
صعوبة في التنفس وتشنج وتنميل في الأطراف، وشعور يضاهي الشعور بالغرق، يجعل الشخص يعتقد أنه يفارق الحياة، لكنه ما يلبث أن يتغلب على النوبة الكابوسية في غضون دقائق، مستعيناً على ذلك بتمرينات تنظيم النفس البسيطة، ودعم المحيطين الذين يؤكدون له أنها محض نوبة ستمر، وأنه بأمان، وسيعود كل شيء على ما يرام.
الأسطر السابقة تصف مشهداً متكرراً في دراما رمضان هذا العام، الذي يتميز بحضور خاص لتجسيد الأمراض والأعراض النفسية.
إلا أن أعراض نوبات الهلع ليست وحدها الأعراض النفسية التي تظهر خلال أحداث مسلسلات الموسم الرمضاني، فاضطرابات النوم، والرهاب الاجتماعي، وحتى العلاج الجماعي، مفردات حاضرة بقوة في الدراما الرمضانية، في امتداد لاهتمام صناع الدراما خلال الأعوام الأخيرة بالوعي النفسي، وتمريره عبر أحداث الثلاثين حلقة.
تاريخ قصير
ويُعد تجسيد الأمراض النفسية امتداداً لعدة محاولات خلال الأعوام الماضية لتناول المرض النفسي بشيء من الدقة والتفصيل في وصف الأعراض بأكثر من عمل، والاستعانة بخبرات الطب النفسي في دعم السيناريو المكتوب بالتفاصيل العلمية.
ومن إرهاصات الأعمال التي تنتمي إلى فئة "السيكودراما"، أو الدراما النفسية خلال الأعوام السابقة، عدة أعمال ارتبطت باسم السيناريست مريم نعوم، كمسلسل "سجن النسا" (2014) الذي جاءت إحدى بطلاته مصابة بالوسواس القهري، ومسلسل "سقوط حر" (2016) الذي تدور أحداثه عن مريضة بمرض "الكتاتونيا"، أو الذهان التخشبي.
وخلال العام الماضي، جذب مسلسل "خلي بالك من زيزي" الانتباه لقضيته النفسية بشأن مرض نقص الانتباه وفرط الحركة، كنتاج مجموعة الكتابة "سرد"، التي تشرف عليها بدورها السيناريست مريم نعوم، في تكريس لاهتمامها بالتوعية النفسية من خلال أعمالها.
وعبر صفحة مجموعة "سرد" الرسمية على فيسبوك، وبالتوازي مع عرض المسلسل، حرص صُناع العمل على القيام بدور توعوي واضح بجانب الخط الدرامي، عن طريق مشاركة الأبحاث والأوراق العلمية التي اعتمدت عليها المجموعة لرسم التفاصيل الطبية للمرض النفسي بدقة.
الطبيب مضطرباً
وفي حين تواصل مجموعة "سرد" هذا العام الاهتمام بالصحة النفسية وإبراز معاناة المرضى النفسيين، وذلك عبر مسلسل "مين قال" الذي عُرض في 15 حلقة ألقت الضوء على عدد من الاضطرابات النفسية، فإن سيناريوهات أخرى أبرزت المرض النفسي خارج عباءة سرد.
ويعد مسلسل "أحلام سعيدة" من بطولة "يسرا"، أحد الأعمال الدرامية هذا العام، الذي تتمركز أحداثه عن عدد من الاضطرابات ذات الطابع النفسي، منها اضطرابات النوم، والهلاوس السمعية والبصرية، ونوبات الهلع العديدة التي تُباغت شخصية الفنانة غادة عادل.
العلاج الجماعي إحدى مفردات "أحلام سعيدة" الأساسية، ويمثل "الإجراء العلاجي" الخيط الرفيع الذي يجمع أبطال العمل.
أما مسلسل "مين قال؟" من بطولة الفنان جمال سليمان وأحمد داش، فتتضمن أحداثه نوبات هلع تصيب البطل، واضطراب الرهاب الاجتماعي، والديسليكسيا، أو عسر القراءة، وحتى الصورة المعتلة المشوّهة للجسم، والمصابة بها إحدى الشخصيات، ويتميز العمل بالتركيز على الاضطرابات النفسية الأكثر شيوعاً في أوساط المراهقين والشباب.
وينقل مسلسل "راجعين يا هوى"، قصة الكاتب الراحل أسامة أنور عكاشة وبطولة خالد النبوي، دور الطبيب النفسي، الذي تؤديه الفنانة "نور"، إلى مستوى آخر؛ فشخصية الطبيبة النفسية متورطة درامياً، ولها تاريخها النفسي المُعقد بدورها.
انحياز نفسي
الناقدة ماجدة خيرالله تعتبر أن الدقة العلمية في تجسيد الأمراض النفسية، وحصول السيناريوهات التي تناقش قضايا نفسية على إجازة من جانب طبي، ممارسة إيجابية من قبل الكُتاب في الفترة الأخيرة، مؤكدة أن بعض الأعمال في السابق كانت تضمّن بعض الحالات النفسية لمجرد سد الثغرات في السيناريو، وبدون دراسة الحالة وتدقيقها علمياً.
وتضيف: "الدقة في منطقة التوعية النفسية تلك مطلوبة جداً وتحتاج إلى جهد من كُتاب السيناريو، لأن التناول إذا افتقد تلك الدقة، يصبح مجرد متاجرة بالأزمات النفسية، وظلماً لأصحابها، وتكريساً لصور نمطية مجتمعية غير منضبطة عن المرض النفسي".
وعن تجربة مجموعة "سرد"، واهتمامها الخاص بالقضايا النفسية، فتبدي خير الله استحسانها إلى حد بعيد نموذج ورشة الكتابة ذات الانحياز الخاص، خصوصاً التوعية النفسية.
وتقول: "إذا كانت مجموعة سرد أو غيرها لها انحياز لقضية بعينها، وتعمل على تناولها بشكل منضبط من خلال الأعمال التي تنتجها، فأعتقد أن ذلك نموذج ممتاز، خصوصاً أن الورشة بمرور الوقت أصبح لديها خبرة في التناول، بعد نجاح أكثر من عمل في هذا السياق".
دراما ضد الوصم
وتعتبر ماجدة خير الله أن التجسيد الدرامي للاضطرابات النفسية له دور مجتمعي مهم في محاربة وصم المرضى النفسيين، وتقول: "نظراً لتدني مستوى الوعي بالاضطرابات النفسية، فقد يواجه الأشخاص المصابون بها تفسيرات خاطئة وتعاملاً غير منضبط من المحيطين، تفاعلاً مع معاناته".
وتضيف: "لأن الدراما تدخل البيوت، فبوسعها أن توفر تفسيراً للغموض المحيط بالمعاناة النفسية، مثلاً تجسيد نوبات الهلع درامياً يراكم عند المشاهدين وعياً بكيفية التعامل معها، ومتى يجب استشارة الطبيب، فضلاً عن تقديم الدعم الإنساني المناسب المنطلق من تفهم المعاناة واستيعابها".
منظور واقعي
ويشرح الاستشاري النفسي، جمال فرويز، في حديثه لـ"الشرق"، ما لم تفصح عنه الأحداث الدرامية عن مختلف الاضطرابات النفسية التي زخرت بها الأعمال الدرامية الرمضانية، وفي مقدمتها أعراض نوبات الهلع.
يقول: "نوبات الهلع هي أحد أعراض الاكتئاب غير المتطابق أو غير النمطي، ويعزى إلى زيادة في الناقل العصبي (الأدرينالين) بشكل مفاجئ نتيجة لحدوث موقف ضاغط أو استعادة ذكريات سيئة، أو مواجهة فوبيا".
ويضيف: "تسبب نوبات الهلع صداعاً وزغللة في العين، وجفافاً في الحلق، وسرعة في ضربات القلب وتنميلاً وبرودة في الأطراف، وأحياناً اضطراب المعدة والقولون، وتُعالج نوبات الهلع لدى 90% من المرضى عن طريق الوصفات الدوائية لمدد قصيرة بجانب جلسات العلاج المعرفي والسلوكي".
وعن مدى توفيق صناع الدراما في تجسيد تجربة "العلاج الجمعي"، فيؤكد فرويز أن العلاج الجمعي له ضوابط شديدة الإحكام بخلاف ما قد يجسد درامياً في محاكاة شكلية فحسب لهذا الإجراء.
ويشير إلى أن أهم تلك الضوابط أن يختار الطبيب مجموعة من المرضى منتقاة بعناية، على حد تعبيره، للمشاركة في ذلك الإجراء الطبي، وأن تكون لديهم خصائص مرضية مشتركة، ويعتمد العلاج على مشاركتهم تجاربهم بشفافية مع المجموعة، ومجابهة ذواتهم عن طريق الحكي والانفتاح، تحت إشراف الطبيب النفسي.
أما الرهاب الاجتماعي، فيوضح فرويز أن ذلك الاضطراب على وجه التحديد أحد الاضطرابات وثيقة الصلة بالاستخدام المفرط لمواقع التواصل، مؤكداً أن الرهاب أو ما يعرف باضطراب القلق الاجتماعي، أحد أكثر الاضطرابات النفسية شيوعاً في أوساط الشباب والمراهقين في الآونة الأخيرة.