
في واحدة من أكثر لحظات الدورة الخامسة لمهرجان البحر الأحمر السينمائي الدولي تأثيراً وجاذبية، اعتلى أسطورة التمثيل أنتوني هوبكنز خشبة مسرح "الحي الثقافي" في جدة، ليقدم جلسة In Conversation امتدت لأكثر من ساعة، متجاوزاً ضيوفاً أصغر سناً وأكثر حضوراً في المهرجانات العالمية.
كان الحضور لافتاً في القاعة، التي تتسع لـ868 مقعداً، وامتلأت عن آخرها، ووجد الجمهور نفسه أمام ذاكرة حية للسينما، ورجل نادر جمع بين التواضع والعمق والحضور الطاغي.
منذ اللحظة الأولى للجلسة التي أدارها ريان عاشور، مدير معامل البحر الأحمر، فتح هوبكنز صندوق أسراره الفنية والإنسانية على مصراعيه، ومع كل سؤال، أخذ الجمهور في رحلة امتدت لستة عقود، بدأت من بداياته المتواضعة في ويلز، مروراً بأدواره المسرحية الكبرى، وصولاً إلى الشخصيات التي صنعت مجده السينمائي العالمي، وعلى رأسها شخصية هانيبال ليكتر في فيلم The Silence of the Lambs.
الدور الذي لم يكن متوقعاً
استعاد هوبكنز اللحظة التي تلقى فيها سيناريو فيلم The Silence of the Lambs من وكيله جيريمي كونواي، قائلاً: "ظننت أنه حكاية أطفال"، لكن اللحظة الحاسمة جاءت بعد عشر صفحات فقط، عندما رفع الهاتف ليقول: "هذا أفضل دور قرأته في حياتي.. وأعرف بالضبط كيف ألعبه".
وأشار إلى أن هذه "المعرفة المسبقة" لم تبنى على مجرد ثقة، وإنما كان قراءة نفسية عميقة للشخصية: "أردته أن يكون آلة، عبقرياً في هيئة نفسية لا تشعر بأي شيء تجاه الإنسان، لا مشاعر، لا تردد.. فقط يقتل ببساطة".
روى هوبكنز أيضاً كواليس أول ظهور لليكتر، حين تقابله كلاريس ستارلينج لأول مرة، قال إن المخرج جوناثان ديمي سأله: "كيف تريد أن يراك الجمهور؟ جالساً؟ نائماً؟، ليأتي رد هوبكنز حاسماً: "أريد أن أقف في منتصف الزنزانة، لأن ليكتر يستطيع أن يشمّ رائحتها من آخر الممر".
هذا الاختيار البسيط، كما وصفه، كان المفتاح الذي خلق حالة التوتر والرهبة التي التصقت بالفيلم إلى اليوم. كما شبّه ليكتر بـ"مفيستوفيليس" في فاوست، ذلك الكائن الذي يعرف نقاط ضعف الإنسان ويغوي ضحاياه بالمعرفة قبل الرعب.
عقل ممثل عبقري
انطلقت الجلسة أبعد من مجرد حكايات تصوير، إذ كشف هوبكنز عن فلسفته الخاصة في الأداء، وهي فلسفة قائمة على الاقتصاد في الحركة والإيقاع، والاعتماد على الهدوء كسلاح. قال: "كلما كنت أكثر سكوناً، كنت أكثر تأثيراً".
ويعود الفضل في هذا الإدراك، كما يروي، إلى نصيحة لا تنسى من النجمة الأسطورية كاثرين هيبورن، خلال تصوير فيلمه الأول The Lion in Winter: "أنت لست بحاجة إلى التمثيل، فقط كن أنت، لديك رأس جيد وكتفان جيدان، قل الجملة فقط".
وقدم هوبكنز سلسلة من التقليدات الصوتية لهيبورن، ثم لـمارلون براندو، ولورنس أوليفييه، وأوليفر ستون، ما جعل الجلسة مزيجاً بين درس تمثيل مباشر وعرض حيّ لفنان متقن لأدواته.
رسالة هوبكنز للشباب
ووجه هوبكنز انتقادات صريحة لجيل جديد من الممثلين الذين يلجأون للهمس والتمتمة باعتبارها "واقعية" أو "أسلوباً فنياً"، قال: "الشباب يتمتمون كثيراً، لا أعرف إن كانوا يحاولون تقليد براندو، لكن براندو كان أعظم تقني في تاريخ التمثيل.. كان يعرف كل شيء".
وأضاف أنه واجه بعضهم قائلاً: "لن يكون لكم مستقبل إذا واصلتم التمتمة، الجمهور يدفع ثمن التذكرة ليسمعكم".
وتطرق هوبكنز إلى أعماله المقبلة، مشيراً إلى مشاركته في فيلم Wife and Dog مع المخرج البريطاني جاي ريتشي، واصفاً إياه بأنه "عبقري غريب" و"أحد أكثر المخرجين إثارة للاهتمام"، كما تحدث باختصار عن دوره في فيلم Ibelin للمخرج مورتن تايلدم، وفيلم Maserati: The Brothers للمخرج بوبي موريسكو.
وكان حديث هوبكنز أقرب إلى تأمل فلسفي منه إلى استرجاع مهني، حيث قال: "حياتي تجاوزت كل توقعاتي، أشعر أن شخصاً آخر كتبها، كنت محظوظاً طوال الوقت.. وما زلت هنا. لا أعرف لماذا، وهذا هو لغز الحياة".
المسرح ولورانس أوليفييه
واستعاد هوبكنز ذكريات من سنوات شبابه، حين بدأ على خشبات المسرح قبل أن يحظى باعتراف سينمائي عالمي، تحدث عن رهبة البدايات في "المسرح الوطني" أمام عمالقة مثل لورنس أوليفييه، وكيف أن تلك المرحلة كونت لديه فهماً مبكراً لمفهوم الالتزام والانضباط، قال: "كنت أراقب أوليفييه وهو يدخل المسرح، يغير صوته، يقف بطريقة مختلفة.. كنا نشعر أننا أمام علم من علوم الأداء".
وأقر بأن عمله في المسرح علمه أهم درس: "أن تفهم الجملة، ليس أن تؤديها فقط، أن تفهم لماذا قيلت، ولمن، وما الذي تفعله بالشخصية".
وكشف هوبكنز أن دخوله عالم شخصية ما لا يتم عبر "الغوص العاطفي" كما يفعل بعض الممثلين، بل عبر التحليل الذهني البحت. قال: "أنا لا أبحث عن التجارب المؤلمة في الماضي، هذا يرهق الممثل من دون معنى، أدرس النص، أدقق في الإيقاع، وأترك بقية الأشياء تأتي وحدها".
وأضاف أنه كان يعيد قراءة النص عشرات المرات، حتى يصبح الحوار جزءاً من ذاكرته الجسدية، مما يعطيه حرية لعب الشخصية بمجرد الوصول إلى موقع التصوير.
العلاقة مع الكاميرا
وتحدث هوبكنز عن عادته قبل التصوير: "قبل أن يقول المخرج: أكشن، أهدأ تماماً.. أحاول ألا أفكر، التفكير يربك الممثل".
وأضاف أن اللحظات القليلة قبل الحركة الأولى للكاميرا هي التي تحدد عمق الأداء: "أستمع لصوتي الداخلي، وأترك الشخصية تمشي وحدها".
وتطرق كذلك للعلاقة بين الممثل والمخرج، مؤكداً أنها علاقة تشبه الثقة المتبادلة في رقصة ثنائية، قال: "هناك مخرجون يريدون التحكم في كل شيء، وهناك آخرون يتركونك تكتشف الشخصية بنفسك".
وأوضح هوبكنز أن لعب شخصية شريرة لا يعني البحث عن الشر داخل النفس، بل فهمه كمفهوم إنساني، قال: "الشر ليس صراخاً ودموعاً، الشر هادئ، ينظر لك دون أن يرمش، لا يشرح نفسه، ولهذا يكون مخيفاً".
وأشار إلى أنه تجنب المبالغة في شخصية ليكتر: "لو رفعت صوتي قليلاً، لخسر الدور قوته كله".
كان المتحدث أمام الجمهور ممثلاً يحمل جائزتي أوسكار لأفضل ممثل عن The Silence of the Lambs (1992) وThe Father (2021)، وهو واحد من 11 ممثلاً فقط حققوا هذا الإنجاز، وصاحب أطول مسافة زمنية بين جائزتيه.
ومع ذلك، لم يتحدث هوبكنز عن النجاح بوصفه نتيجة لذكاء أو براعة شخصية، وإنما كرحلة مفاجئة قادته من قرية صغيرة في ويلز إلى قمة السينما العالمية.








