
إذا أردت مشهداً واحداً في مسلسل "البطل" للمخرج الليث حجو يُجسد صمود المجتمع السوري ومعاناته، فسيكون مشهد "الأستاذ يوسف" جالساً على كرسيه المتحرك وسط أصوات القصف المتعالية، يقول بكل حزم: "أنا بقيان هون... كل ما أدركته أنني باقٍ، سواء كان ذلك موتاً أو حياة، لا بد أن يبقى أحدنا هنا... ليحكي الحكاية، أو يُدفن معها".
عندما تطلق الخوف
مسلسل "البطل" يُقدم انعكاساً واقعياً لما جرى في سوريا منذ أكثر من عقد، وتأثيره العميق على المجتمع السوري. وهو مقتبس عن مسرحية "زيارة الملكة" للراحل ممدوح عدوان، التي عُرضت أول مرة في ثمانينيات القرن الماضي، وكان محورها الأساسي رفض روح السوق و"الثمن" مقابل كل شيء، والبطولة التي لا تكمن في القوة، بل في الحفاظ على الكرامة، ومقاومة الظلم، والعطاء المجاني للوطن.
في هذا السياق، يؤكد المسلسل أن البطولة هي أن ترفض الخنوع، أن تطلق الخوف من داخلك، ألا تطلب إذناً لتتكلم، وألا تكون مدعوماً من أحد سوى ربك وعملك. هي أن تتمسك بحقك، لا أن تتسول الحياة.
النموذج المثالي للبطل
يُقدم المسلسل رؤيته للبطل من خلال شخصية "الأستاذ يوسف"، التي جسدها النجم السوري بسام كوسا، بفضل تفانيه في خدمة سكان الضيعة وتضحيته بحياته لإنقاذ طفل من حريق في المدرسة، أصيب بالشلل، لكنه ظل حاضراً بفكره ومواقفه، وتحول إلى الراوي الرئيسي للعمل.
كان المسلسل يُفتتح دائماً بسرد على لسانه يبدأ بـ: "عزيزي يوسف..."، فيما تُلخص عبارته: "الإنسان يحصد ما يزرع... هذه نصف الحقيقة، الحقيقة الكاملة أنك ستحصد ما تزرع وما يزرعه من حولك"، خلاصة فلسفة المسلسل حول الترابط الأخلاقي والاجتماعي في المجتمعات المأزومة.
"الأستاذ يوسف" شخصية استثنائية، صاحب إرادة وصلابة ومسؤولية، جعلته بمثابة الرمز الأعلى في الضيعة، والوسيط بين المجتمع والوطن، حتى بدا وكأن كرامته تمثل كرامة سوريا بأسرها.
عدالة بصرية
اعتمد الليث حجو في "البطل" على قوة الصورة والدراما البصرية، لإثارة ردود فعل عاطفية حقيقية، فبعد أكثر من 14 عاماً من الحرب، اختار إضاءة خافتة تعكس الحزن، وظلالاً قاسية، وألواناً باهتة، وأغصان أشجار يابسة، لتُجسد الخراب والمأساة المستمرة في حياة السوريين.
الإضاءة الباردة أضفت شعوراً بالهدوء المشوب بالحذر والخوف، ما جعل المشاهد يشعر بالقلق المستمر، بينما تبدو القرية التي تدور فيها الأحداث وكأنها خارجة من كابوس حقيقي؛ تعاني من نقص في كل شيء، من الغذاء إلى الأمان.
في معالجة درامية حادة، تُعيد القصة صياغة "زيارة الملكة" في سياق الحرب السورية، حيث انعكست الاضطرابات والدمار على كل تفصيل في المجتمع، محدثة تغييرات جوهرية في الشكل والمضمون، مع بروز قيم جديدة أو تحطم قيم قديمة.
خيبة الأمل والمعاناة
السيناريو الذي كتبه رامي كوسا، نسج شبكة معقدة من العلاقات والنزاعات الإنسانية، كانت أسرة يوسف والقرية في قلبها، واجه الجميع أهوال الحرب، وتحملوا ظروفاً لا إنسانية، أثرت على نفسياتهم وسلوكهم ومفاهيمهم عن البطولة والوطنية.
حُطمت أوهام الحب بين مريم ومروان، وتحوّلت حياة أسرة يوسف، فبات الصمت أحيانًا، والصراخ أحيانًا أخرى، وسيلة للتعبير عن الخيبة والصدمة.
شهدت شخصية "فرج"، التي أداها ببراعة محمود نصر، تطورًا دراميًا كبيرًا. لم يكن فرج شريرًا بالفطرة، بل ولد في السجن، لأن أمه كانت تقضي عقوبة قتل زوجها. بعد خروجها، عملت مغسلة للموتى، ونشأ هو في بيئة قاسية، جعلته منبوذاً.
لكن مع تطور الأحداث، ووسط غياب السلطة الأخلاقية، يتحوّل فرج إلى بطلٍ جديد، رغم ماضيه. أصبح في نظر الضيعة بطلًا اضطرارياً، وصارت أخلاقه تتشكل من الضرورة لا من المبادئ.
اختلاف مفهوم البطولة
وفقًا لنظرية "قوس الشخصية" لماكي (1997)، يمتلك الخصوم الكاريزميون مستوى عالياً من الذكاء والسحر والعمق العاطفي، مما يجعلهم على قدم المساواة مع الأبطال. وهذا ما يظهر جلياً في التباين بين شخصيتي "يوسف" و"فرج". كل منهما بطل، لكن بطريقة مختلفة، وفق تجربته وموقعه من الحياة.
حساسية المصالح الشخصية والجروح الفردية تؤثر على رؤيتنا لهذه الشخصيات، وتجعلنا نتعاطف مع تناقضاتها، ونراها من زوايا إنسانية.
الليث حجو نسج البطل كمرآة للواقع السوري، وتنبؤًا لما قد يأتي. ركّز على العلاقة القمعية بين الفرد والدولة، وعلى خطر الإفراط في السلطة. من خلال شخصية الشرطي، ووسائل المراقبة المستمرة، كشف كيف حولت الحكومة الشعب إلى ضحايا للصمت والخوف، تُراقبهم باستمرار، وتمنع أي تمرد.
رمزية المشاهد كانت واضحة: تحية العلم اليومية التي يرفعها "يوسف" على كرسيه المتحرك، سجنه لاحقاً، إجهاض ابنته مريم لجنينها من مروان الذي مات لأجل نظام قمعي، كلها إشارات لهدم مخطط للقيم، ولصراع مستمر بين الفرد والسلطة، بين الكرامة والخنوع.
بين الأمل والانهيار
"البطل" ليس مجرد مسلسل عن الحرب، بل هو قراءة عميقة لواقع مشوه، لمجتمع يئن تحت الركام، بين المشاهد، نسمع أصواتاً تطالب بالحقيقة، وتُقاوم الخوف، وتتشبث بالحياة. وبين الركام، شخصيات محطمة، لكنها لا تزال تبحث عن عدالة، ولو كانت مفقودة.
رسالة رامي كوسا في السيناريو، أن الشعوب التي تؤمن بحكوماتها، قد تنقلب عليها إن تحولت إلى أدوات للقمع. وأن الإفراط في السلطة لا يقتل السياسة فقط، بل يخلق جيلًا كاملًا مستعدًا للثورة.
وربما هذا هو ما جعله، كما قال الليث حجو، يُغيّر مشهد النهاية.
* ناقدة فنية