضب نبع أفكارها، بحثت في دفاترها القديمة عن مسخ نائم، لتوقظه من جديد، وتعيده إلى الحياة في فيلم، أو سلسلة أفلام.
من أقدم هذه المسوخ وأشهرها ما يعرف بالرجل الذئب، The Wolfman، أو المستذئب، Werewolf، الذي ابتدعته شركة "يونيفرسال" منذ أربعينات القرن الماضي، من بين تشكيلة كبيرة من المسوخ والمتحولين مثل د. جيكل ومستر هايد، دراكولا، فرانكنشتين، المومياء، الرجل الخفي، والرجل الذئب، اعتمدت الشركة عليهم، وربحت من وراءهم ملايين الملايين.
الدفاتر القديمة
ومنذ خمسة عشر عاماً تقريبا قررت "يونيفرسال"، التي تراجعت أسهمها، أن تعيد إنتاج مسوخها القديمة على استحياء وتردد، ولكن عندما نجح The Invisible Man، الذي أخرجه لاي وانيل في 2020، دبت الحياة مجدداً في الشركة (ومسوخها المؤجلة) فعهدت للمخرج روبرت إيجرز بفيلم Nosferatu الذي حقق للشركة أكبر نجاح عرفته خلال العقدين الأخيرين، كما عهدت بالرجل الذئب، إلى وانيل، الذي قرر تغيير اسم الشخصية قليلاً، فحذف ألف ولام التعريف، وفصل كلمتي رجل وذئب ليصبح Wolf Man.. وهو نفس ما فعلته الشركة عندما استبدلت دراكولا بـ Nosferatu.
ولكن إذا كان Nosferatu فيلماً جيداً جذاباً للجمهور (بالرغم من الملاحظات عليه)، فإن Wolf Man بمثابة كارثة، مقارنة بمعظم النسخ السابقة، وعلى كل المستويات: الكتابة والإخراج والتمثيل وحتى مشاهد الرعب التي تتسم بالسذاجة، ولعل الشيء الوحيد الذي يعمل في الفيلم هو مشاهد الالتهام الدموية المنفذة بواسطة المؤثرات الخاصة! والغريب أن الفيلم يضم العديد من المواهب التي لمعت في أعمالها السابقة بداية من وانيل إلى كريستوفر أبوت الذي يلعب دور المستذئب وجوليا جارنر التي تؤدي دور الزوجة وماتيلدا فيرث في دور ابنتهما.
في السيناريو الذي كتبه وانيل مع كوربت تاك (زوجته) يحاول الاثنان "عصرنة" الأسطورة عن طريق تعديلين رئيسين، الأول هو التركيز على جعل "الاستذءاب" رجوليا بينما "الأنسنة" نسائية.
والثاني هو جعله مرضا ينتج عن "فيروس" ينتقل من الحيوانات، وليس لعنة أو عقاباً أو تجسيداً لغريزة الافتراس، وكما يمكن أن تلاحظ، فإن المعنيين لا يتسقان: إذا كان الاستذئاب رجلاً، فهو ليس فيروس. وإذا كان مرضاً، فالفيروس لا يميز بين الجنسين!
الإنسان والذئب.. تاريخ مشترك
فكرة تحول الإنسان إلى ذئب، أو امتلاكه لطبيعتين واحدة إنسانية والثانية حيوانية، واحدة من أقدم الأفكار التي تناولتها الأساطير والحكايات الشعبية. واحدة من أقدم الحكايات المسجلة نجدها في ملحمة جلجامش، حيث تقوم حبيبة جلجامش بتحويل حبيبها السابق إلى ذئب.
أما في الأساطير الإغريقية، فتتنبأ عرافة لكبير الآلهة كرونوس، بأن أحد أبناءه سيأكله، فيقوم كلما أنجب ولدا بأكله، فيما عدا زيوس، الذي تخفيه أمه، فيكبر ويستقوي ويأكل أبيه، ويصبح كبير الآلهة، الحكاية في جلجامش تسجل بدايات الخوف من الأنثى الذئبة، بينما تسجل الأسطورة الإغريقية الصراع على السلطة بين الرجال.
حكاية إغريقية أخرى تدور حول الملك ليكاون أركاديا، الذي أغضب زيوس، بتقديم له طعام من لحم بشري ليختبره، فيحوله زيوس هو وأبناءه إلى ذئاب. وهذه الحكاية، على عكس الأولى، تشير إلى تحضر زيوس ورفضه لأكل اللحم البشري وعقابه لمن يفعل ذلك!
بعد الإغريق نجد أيضا أن الأساطير الرومانية مليئة بالمستذئبين، حتى أن روما نفسها تأسست على يد الشقيقين رومولوس وريموس، اللذين أرضعتهما ذئبة، ولم يزل شعار مدينة روما إلى اليوم يصور طفلين يرضعان من ذئبة!
في العصور الوسطى تحولت معظم الأساطير الوثنية إلى حكايات شعبية مخيفة، كان يعتقد معظم الناس أنها حقيقية، وحتى القرن الثامن عشر كان يعتقد بوجود المستذئبين في الواقع، وكثيرا ما كان يقبض على "بعضهم" ويحاكمون ويقتلون.
المدهش أن أساطير مماثلة يمكن العثور عليها في مختلف الحضارات، من الدول الإسكندنافية إلى سكان أميركا الأصليين، ورغم اختلاف النسخ هناك بعض السمات التي تجمع بينها، مثل تحول إنسان إلى ذئب أو كائن يشبه الذئب، وغالباً ما يكون ذلك ليلة اكتمال القمر! ولكن بينما يعتبر الاستذئاب في الميثولوجيا الإغريقية عقاب أو لعنة، نجده في ثقافات أخرى مثل شمال أوروبا وأمريكا الأصلية وإفريقيا، شيئاً إيجابياً يرتبط بالأبطال أو المحاربين الخارقين، الذين يحققون التوازن بين الطبيعة والإنسان ويملكون القوتين، ولعل حكايات "ولفرين" من عالم X-Men أشهر مثال على ذلك.
مع حلول عصر العلم والصناعة خفت حدة الاعتقاد في "واقعية" المسوخ، ما دفع بها إلى صفحات الأدب، ومن القصص الشهيرة التي ظهرت في منتصف القرن التاسع عشر "الذئب الأبيض" لفرانسيس بيكون، و"الذئب والمرأة" لجيرارد دي نيرفال. والنسخ الأولى من حكاية ذات الرداء الأحمر، التي يتحول فيها الذئب إلى الجدة!
وجدير بالذكر أن تاريخ الاستذئاب (على عكس Wolf Man) لم يفرق بين الرجال والنساء، بل على العكس تقرن الأساطير الأقدم عمراً بين النساء، وخاصة الأمهات، والذئاب، ولعل القارئ يذكر كتاب "نساء يركضن مع الذئاب" لمؤلفته كلاريسا بنكولا، التي تمتدح فيه تلك القوة الوحشية البدائية للطبيعة ونساءها.
في Wolf Man تقرن الزوجة، وهي صحفية وكاتبة ناجحة (على عكس الزوج)، بالثقافة والتحضر، بينما يقرن الزوج بالطبيعة والغريزة العمياء. وانقلاب الزوج إلى ذئب بمجرد عودته للقرية المطلة على الغابة يذكرنا بفيلم The Shining لستانلي كوبريك، 1980، الذي يتحول فيه كاتب فاشل إلى شبه "ذئب" يطارد زوجته وابنه بهدف قتلهما.
ذئاب "يونيفرسال"
في القرن العشرين باتت أسطورة الرجل الذئب، مع بقية المسوخ المعتادين، من الموضوعات المفضلة في السينما وقصص الرعب الشعبية. وكان أول فيلم أنتجته "يونيفرسال" بعنوان The Wolf Man في 1941، من إخراج جورج واجنر وبطولة لون شيني الذي أداها في عدة أفلام.
في الفيلم يتحول شاب اسمه لاري تالبوت إلى مستذئب عقب تعرضه لعضة ذئب (لاحظ التشابهات بين أسطورة مصاص الدماء والرجل الذئب هنا)، وفي النهاية يقوم والد تالبوت بقتل ابنه المتحول، دون أن يعلم أنه المذوب.
بعد نجاح الفيلم قدمت الشخصية في عدة أفلام بعضها رعب وبعضها كوميدي، وبعضها خليط من مسوخ عديدين، ولكن الفيلم الأصلي أعيد إنتاجه في 2010 من إخراج جو جونستون وبطولة بينيثيو ديل تورو وأنتوني هوبكنز وإيميلي بلانت. وفي هذا الفيلم يتبين أن الأب هو الذئب الذي يعض البطل ويحوله لذئب، كما في الفيلم الأحدث!
وبعيدا عن "يونيفرسال" ظهرت أعمال أخرى منذ تسعينيات القرن الماضي في السينما والأدب التجاري تحول المسوخ إلى عشاق رومانسيين. وبعد نجاح نسخة كوبولا من "دراكولا" برام ستوكر، 1992، قام جاك نيكلسون بلعب دور الرجل الذئب في فيلم Wolf، 1995، أمام الجميلة ميشيل فايفر، التي تتحول إلى ذئبة أيضاً في المشهد الأخير من الفيلم، لينطلق الاثنان إلى الغابة سويا! وطبعا لا يمكن إغفال الإشارة إلى سلاسل روايات Underworld وTwilight التي تحولت إلى أفلام أيضاً.
طبقات من الاستذئاب
تعتمد أفلام المسوخ عادة على عدة عناصر:
اللعب على الطبقات النفسية والأنثروبولجية والطبقية والسياسية التي تكمن تحت الأسطورة وتفاصيلها، من ذلك مثلاً العلاقة بين الأبناء والآباء، التحول إلى البلوغ لدى الصبية، والدورة الشهرية القمرية لدى الفتيات، التوحد مع الطبيعة الوحشية، علاقات السلطة والمال (تذكر، مثلاً فيلم The Wolf of Wall Street، الذي يقارن أساطين البنوك والبورصة بالذئاب، كلما تعددت هذه الطبقات، والتبست كلما أثرى ذلك العمل الفني، وزاد من غموضه وسحره.
في Wolf Man تأويل واحد للحكاية هو علاقة الآباء بالأبناء، يبدأ الفيلم ببطلنا صبياً صغيراً يذهب مع والده إلى الغابة حيث يلتقيان بالرجل الذئب وينجوان بأعجوبة، الولد يعاني من عصبية أبيه الذي يعنفه خوفاً عليه، ما يتسبب في عقدة له. وبعد مرور سنوات طويلة نرى الصبي، وقد أصبح رجلا يعيش في المدينة مع زوجته وابنته، لقد ترك حياة البرية الوحشية، ويحاول أن يصبح كاتباً "متحضراً"، لكن حياة الغابة تستدعيه مجدداً عندما يعلم بأن أبيه الذي اختفى منذ سنوات قد اعتبرته السلطات ميتاً، فيقرر أن يصطحب زوجته وابنته لتريان جمال الطبيعة في البلدة التي جاء منها.
وبمجرد وصولهم يهاجمهم الرجل الذئب، ويقتل مرافقهم ثم يطاردهم إلى المنزل، لاحقاً نعرف أن الرجل الذئب هو الأب المفقود، الذي يقوم بعض ابنه، فيتحول الأخير إلى ذئب يقتل أبيه دفاعاً عن النفس، ثم يستدير نحو زوجته وابنته ليحاول التهامهما أيضاً، مكرراً ما فعله الأب الذي يأكل أبناءه.
وينتهي الفيلم بالزوجة والابنة منتصرتين بعد التخلص من الرجال الذئاب، هذا التأويل يمزج بين التحليل الفرويدي للخوف من الحيوانات (باعتبارها تجسيداً تخييلياً للخوف من الأب)، والتحليل النسوي المعاصر الذي يسعى لإلقاء اللوم على الذكورة، وكأن الغرائز الحيوانية والطبيعة البرية تقتصر على الذكور، مع أن الأساطير، كما أشرت، نسبت الاستذئاب إلى الإناث كما نسبته للذكور.
العنصر الثاني الذي غالبا ما تعتمد عليه أفلام المسوخ هو الإبهار التقني بالمؤثرات والخدع والماكياج والإضاءة والديكورات والصوت والموسيقى. وهذه العناصر ضعيفة للغاية في Wolf Man، باستثناء قليل من اللقطات التي تصور التحول الذي يحدث للشخصية الرئيسية، ومشهد التهامه لذراعه ثم مشهد التهامه لرقبة أبيه! ومع ذلك فإن الجمهور الذي اعتاد أفلام الرعب لن يجد فيها شيئا جديدا في الغالب.
فيروس الذئب!
كما ذكرت سابقا يشير Wolf Man في عناوينه الأولى إلى أن الاستذئاب الذي أصاب بعض رجال هذه المنطقة يأتي عن طريق فيروس ينتقل بالعض.. مثل مرض السعار الذي يصيب الكلاب والبشر، والحقيقة أنه يوجد بالفعل مرض اسمه "متلازمة الرجل الذئب" أو فرط الشعر الكثيف Hyperhidrosis، ليس له علاقة بالسعار، وهو يصيب الرجال والنساء على السواء، حيث ينمو الشعر بشكل مفرط وأحياناً في أجزاء لا ينمو فيها الشعر عادة مثل الوجه.
وهناك أنواع ودرجات من هذا المرض، وكثيراً ما يكون مرتبطاً بمشاكل اللثة وسقوط الأسنان (في Wolf Man، فإن سقوط الأسنان ونمو الشعر من أولى أعراض التحول الذي يصيب البطل).
بالطبع هذا المرض شديد الندرة، ومن يصابون به لا يتحولون إلى ذئاب حقاً، رغم أن العامة في العصور القديمة كانوا يعتقدون ذلك، ولكن فيلم Wolf Man يذكر نصف أو ربع الحقيقة لكي يوحي أنه يحترم العلم والعلمنة، وفي الوقت نفسه يوحي بأن تحول إنسان إلى ذئب أمر ممكن، منتهى التناقض، ويزيد الأمر ارتباكاً هذه العبارات "الوعظية" الكثيرة التي يمتلئ بها الفيلم عن التربية وعلاقة الآباء والأبناء وضرورة عدم إخافتهم، والإيحاء بأن تحول البطل إلى ذئب، أي أب عنيف، هو تكرار لما حدث لأبيه.
Wolf Man فيلم مضطرب، والأسوأ من ذلك أنه ضعيف فنياً، ويخلو حتى من لحظات الرعب التي دفع الشباب من أجلها ثمن التذاكر بالملايين!
* ناقد فني