
منذ الدقائق الأولى في فيلم "درويش"، التي نسمع فيها صوت النجمة يسرا وهي تروي للمشاهد حكاية الشخصيات والأحداث، ندرك أننا أمام عمل آخر من حواديت "البطل الشعبي"، وبالتحديد أبطال المقاومة ضد الاحتلال الإنجليزي قبل 1952، وهو نوع راج مؤخراً في أعمال مثل فيلمي "حرب كرموز" و"كيرة والجن" ومسلسل "النُص".
في هذه الأعمال يتحول صعلوك خارج على القانون إلى بطل وطني يقاوم الإنجليز، في البداية دون إرادته، ولكن بمرور الوقت عن رغبة واقتناع.
محتالون وفدائيون
تستند هذه الأعمال عادة على ساقين: واحدة تعود إلى الحكايات والسير الشعبية المصرية والعربية، والتي يتشكل معظم أبطالها من المحتالين الطيبين، والخارجين على القانون الشرفاء، مثل علي بابا وعلي الزيبق وحمزة البهلوان وأدهم الشرقاوي.
الساق الثانية هي تراث الأفلام الأميركية التي طالما احتفت بالمحتالين الجذابين والخارجين على القانون الشرفاء، منذ نوع الـ"ويسترن" وحتى أحدث أفلام الأكشن والسطو على الخزائن المستعصية، والأمثلة أكثر من أن تحصى.
ويمكن أن نشير هنا، فيما يتعلق بمقاومة الاحتلال البريطاني تحديداً، بعض الأفلام الهندية مثل RRR، التي تتمحور حول اتحاد قوى الشعب: المقاوم الواعي سياسياً، المُنظَم والمُخطِط الجيد، واللص الشعبي قليل الوعي، نقي الفطرة، واسع الحيلة، وكلاهما موجود في "درويش"، بالرغم من أن الدراما، كالعادة أيضاً، تفضل وتنحاز إلى الصعلوك الشعبي.
منذ الدقائق الأولى في "درويش" ندرك أن هذا اللص شبه القواد، الذي يبدأ به الفيلم محتالاً وعربيداً وهارباً من السلطات، سيتحول إلى بطل يقاوم الاحتلال، ورغم أن صوت الراوية يشيع في الفيلم وبطله نفحة "أسطورية" تذكر بالراوية روز في فيلم Titanic، جيمس كاميرون، 1997، كما تذكرنا بيسرا نفسها في مسلسل "رأفت الهجان"، 1988، إلا أن هذه المقدمة "تحرق" فكرة وحبكة الفيلم منذ الدقائق الأولى، ولا تترك مجالاً للمفاجآت أو لمعايشة التحول "العميق" الذي يمر به البطل من إنسان "عادي" إلى بطل خارق للعادة.
تنفيذ جيد.. مبهر أحياناً
مع ذلك، ورغم أن القصة يمكن توقعها مبكراً جداً، بالتحديد منذ اللحظة التي يتهم فيها درويش (عمرو يوسف) ظلماً، بقتل ضابط إنجليزي ويتم اعتقاله، إلا أن الفيلم يمتاز بتدفق أحداثه وغزارتها وبتنفيذه الجيد بصرياً.
ومقارنةً بمعظم الأعمال المصرية التي تدور في فترة تاريخية قديمة، هناك محاولات جيدة لنقل تفاصيل قاهرة الأربعينيات، وبالأخص في المشاهد الخارجية للشوارع، التي تستخدم فيها ديكورات ضخمة ومؤثرات بصرية، وحركات كاميرا "بهلوانية"، في واحدة من المرات القليلة، في السينما والدراما المصريين، التي تستخدم فيها الكاميرات المسيرة (الدرون) ببراعة وتأثير درامي موفق.
بشكل عام ينجح المخرج وليد الحلفاوي وفريقه في صنع فيلم مشوق، مبهر أحياناً، كان يمكن له أن يصبح عملاً استثنائياً لولا قلة الاتقان في بعض العناصر.
أول هذه العناصر هو السيناريو الذي كتبه وسام صبري والذي يسير بشكل منطقي وسلس ومشوق حتى الثلث الأخير من الفيلم، وفجأة ندخل في دوامة من الأحداث الملفقة واللامصداقية والالتفافات twists الزائدة عن الحد، وكأننا في واحد من أفلام ألعاب الذكاء والخداع الهوليوودية، والوقائع والصور القادمة من أفلام العصابات الحديثة، بما تحفل به من حراس بالعشرات مدججين بالسلاح ومن معارك تفوق صخب معارك الحرب العالمية الثانية الدائرة في خلفية الأحداث!
سلاسة يعقبها التعثر
يتكون الفيلم من ثلاثة فصول: في الجزء الأول يتعرض المحتال درويش إلى الاحتيال من قبل عشيقته الراقصة زبيدة (دينا الشربيني)، وشريكه رشدي (أحمد عبد الوهاب)، وذلك بعد عملية سرقة جوهرة مهراجا هندي تنتهي بعملية هروب مبتكرة على متن منطاد! وتتصاعد أزمة درويش بمطاردات من قبل الشرطة ثم جنود الاحتلال (منفذة ببراعة)، تنتهي باعتقاله واتهامه بقتل ضابط بريطاني كبير.
في الفصل الثاني يتحول درويش إلى بطل شعبي في الصحافة وترفع صوره في المظاهرات المضادة للاحتلال، ويخونه صديقه وشريكه في عالم الجريمة عدلي (مصطفى غريب)، الذي تحول إلى تميمة الكوميديا والصديق المقرب الأول لمعظم أبطال السينما والتليفزيون، معتقداً أن درويش سرق الجوهرة لنفسه.
ويحكم على درويش بالإعدام غير أن قوة من الفدائيين تتخفى فوق قطيع من الجمال، وتهاجم سيارة الشرطة العسكرية البريطانية وتقتل جنودها وينجحون في إنقاذ درويش والهرب به.
هذه الكتيبة الفدائية تضم فتاة شجاعة قوية هي كاريمان (تارا عماد) التي تقع في حب درويش من النظرة الأولى، بالطبع، وتلقنه، لأول مرة في حياته، معنى الوطنية وقبح الاحتلال!
وهنا نأتي إلى الفصل الأخير الذي يبدأ بالتعرف على فرقة الفدائيين التي تضم ممثلين عن الشعب كله: قائدهم والعقل المدبرعباس طالوش (خالد كمال)، المسيحي الصعيدي مرقص (أحمد محارب)، عادل المطبعجي (إسلام حافظ)، ولاحقا بعض الشخصيات الأخرى مثل الخادم النوبيى عثمان (محمود السراج)، وفجأة تتجمع كل الشخصيات السابقة، بقدرة قادر، في بيت الوجيه نبيل عماد (محمد شاهين)، الإقطاعي الخائن لبلاده الذي يدير شبكة من المخبرين لاصطياد الوطنيين، والذي يستحوذ في خزانته السرية على جوهرة المهراجا المسروقة والأوراق الخاصة بشبكة المخبرين!
مجرد ضيوف
بجانب هذه الشخصيات والأحداث، يضم الفيلم بعض الشخصيات والنجوم الذين يظهرون كضيوف شرف: هشام ماجد في دور الفدائي الذي يقتل الضابط البريطاني، ثم يهرب تاركا درويش ليتهم بالجريمة، وهو دور وخط ناقص كان يمكن استغلاله بشكل أفضل، الملك فاروق (أحمد خالد صالح) الذي يظهر كوطني يهلل ببلاهة لما يفعله الفدائيون (ربما استجابة لمحاولات تبييض وجه الملكية المنتشرة بين بعض الأوساط حالياً، رئيس الوزراء مصطفى النحاس (فتوح أحمد)، ووزير الداخلية فؤاد سراج الدين (إبراهيم حلمي) الذين لا وظيفة درامية لهم سوى الإيحاء بتاريخية الفيلم (رغم أن عناوين المقدمة تؤكد أنه من وحي الخيال).
وعلى أي حال المزج بين الخيالي والتاريخي ليس عيباً في حد ذاته، ولكن المهم أن يكون لكل منهما دور في الدراما وليس مجرد "ضيوف شرف".
بالقرب من نهاية الفيلم يظهر الإعلامي محمود سعد بشخصيته الحقيقية كمحاور لراوية الفيلم، التي لن أكشف عن هويتها، ولكن بما أنها كانت في العشرين من عمرها، على الأقل، وقت الأحداث (1943)، فذلك يعني أنها تخطت عمر المائة عام الآن، وهو خطأ كبير في حساب زمن الأحداث والشخصيات (نموذج آخر على قلة الإتقان التي أشرت إليها).
عمرو كوميديان وتارا عضلات
هناك ملحوظة أخرى تتعلق بنبرة الفيلم الذي يجمع بين الكوميديا والأكشن (النوع الأكثر رواجاً حالياً)، وهو مزيج موفق هنا، إذ تخفف الكوميديا من شطط وجنوح الخيال وتجعله مقبولاً لدى المشاهد. ورغم أن عمرو يوسف لديه صعوبة في تقديم شخصية المحتال الساخر خفيف الدم (التي يبرع فيها، مثلاً، أحمد عز وكريم عبد العزيز وأحمد أمين)، إلا أنه يبذل مجهوداً محموداً هنا في رسم الشخصية ومنحها تفاصيل خارجية مرحة.
على النقيض تبدو دينا الشربيني كتلة من العصبية والتوتر تساهم في تعزيزها النحافة الزائدة عن الحد التي باتت عليها، تارا عماد ممثلة يتأرجح مستوى أداءها باستمرار، وفقاً للشخصية والمساحة ونوع الفيلم الذي تشارك فيه، وحين لا يكون كل ذلك جيداً تبدو كضيفة شرف تريد أداء حوارها والمغادرة، في "درويش" تعثر تارا عماد، أخيراً، على دور يناسب إمكانياتها الجسدية والتمثيلية، ويؤهلها للعب المزيد من أدوار الأكشن.
مصطفى غريب وأحمد عبد الوهاب يشكلان ثنائياً ظريفاً ، ولكن هناك ملحوظة عامة تتعلق بالتمثيل في هذا النوع من الأعمال "التاريخية" (سبق أن شاهدناها في الأعمال سابقة الذكر أيضاً)، وهي أن الممثلين يرتبكون بين الأداء الواقعي (المعاصر) والأداء التاريخي المصطنع.
وأعتقد أنه يجب اختراع تخصص جديد في التدريب على هذه النوعية من الأدوار، لإن الممثلين يبدون تائهين ومفتعلين مقارنة بأداءهم الحيوي الممتلئ بالطاقة في الأدوار "العصرية".
أخيرا يتميز "درويش" بانتاج ضخم يشكر عليه المنتجون محمد حفظي وممدوح سبع وأحمد بدوي و"فوكس ستوديوز" وجهات الدعم التي سمحت بتوفير إمكانيات مادية وفنية كبيرة تحسب للسينما العربية "الشعبية"، التي تشهد تقدماً تقنياً ملموساً في السنوات الماضية.
* ناقد فني