مرة ثانية، أو ثالثة ورابعة، تثير الكاتبة هبة مشاري حمادة الجدل بمسلسلها الجديد "دفعة لندن"، كما فعلت أعمالها السابقة مثل "من شارع الهرم إلى.." و"دفعة القاهرة" و"دفعة بيروت".
هذه المرة تنتقل مشاري إلى العاصمة الإنجليزية لندن، لتصور حياة عدد من طلبة وطالبات كلية الطب القادمين من الكويت والخليج وبلدان عربية أخرى، خلال ثمانينيات وتسعينيات القرن الماضي، الفترة التي أعقبت ثورة الخوميني في إيران، وشهدت حربي الخليج الأولى والثانية، وصعود جماعات التكفير والإرهاب.
هذه الخلفية السياسية المتوترة تلقي بظلالها الكثيفة على حياة الشخصيات، ولكنها لا تتصدر المشهد ولا تذكر بشكل مباشر إلا من خلال ما تتعرض له الشخصيات من حوادث ومواقف.
وبما أن المكان هو قلب أوروبا والزمن حديث مقارنة بدفعتي القاهرة وبيروت الذين تلقوا تعليمهم في عقود أسبق وفي بلاد أكثر محافظة، فإن الشخصيات والدراما هنا أكثر تنوعاً وتحرراً.
لوحة جدارية
ومثل معظم أعمالها، تهوى هبة مشاري كتابة سيناريوهات حول عدد كبير من الشخصيات والحكايات التي يجمعها مكان، أو مدينة واحدة، وهي تتمتع بموهبة في اللعب بخطوط هذه الشخصيات والحكايات، التي تبدو في البداية متباعدة ومنفصلة، بحيث تتجمع بالتدريج لتشكل وحدة موضوعية وفكرية واحدة.
كما أنها موهوبة أيضاً في جعل كل خط يبدو وكأنه الموضوع الرئيسي، وكل شخصية وكأنها البطل الرئيسي للعمل، ويظهر هذا بوضوح في "دفعة لندن" الذي يصعب، بعد مرور أكثر من 20 حلقة، أن نحدد له بطلاً أو حكاية رئيسية، باستثناء أنه يدور حول عدد من طلبة الطب العرب وعائلاتهم في لندن.
من خصائص أسلوب هبة مشاري أيضا ملء أعمالها بمختلف الأحداث والأنواع والأساليب الفنية: دراما إجتماعية، رومانسية، "أكشن".
ومن غرائب الأحداث في "دفعة لندن" مثلاً: قاتل لبناني يلجأ لبيت أرملة، وأم عراقية وتنشأ بينهما قصة حب، ومشاجرة بين شابين مصري وخليجي تنتهي بفقء عين شاب، وفتاة كويتية محجبة تحمل طفل أسرة يهودية نتيجة خطأ طبي، وإمرأة إيرانية تقوم بخطف أخرى عراقية بدافع الغيرة، وطالبة تتزوج صورياً من زميلها لتمنع أسرتها من إعادتها إلى بلدها، ولكن الشاب يصر على تحويل الزواج الصوري إلى حقيقة بالقوة.
وعلى مستوى السرد فهو يعتمد بالأساس على السرد المتوازي للحكايات، ويحفل أيضا بحيل سردية مختلفة، مثل التعليق الصوتي في بداية كل حلقة لإحدى الشخصيات، أو الجدول الزمني، بحيث يصبح التوقيت الذي تقع فيه الأحداث هو أساس السرد، إذ تتكون بعض الحلقات من أحداث متفرقة تدور على مدار يوم، وتشير العناوين كل فترة إلى الوقت.
يحفل "دفعة لندن" بالشخصيات والأحداث، كما في لوحة جدارية كبيرة، بالرغم من أن الخطوط تتباعد كثيراً أحياناً، فيفقد المشاهد بؤرة تركيزه، وتتكاثر الأحداث بشكل غير مشبع، وغير مقنع أحيانا.
مخرج متمكن.. وإيقاع محكم
"دفعة لندن" من النوع الذي يحتاج إلى مخرج متمكن، قادر على قيادة فريق العمل الكبير من ممثلين من جنسيات ولهجات مختلفة، ومواقع تصوير ومونتاج متقاطع بين عدد كبير من القصص يحتاج إلى إيقاع محكم، وإلى حد كبير استطاع المخرج محمد بكير أن يدير فريقه وأن يضبط إيقاع عمله، ساعده على ذلك مونتاج معتز الكاتب وتصوير أحمد زيتون وموسيقى أشرف الزفتاوي.
ويشارك في "دفعة لندن" عدد كبير من نجمات ونجوم الدراما الخليجية والعربية، منهم لؤلوة الملا، وليلى عبد الله، وميلا الزهراني، وصمود المؤمن، ورهف محمد، في أدوار الطالبات الصديقات.
كل من لؤلوة وليلى عبد الله شاركتا في مسلسل "من شارع الهرم إلى.." العام الماضي، ورغم براعتهما إلا أن عمريهما لا يناسب طالبات لم يتجاوزن العشرين، خاصة أنهما لعبتا في "من شارع الهرم.." دوري زوجتين وأمين لعدد من الأطفال.
والأمر نفسه ينطبق على الأبطال الرجال عبد الله الرميان، وناصر الدوسري، وهاشم نجدي، وعبد الله السلام، إذ يبدون أكبر من أن يلعبوا أدوار طلبة.
وعلى كل حال هذه مشكلة تعاني منها الدراما العربية بشكل عام، إذ يندر أن تسند البطولات إلى ممثلين صغار السن.
بغض النظر عن هذه المشكلة يتميز "دفعة لندن" بفريق تمثيل متميز، ويبرز منهم ريام الجزائري في شخصية ميسون العراقية، التي دفعتها الظروف السياسية في بلدها وخيانة صديق والدها الراحل، الذي هرب بميراث العائلة، إلى العمل كخادمة لرعاية شقيقتيها.
والحقيقة أن هذه الشخصية التي هوجم المسلسل بسببها في حلقاته الأولى، هي أقوى وأنبل شخصيات المسلسل.
يتألق من الممثلين أيضا ميلا الزهراني في دور عسلة، وهاشم نجدي في دور شبيب، وهما يتآلفان جيداً في قصة الحب التي تربط بينهما.
وبشكل عام أيضا يجيد المخرج اختيار الثنائيات الغرامية، فهناك كيمياء مماثل بين ناصر الدوسري وروان مهدي، وبين وسام حنا ورولا عادل، وحتى بين عبد الله الرميان وصمود المؤمن.
وحتى عندما تكون العلاقة مضطربة مثل علاقة الزوجين المصريين، فإن هناك توافقاً ملحوظاً بين كل من ناهد السباعي وحمزة العيلي.
المهارة في اختيار الثنائيات من أهم أدوات المخرج الجيد وأحد أسباب نجاح ومصداقية العمل، وقد يتسامح المشاهد مع كثير من العيوب إذا صدق العلاقة التي تربط الممثلين، وهذا ما ينجح فيه بكير إلى حد كبير.
لندن دون أهلها
يبدأ "دفعة لندن" بمشهد خيالي مبتكر، تظهر فيه الأميرة ديانا تهرب من ملاحقة المصورين والفضوليين، وتلجأ إلى شقة في أحد البنايات يتضح أنها شقة الطلبة العرب، الذين يحسنون ضيافتها ويساعدونها على الهرب متخفية في زي منقبة.
هذه البداية الواعدة بمزيد من العرض والتحليل لعلاقة الشرق والغرب يتم وأدها هنا، ولا نجد في بقية المسلسل أي صدى لها.
يدور المسلسل في لندن، ولكن الحقيقة أننا نرى البلاد العربية (وأسرة إيرانية وقليل من الهنود المسلمين) ولا نرى لندن، أو أهلها.
الإنجليز يبدون كضيوف ثقيلي الظل طوال العمل، ليس هناك شخصية إنجليزية واحدة لها دور أو حضور أو تأثير على الدراما.
حتى داخل الكلية التي يدرسون بها والمستشفى التي يعملون بها يبدو الطلبة العرب وكأنهم لا يرون سوى أنفسهم وعلاقاتهم ببعضهم البعض، ورغم كثرة العلاقات فليس هناك أي علاقة عاطفية أو إنسانية بين عربي وأجنبي، وزملاءهم وأساتذتهم الإنجليز مجرد إكسسوارات زائدة في المشهد، وهي نقطة عيب كبيرة إلا إذا كانت المؤلفة تريد أن تقول أن العرب يعيشون في قوقعتهم، وخيمتهم، المغلقة أينما ذهبوا، وأنهم غير قادرين على التواصل والتفاعل مع العالم.
انحياز للبساطة
من ناحية ثانية تجيد المؤلفة –كما فعلت من قبل في دفعتي القاهرة وبيروت وشارع الهرم- رسم العلاقات الطبقية، وتأثير الجنسية والطبقة على الشخصيات في تكوينهم وعلاقتهم ببعضهم البعض، وعلى عكس الاتهامات الظالمة التي تلاحق أعمالها دائما، فإن المسلسل يشرح مخاطر الاستعلاء الطبقي والتشيع والجشع وينحاز إلى البسطاء والفقراء الشرفاء بشكل عام.
ويظهر ذلك في شخصيات النساء متوسطات العمر الثلاث: ميسون، القادمة من عائلة ثرية، ولكنها الآن مهاجرة فقيرة تضطر للعمل كخادمة، وآلاء شاكر (أم مضاوي) التي تتمسك بالمظاهر والتظاهر رغم أن العائلة فقدت ثروتها، وأم برلنت السيدة الإيرانية تاجرة التحف التي لا يشغلها بالمثل سوى الحفاظ على وضعها المالي والطبقي.
هذه الإدانة للمادية تظهر كأوضح ما يكون في شخصية الشاب سلطان (فهد الصالح)، ابن الأثرياء، الذي اعتاد أن يشتري كل شئ بالمال، وعندما يحاول أن يشتري زوجة زميله ينتهي الأمر بمشاجرة تفقده إحدى عينيه.
هناك جرأة مثيرة للجدل في "دفعة لندن"، ولكن التسرع بالحكم على نوايا العمل من مجرد حلقة واحدة أو إشارة إعلانية خطأ، والدراما لا تقاس بمشهد أو جزء من العمل، ولكن بالسياق والمعنى الكلي له.. لننتظر ونرى ما ستأتي به النهايات!
* ناقد فني
اقرأ أيضاً: