مع ختام فعاليات الدورة الثامنة من مهرجان أفلام السعودية، يمكن القول إن هناك رغبة شديدة في التطور لاكتساب مساحة خبرات أوسع سواء بالنسبة لصانعي السينما في المملكة، أو للقائمين على المهرجان نفسه (هيئة الأفلام، ومركز إثراء، وجمعية السينما).
المهرجان شهد هذا العام حضوراً إقليمياً لا بأس به، نتمنى أن يتطور خلال الدورات القادمة خاصة على مستوى التوسع في استقدام النقاد والمهتمين من خلفيات سينمائية مختلفة، لزيادة مساحات الاحتكاك الإيجابية وتحقيق عنصر العين الثالثة، التي تشاهد وتتفاعل مع التجارب السعودية والخليجية الواعدة.
الجائزة الأولى في المهرجانات الوطنية عادة، هي جائزة حضور الجمهور لمشاهدة أفلام صناع سينماه المحلية، واكتشاف الوسط السينمائي الإقليمي والدولي لتجارب الصناع المحليين خاصة أن أغلبهم من الشباب المغامر في تجاربه شكلاً وموضوعاً.
ولهذا، كان من أكثر المفاجأت البراقة هذا العام، حصول فيلم "قوارير" على النخلات الذهبية الأربعة الكبرى للدورة (أفضل فيلم، وسيناريو، وتصوير، وجائزة لجنة تحكيم الخاصة)، وهو الفيلم الذي صاغته أحلام خمس مخرجات سعوديات شابات، أردن أن يقدمن أنفسهن للوسط السينمائي في سياق جاد وملفت متحدياً مصطلح القوارير في جانبه الهش وصفته الضعيفة.
عين الطفل
أربعة أفلام من أصل ثمانية حصدت جوائز المهرجان، تلعب فيها عين الطفل الدور الرئيسي على مستوى السارد المتلقي للعالم والمنفتح ببراءة الصدمة الأولى على سياقات الحلم وإدراك الحياة؛ في "زوال" لمجتبى سعيد الحائز على النخلة الذهبية لأفضل روائي قصير، يتململ الطفل آدم -ودلالة الاسم واضحة- من جنة الحجر الصحي خوفاً من الكورونا، راغباً في مغادرة غرفته الضيقة في نزل اللاجئين ليمرح في الممرات المعدنية بالخارج ويقطف ثمرات من فروع بنفسجية تذكرنا بجده الأول الذي غادر براحه الآمن، إلى مغامرة كلفت البشرية اختبار الخوف الأزلي.
في عيني آدم، نرى البشر خارج جنة أمه -التي تصلي طوال الوقت- أقرب إلى كائنات فضائية تذكرنا بنظرة الطفل في فيلم سبيلبيرج الشهير ET، وتكلفه المغادرة سؤالاً طويلاً لن يغادره بسهولة، والذي يختصره المخرج في النداء المتوالي (ماما!..ماما!).
وحين يعود آدم إلى جنة أمه الصغيرة، لا يجدها! بينما نرى الباب الزجاجي لغرفتهم ونلمح سجادة صلاة الأم خالية منها، ليظل النداء/السؤال هو الذي يتردد في أمل لن ينقطع.
وفي فيلم التحريك "حوض الأحلام" لمجدولين خارج الحربي، الفائزة بأفضل عمل أول، تأخذنا المخرجة في الرحلة قصيرة للبرزخ المموه بين الحقيقة والأحلام، من عيني طفلة تراقب سمكتها الملونة في فقاعتها الزجاجية الصغيرة، ولكنها حين تتوحد وجدانياً معها تكتشف أن العالم لا يمكن أن يظل مقتصراً على المساحة الآمنة للحوض، وأن الحلم مغامرة تستحق أن تقفز معها في الأزرق اللانهائي. وهناك فقط سوف يتساوى الماء بالسماء ويصبح العوم كالتحليق. هكذا، نرى الفتاة وهي تغوص مع سمكتها، قبل أن تتضخم السمكة الذهبية المفعمة بالحلم فتأخذها وتطفو بها في هواء ملون نحو الأفق.
صناعة الذاكرة
قدمت المخرجة الواعدة فايزة أمبا تجربتين جذابتين في دورة هذا العام، هما الروائي القصير "نور الشمس" - والذي كان يستحق جائزة خاصة للتمثيل للممثلة الشابة عائشة - والوثائقي القصير "جوي"؛ والذي فازت عنه بجائزة أفضل فيلم عن مدينة سعودية، وهي جائزة غريبة التوصيف رغم غرضها التشجيعي الواضح.
"جوي" فيلم يدور في حارات جدة القديمة وينتمي لنوعية أفلام عن الأفلام، تجربة فايزة الملفتة تشكلت عبر رغبتها في قطع مسافات ضوئية بين دخول العروض السينمائية إلى المملكة، وبين ما تحتاجه الأجيال الجديدة من اكتساب جينات السينما، لتصبح جزءاً من تكوينها الثقافي والحياتي، إذ تذهب إلى عدد من الحارات في أحياء جدة الفقيرة، لتقدم ما يشبه الورشة العملية عن كيفية صناعة الأفلام، مستعينة بأطفال الحارات أنفسهم ليكونوا جزءاً من فريق الإنتاج، وعرض تفاصيلهم اليومية بهدوء، لا بعين الراصد ولكن برغبة المستنير في أن يبث صوتاً يدعو للانفتاح على الفن الشعوبي الأول في العالم والذي تأخر كثيراً في الوصول إلى من سبقهم.
كاميرا حيوية مفعمة بالأمل وخفة الظل والحركة الطفولية التي تناسب فيلماً من بطولة مجموعة فتيان، لولا تجربة التصوير كان وقتهم سوف يذهب مهدوراً على ناصية الحارات الضيقة، ومادة منمقة "مونتاجياً" تلتقط الفكرة الخاطرة في رؤوسهم، و"الإفيه" العابر على ألسنتهم، والحلم الذي فاجأهم بالتشكل في وجدانهم الصغير.
وإذا كانت أمبا تلعب في فيلمها على فكرة صناعة الذاكرة، وربطها بالسينما، فإن فيلم "من ذاكرة الشمال" للمخرج الشاب عبد المحسن المطيري، والحائز على جائزة أفضل فيلم وثائقي، يحدق في ذاكرة الطفولة التي تشبعت عبر ثلاثين عاماً بلقطات ومشاهد وأصوات من حرب الخليج، وقت الغزو العراقي للكويت وتحديداً في المناطق الشمالية المتاخمة لحدود البلدين.
تستعيد المجموعة التي يدور عليها عبد المحسن بكاميراه ذاتها الأولى، حين اصطدم وعيها الطفولي بالتجلي الحي لمصطلحات كانت تمارس وقت اللعب فقط (الحرب- الصواريخ- القنابل)، أو ما هو أقسى وأكثر زلزلة على نفوسهم الصغيرة آنذاك (الموت- الفقد).
في الفيلم، ترتد التفاصيل إلى سيرتها الأولى، فتلوح عين الطفل الذي لم تكن تريد أن ترى العالم من نافذة مغلقة بأشرطة رمادية تجنباً لتهمش الزجاج وقت الانفجارات، حتى ما قد يبدو نوعاً من التشتت النوعي للفيلم (هل هو فيلم عن ذاكرة الحرب أم نوستالجيا ترثي زمن الطفولة الهش؟) فإن هذا التشتت الظاهر سببه الرئيسي هو استعداء ذاكرة الطفولة والتي بالضرورة تستدعي معها حنين ملون تجاه الماضي ومكونات الزمن الأول قبل انفصال الخيال، وقولبة الوعي في صندوق الواقع الحياتي الضيق.
انعكاسات
تبقى الإشارة إلى أن حضور عين الطفل وذاكرته في نصف الأفلام الفائزة بجوائز الدورة الثامنة، لا يعني انفصالها عن السياقات التي يبدو أن لجنة التحكيم انطلقت من خلالها نحو تحديد الجوائز، فالفيلم الحائز على جائزة التمثيل للرجال "قبل أن ننسى" إخراج نواف الجناحي، يقدم لعبته الدرامية من خلال أزمة شاب يعاني أبوه الـ"ألزهايمر"، ولا يعود يذكر سوى المكان الذي دفن فيه ثروته، لكن ذاكرته المهمشة تحوله لطفل كبير، وبالتالي يتبادل الأدوار مع ابنه الذي يرغب في التحصل على الثروة المدفونة.
كذلك، فإن الفيلم الحائز على جائزة أفضل ممثلة "كيان" لحكيم جمعة، يبدو أيضاً وكأنه لعب على أوتار الذاكرة، في صورة استدعاء مرعب لأشباح وتفاصيل وكيانات محسوسة، كأنها تجسيد لذكريات الأسرة، التي أودعتها الظروف في أمانة أوتيل تقليدي على الطريق، لكن أفرادها تعرضوا لخيانة من المكان الذي انفجر بالرعب والغرابة في وجوههم.
*ناقد سينمائي