في سابقة نادرة في تاريخ الفيلم الوثائقي الإيطالي ووسائط وصوله إلى الجمهور، بدأت صالات السينما في عدد كبير من المدن الإيطالية عرض فيلم "إينيو - Ennio" للمخرج الإيطالي صاحب الأوسكار جوزيپّي تورناتوري، والذي قضّى أكثر من خمس سنوات لإنجازه.
الفيلم عن الموسيقي الأوسكاري الإيطالي إينيو مورّيكوني الذي ألف مئات الأغاني وكتب موسيقى أكثر من 500 عمل سينمائي، وانطبعت أنغام ألحانه في ذاكرة وذائقة مئات الملايين في كوكبنا.
وهو فيلمٌ برفقة مورّيكوني، وبالفعل ثمةَ في هذا الفيلم بطلان أساسيّان هما إينيو مورّيكوني نفسه وموسيقاه، وبحضور حشد من "الممثلين المُساندين" الذين يحملون أسماءً مثل كلينت إيستوود، وسيرجو ليوني، وبيرناردو بيرتولوتشي، وجوليانو مونتالدو، وماركو بيلّوكّيو، وداريو آرجينتو، والأخوان باولو وفيتّوريو تافياني، وكارلو فيردوني، وبيري ليڤينسن، ورولاند جوفيه، وأوليفر ستون، وكينتين تارانتينو، وبروس سبرينغستين، ونيكولا بيوڤاني، وهانز زيمّير، وثَمَةَ آخرون تغنّت أفلامهم وأدوارهم، لما يربو على نصف قرن، بألحان هذا الفنان الكبير والتي منحت الإيقاع للعديد من الأفلام والأداءات التمثيلية.
" إينيو" و"تورناتوري" في جدة
شاهد الجمهور العربي العرض الأول لشريط "إينيو" في الدورة الافتتاحية لمهرجان البحر الأحمر بجدة حيث ترأس فيه تورناتوري لجنة التحكيم الدولية.
وشهد الفيلم عرضه العالمي الأول خارج المسابقة الرسمية في الدورة الثامنة والسبعين لمهرجان البندقية السينمائي الدولي (2021)، بعد أن كانت مقاطع مُختارة منه في معرض شامل بعنوان "كان يا ما كان سيرجو ليوني" احتفت به مدينة روما نهاية عام 2019 بمرور 30 سنة على وفاة رائد تيار "السپاغيتّي ويسترِن" سيرجو ليوني، الذي أطلق العنان لهذا التيّار السينمائي وفتح للريح جناحَيْ نجمٍ عالمي كبير هو كلينت إيستوود، الذي كان حتى لحظة ابتداء عمله مع سيرجو ليوني بطلاً لمسلسل تلفزيوني شهير في مطلع السبعينات عن رُعاة البقر باسم "روهايد - Rawhide".
وبما أنّ صورة هنري فوندا، وروبيرت دي نيرو، وكلاوديا كاردينالي، وجان ماريّ فولونتييه، وكلينت إيستوود، وغيرهم من كبار النجوم العالميين انطبعت في ذاكرة جمهور السينما بالارتباط بموسيقى إينيو مورّيكوني، فقد كان من الطبيعي أن تُنيب الأكاديمية الأميركية في عام 2007 إلى واحدٍ منهم مهمّة تسليم جائزة "الأوسكار لمجمل الإنجاز الإبداعي" واختارت من بينهم كلينت إيستوود بالذات.
سيرةٌ ذاتيّة معزوفة
يروي فيلم جوزيبي تورناتوري عن إنجاز إينيو موريكوني وعن حياته، منذ امتهن عزف الموسيقى في سن 12 عاماً لدعم عائلته مالياً ومعيشيّاً، مروراً بالأغاني الخفيفة التي انتشرت في الستينيات، وصولاً إلى دخوله النهائي إلى السينما بموسيقى تصويرية لا تُنسى.
ما يُميّز عمل جوزيپي تورناتوري في هذا الفيلم هو فطنته في استخدام لغة غير تقليدية في صناعة فيلم وثائقي من هذا النوع، فقد نأى بنفسه وببطله عن إنشاء فيلم "سيرة ذاتية" محكية عبر المناوبة ما بين لحظات الحوار المتقاطعة المشاهد الفيلمية.
وعمدَ إلى مرافقة إينيو مورّيكوني لعدّة أسابيع تاركاً لـ ”إينيو الفنان أن يروي لي عن إينيو الإنسان“، وما كان لمورّيكوني أن يُتيح ذلك إلاّ لمن يثق به بالمطلق.
ويقول تورناتوري في الفيلم: ”عملت لنحو 25 عاماً مع إينيو وأنجزتُ معه غالبية أفلامي الروائية، ناهيك عن الأفلام الوثائقية والإعلانات التجارية، إضافةً عن مشاريع حاولنا إقامتها دون أو نتمكن من إكمالها“.
عمرٌ كامل وفّر مرجعيةً ثريّة لتيار وعي مشترك ما بين الفنانين إلى الدرجة التي يعسُر فيها التمييز ما بين ما يقوله إينيو مورّيكوني وما يُريه جوزبي تورناتوري.
ويقول تورناتوري في هذا الصدد "بمرور الوقت نمت صداقتنا أقوى وأقوى. وفيلماً بعد آخر، مع تعمق لمعرفتي بشخصيته كإنسانٍ وكفنان، وكنت أتساءل دائمًا عن نوع الفيلم الوثائقي الذي يمكنني إنجازه عنه. واليوم تحقق حلمي".
عمل مورّيكوتي مع كبار السينما العالمية، لكنّه لم يجلس إلاّ أمام كاميرا جوزيبي تورناتوري ومنحه شهادته الأوسع التي بدت بمثابة وصيّته الإبداعية التي تركها للأجيال.
ويروي منتج الفيلم حادثة طريفةً عن هذا الأمر، قائلاً: "زُرنا، أنا وزميلي المنتج الآخر، مورّيكوني في منزله لنطرح عليه فكرة الفيلم، وبعد نقاش طويل وصلنا إلى لحظة قال فيها: سأُوافق على الفكرة بشرط واحدٍ فقط، وهو أن ينجزه (بيبوتشو) -اسم التحبيب الذي يستخدمه أصدقاء جوزيبي تورناتوري لمناداته- فأخبرناه بأنّنا متّفقان مع تورناتوري على ذلك، فاستأذن وغاب لبضع دقائق ثم عاد وأخبرنا بموافقته على الفكرة“.
ويُضيف المنتج: ”بعد اللقاء عُدنا، فرحَيْن، إلى تورناتوري لنزفّ إليه الخبر، سألنا كيف سارت الأمور، أخبرناه أننا عانينا في إقناعه، لكنه فرض شرطه ثم استسمحَنا الغياب لدقائق وعاد وأعطانا موافقته“، إذاك ابتسم تورناتوري وقال: ”أعلم ذلك، لأنه في تلك الدقائق التي غاب عنكم فيها اتّصل بي هاتفيّاً واستعلم عن صحة ما أخبرتماه عن موافقتي على فكرة إنجاز الفيلم، ولذا وافق…".
132 دقيقة في لمح البصر
132 دقيقة تمر بلمح البصر وكأنّها دقيقة واحدة بسلاسة الموسيقى وعذوبتها، وتُظهر براعة تورناتوري كموثّق مقتدر، كبراعته في سرد الحكايا المثيرة للمشاعر.
وتبرز مقدرته هذه بالذات لأنّه تمكّن، كما صرّح هو نفسه، من جعل إينيو الإنسان أن يروي عن مورّيكوني الفنان، وقد انساق الموسيقي الكبير وراء صديقه الأقرب "بيبوتشو"، وأتاح له أن يأخذ منه ما لم يُتحه للآخرين، وكانت النتيجة سيمفونية جميلة قائد الأوركسترا فيها هو جوزيبي تورناتوري والموسيقي و"التينور" فيها هو المايسترو الراحل إينيّو مورّيكوني.
يكشف الفيلم عن جوانب مجهولة من حياة مورّيكوني كشغفه بلُعبة الشطرنج، التي ربما تكون لها علاقة ما، غامضة بموسيقاه، ناهيك عن الخلفيات والمرجعيات الواقعية والطبيعيّة لجوانب حدسه الموسيقي، كما حدث للمقطع الشبيه بصراخ الذئب في "الجيد والسيئ والقبيح - The Good, the Bad and the Ugly" والنغمة الناتجة عن التصفيق والطرق الايقاعي الذي يدقّ بها المتظاهرون على علب الصفيح خلال المسيرات الاحتجاجية في شوارع روما، وهي النغمة التي ألهمته الإيقاع الجميل المستخدم في فيلم "يدّعي بيريرا - According to Pereira" الذي اقتبسه المخرج روبيرتو فايينتسا من رواية بنفس الاسم للكاتب الراحل آنتونيو تابُوكّي.
ودلّل ذلك وغيره من النماذج على مقدرة إينيو مورّيكوني على التجديد والنهل من الواقع ومن الطبيعة لكلّ ما هو موسيقي، وأكّدت مقدرته وجرأته على اجتراح الجديد واختراعه عبر التجريب المستمر.
فيلم "إينيو" هو الصورة الأكمل للسيرة الذاتية والإبداعية لواحدٍ من أكبر موسيقيي القرن العشرين، إنّه السِفْرُ الأشمل عن حياة وإبداع هذا الفنان الكبير، إلاّ أنّ ”من المستحيل أرشفة وجمع كلّ ما أنجزه إينيو خلال كلّ هذا العقود، فألحانه لا حدود لها وليس مُستبعداً أن نعثر بين الحين والآخر على نوتاتٍ مُخبأةٍ بين هذا الأرشيف أو تلك الكومة من الأورواق والكتب، لا حدود لما منحه إينيو إلينا جميعاً…“.
كُثرٌ هم المخرجون والنجوم الذين حلموا بأن يكونوا هم وراء الكاميرا في مكان تورناتوري، لكنّهم لم يبخلوا على زميلهم الصقلّي بشهاداتهم، وجلسوا أمام كاميرته ليرووا عن إينيو مورّيكوني كما عرفوه.
*ناقد فني عراقي