خاص
فن

The Devil Smokes.. عن الصدمة والأمراض العقلية

time reading iconدقائق القراءة - 7
مشهد من فيلم The Devil Smokes And Saves the Burnt Matches in the Same Boxللمخرج المكسيكي إرنستو مارتينيز بوسيو - المكتب الإعلامي لمهرجان الجونة السينمائي
مشهد من فيلم The Devil Smokes And Saves the Burnt Matches in the Same Boxللمخرج المكسيكي إرنستو مارتينيز بوسيو - المكتب الإعلامي لمهرجان الجونة السينمائي
الجونة (مصر)-حنان أبو الضياء*

يُعرض ضمن فعاليات الدورة الثامنة لمهرجان الجونة السينمائي فيلم The Devil Smokes And Saves the Burnt Matches in the Same Box، وهو العمل الطويل الأول للمخرج المكسيكي إرنستو مارتينيز بوسيو، الذي سبق أن فاز بجائزة مسابقة Perspectives الافتتاحية في الدورة الأخيرة من مهرجان برلين السينمائي، إضافة إلى عدد من الجوائز في مهرجانات هونج كونج وسان فرانسيسكو وغيرها.

نحن أمام فيلم إثارة نفسية مشبعة بالألغاز الخارقة للطبيعة، وأطروحة درامية تتأرجح بين الصدمة الدينية والأمراض العقلية المتوارثة عبر الأجيال. ومع أن العمل يقدّم كل هذه الاحتمالات، إلا أنه في النهاية لا يلتزم بأيّ منها، بل يترك المشاهد معلّقًا بين حدود التأويل واللايقين.

بين الواقع والوهم

يقدّم المخرج رؤيته عبر أرضية وسطى مضطربة تجمع بين الواقعية ومنطق الحلم غير الثابت، كل إطار في الفيلم مؤلف بدقّة توحي بقصة مثقلة بالعاطفة والمعنى، تتأرجح فيها الأحداث بين الواقع والوهم، وبين الصدمة النفسية والإيحاءات الماورائية.

وقد ساهم توجيه بوسيو الواثق لفريقه من الممثلين الشباب قليلي الخبرة في بناء عالمٍ غريبٍ ومغامرٍ، أدوا فيه أدوارهم ببراعة وعفوية لافتتين، كما يمنح الفيلم تجربة حسّية بصرية تتأمل المناظر الطبيعية المتآكلة، والتصميمات الداخلية المظلمة، والوجوه التي تختزن الحيرة والقلق.

الشيطان هو من جلبهم

تجري أحداث الفيلم في المكسيك خلال تسعينيات القرن الماضي، إبّان الزيارة الثانية التي طال انتظارها للبابا يوحنا بولس الثاني.

تتمحور القصة حول خمسة أطفال أشقاء تُركوا بمفردهم بعد اختفاء والدتهم جوديث (ميكايلا جراماجو)، الممرضة الثلاثينية التي دفعتها أزماتها النفسية وسلوكها المتقلّب إلى مغادرة المنزل، ينشغل الأب بالبحث عن زوجته المفقودة، تاركاً أبناءه في رعاية جدتهم رومانا التي تعاني بدايات الخرف وجنون العظمة، وتتوهم أن المنزل محاصر بكائنات معادية تتربص بها.

تحذّر الجدة أحفادها من أن "الشيطان قريب، حريص على التسلل إلى المنزل وأجسادهم"، إنها شخصية منعزلة تُثير الرعب في ذاتها، تجرّ أحفادها الصغار إلى أوهامها. 

وبعد اختفاء الأم بوقت وجيز، تظهر خمسة أزواج من الأحذية الغامضة، ما يجعل أصغر الأشقاء، فيكتور، يعتقد أن "الشيطان هو من جلبها"، فيبدأ بمحاولات جادة للتواصل معه على ضوء الشموع.

ذكريات تُشبه الذكريات

استلهم المخرج أحداث الفيلم من مقتطفات من طفولته، ليبني القصة على ذكريات مشوشة مشبعة بالخيال، متجنباً الاستعارات الثقيلة، ومقدّمًا المعلومات بطريقة تسمح للمشاهد بتجميعها واستيعابها ليبني منها فسيفساء عائلية نابضة بالحياة.

يتحمّل الشقيقان فانيسا وفيكتور مسؤولية رعاية الصغار، لكن أحداً في هذا المنزل ليس مؤهلًا لرعاية نفسه أصلاً.

يبدو أن الهدف المشترك للمخرج وكاتبة السيناريو المشاركة كارين بلاتا، ومدير التصوير أودي زاباليتا، هو التركيز على الطفولة الممزقة هيكلياً وسط صيف رطب وضبابي في ضواحي المدينة، حيث يشعر القاطنون بأنهم يعيشون وجوداً أدنى من النعمة المسيحية التي يراقبونها من بعيد.

وحدة الأسرة وسط العزلة

الأطفال الخمسة فانيسا (لورا أوريبي روخاس)، فيكتور (دونوفان سعيد)، إلسا (مارياباو برافو أفينا)، ماريسول (ريجينا أليخاندرا)، وتوماس (رافائيل نييتو مارتينيز) ينسحبون جميعاً من العالم الخارجي، ويغدون سجناء منزل أشبه بشرنقة غير آمنة، تُغطى نوافذه بورق الجرائد، وتتدلى من سقفه شرائط مرعبة.

يدافع الأطفال عن وحدتهم العائلية مهما كلف الأمر، حتى في مواجهة سلطات الخدمات الاجتماعية التي تحاول إنقاذهم. لا يترددون في الكذب بسذاجة ليحموا تلك الوحدة، فيما يصارعون شعورهم بالعجز والهجر، ويبررون لأنفسهم كيف وصلوا إلى هذا المصير.

تتطور شخصياتهم ببطء، فتتجلى مشاعرهم بصدقٍ وعفوية، ويُظهر المخرج تحوّلاتهم من البراءة إلى الوعي بألم الفقد، دون أن يفقد الفيلم عاطفته أو دفئه الإنساني.

ألم الفقد ورهاب الانغلاق

تتطور رؤية بوسيو تدريجياً من إطار مفتوح على العالم الخارجي إلى رهاب خانقٍ من الأماكن المغلقة، فبأوامر الجدة، يُغلق الأطفال النوافذ بالجرائد، ويعزلون أنفسهم عن الخارج تماماً، ويتبعون روتيناً صارماً يشمل تقنين الطعام والصلاة المستمرة.

لقد تُركوا لمصيرهم كناجين عاطفيين هشّين، سجناء الخوف والحنين، تتناوب عليهم الخيبات والفقد المتكرر: للوالدين، للحيوانات الأليفة، ولأغلى ممتلكاتهم، حتى لا يتبقى لهم سوى التعلق ببعضهم البعض وببقايا الإيمان.

الرعب في الفيلم ليس في ما يُرى، بل في ما يُفتقد. ومع تدخل الشرطة والخدمات الاجتماعية، يصبح التوازن الهش للعائلة مهدداً بالانهيار.

ينطلق السيناريو من منظورٍ مزدوج: الطفل الذي يرى أكثر مما ينبغي، والبالغ الذي يختار ألا يرى، ويبرز الفصام هنا لا كوصمة طبية، ولكن كطريقة قاسية للعيش داخل عالم منقسم بين الإيمان والهلوسة.

انسجام العائلة المفقود

يستحضر الفيلم فهمًا عميقاً لشخصياته الصغيرة التي تعكس اضطرابات الكبار، تُعرض لقطات الماضي عبر تسجيلات الفيديو المنزلي، في إعادة عرض متقطعة أو تقديم سريع، تكشف لقطات عفوية ليأس البالغين كانت الكاميرا قد التقطتها عن طريق الخطأ، لتشكل مشاهد يفترض أن تمثل انسجاماً عائلياً مفقوداً.

يعالج بوسيو الاضطراب النفسي كحساسية مفرطة تجاه العالم: الفجوات، الضوضاء البعيدة، والظلال التي توحي بوجود آخر.

لا يدخل الخيال من باب المشهد، يتسلل من تفاصيل الحياة اليومية، ليؤكد أن أكثر أنواع الرعب استمرارية هو ما يمكن أن يكون حقيقياً فعلاً.

اعتمد المخرج على اللقطات القريبة والتغطية خارج الشاشة، مانحاً المشاهد حرية تخيّل ما يحدث في الظلال، وصمم مدير التصوير أودي زاباليتا استراتيجية إضاءة محكمة، غطت المنزل بهيكل يسمح بإضاءة المشاهد من الخارج، مستخدماً عدسات تقربنا من الشخصيات وتخلق فراغات سردية يملؤها المشاهد بنفسه، فنجح في أن يجعل المتفرج شريكاً في السرد.

بين الطموح والتشتت

على الرغم من أن الفيلم يعزف أحياناً على أوتار عاطفية عميقة، إلا أن تطور القصة يجعله أكثر غموضاً، ويُفقده وضوح الاتجاه الذي يسعى إليه.

هذا الغموض إلى جانب الإيقاع البطيء وغير المتوازن، يُعد من أبرز عيوب الفيلم، كما أن الرموز (مثل الأحذية الغامضة والإشارات المتكررة إلى الشيطان) تُقدم بإثارة وتشويق لكنها تبقى غير مطورة، وكأنها وعدٌ بكشف أعمق لا يتحقق.

يبدو أن الفيلم يسعى لقول شيء جوهري عن الطفولة والإيمان والخوف، لكنه يتوه أحياناً داخل طموح مخرجه في ابتكار أسلوبه الخاص، معتمداً على شعرية الانحراف والتراكم والتفصيل، بوصفها طريقة لسرد الذاكرة والعيش داخلها.

في المشهد الختامي، بينما يحاول فيكتور استحضار الشيطان أمام الشمعة، تمتد يد مظلمة لتطفئها، تاركة المشاهد أمام حريته الكاملة في اختيار التفسير الذي يريده.

هكذا يترك الفيلم أثره العالق بين الإيمان والخرافة، بين الخوف والافتتان، وبين براءة الطفولة وغموض الماوراء.

* ناقد فني

تصنيفات

قصص قد تهمك