شعوران متناقضان غالباً ما ينتابان المرء وهو يشاهد مسلسل نتفليكس الجديد "FUBAR"، الأول هو الإعجاب ببطل العمل، النجم أرنولد شوارزنيجر، القادر، في سن الـ75، ليس فقط على التمثيل، ولكن على أداء مشاهد الأكشن والقتال.
أما الشعور الثاني فهو الشفقة، على الممثل العجوز، الملياردير، حاكم ولاية كاليفورنيا السابق، الذي يهين اسمه وعمره في عمل أقل ما يقال عنه أنه لا يرقى لتاريخه الفني، ولا لصورته المحفورة في ذاكرة مشاهدي أفلامه ومعجبيه.
نسخة باهتة!
"FUBAR" بشكل ما، هو نسخة ضعيفة ومهترئة من أعمال سابقة، مثلما يبدو أرنولد نفسه نسخة ضعيفة ومهترئة من صورته القديمة.
وبشكل أكثر تحديداً، المسلسل إعادة لفكرة واحد من أشهر وأنجح أعمال شوارزنيجر، وهو "True Lies" الذي قدمه عام 1994، أحد ثمار التعاون المستمر بين أرنولد والمخرج المؤلف جيمس كاميرون، والذي يدور حول عميل في المخابرات الأمريكية يكتشف أن زوجته أيضا عميلة في الجهاز المخابراتي نفسه، ولكن كل منهما يخفي عن الآخر حقيقة عمله، إلى أن يجتمع الإثنان بالصدفة في مهمة خطيرة. وقد لعبت دور الزوجة العميلة الممثلة جيمي لي كيرتس، التي حصلت على الأوسكار مؤخراً.
في "FUBAR"، لا يزال أرنولد عميلاً في المخابرات يدعى لوك برونر، على وشك الاعتزال والتفرغ للحياة الهادئة، عندما يكتشف أن ابنته الشابة إيما (مونيكا باربارو)، التي لمعت العام الماضي في فيلم Top Gun: Mavrick) هي أيضا عميلة مخابرات، ويخوض الإثنان مغامرات هائلة للقبض على تاجر سلاح ومجرم خطير.
مثل "True Lies" يمزج "FUBAR" بين الأكشن والكوميديا، وباستثناء بعض الدقائق اللامعة المتناثرة عبر 8 حلقات يقترب كل منها من ساعة، يعاني الأكشن من ترهل، وتعاني الكوميديا من ثقل دم، بسبب تواضع الإخراج (فيل أبراهام) والكتابة (نيك سانتورا)، إذ يعتمدان على الأنماط المعلبة في رسم الشخصيات وكتابة السيناريو والحوار وتصميم مشاهد الأكشن، التي تبدو وكأنها خرجت من الـ"فريزر" للتو! ويظهر ذلك بداية بعنوان المسلسل (وهو اختصار عامي لجملة سباب شعبية) المقتبس عن عنوان فيلم ومسلسل كنديين مشهورين.
لماذا يفعل ذلك بنفسه؟
أرنولد شوارزنيجر هو أسطورة رياضية وسينمائية عمرها أكثر من نصف قرن. منذ عشرينياته المبكرة تحول شوارزنيجر إلى تجسيد حي للرجل المثالي جسمانياً، فحصل على بطولة العالم في رياضة كمال الأجسام، وحمل لقب "السيد أوليمبيا" لسنوات طويلة متتالية، قبل أن تلتقطه هوليوود، ليصبح واحداً من ألمع نجوم العضلات والأكشن خلال ثمانينيات وتسعينيات القرن الماضي.
وقد حققت بعض أعماله مثل سلسلتي أفلام "Conan the Barbarian" و "Terminator" نجاحات هائلة، كما تألق بوجه خاص في الكوميديا المصحوبة بالأكشن في أفلام مثل "Twins" و "Last Action Hero". وعندما انتقل إلى عالم السياسة حصل على ثقة الناخبين لأكثر من دورة كحاكم لواحدة من أهم الولايات كاليفورنيا، وفي السنوات الأخيرة تحول الرجل إلى قائد روحي ومرشد تنمية بشرية ومؤثر على مواقع التواصل.
شوارزنيجر، المولود في النمسا، والذي جاء إلى أمريكا شاباً مفلساً، ويملك الآن قصراً خيالياً مثل قصور ألف ليلة، وبضعة مئات من الملايين، هو أيضا رمزاً للرجل العصامي وتجسيد للحلم الأمريكي ، وحلم بعيد المنال لمئات الآلاف من المهاجرين الذين يفدون إلى الولايات المتحدة سنوياً.
من ناحية ثانية، فللصورة جانبها الآخر. شوارزنيجر، مثل منافسه وصديقه سلفستر ستالوني، هو نموذج للممثل محدود الموهبة الذي ينجح بفضل عضلاته، وباستثناء عدد قليل جداً من أفلامه، فإن معظمها متهم بالتواضع الفني، وترويج ثقافة العنصرية والعنف، وحياته الشخصية لم تخلو من بعض المآخذ التي تتعارض مع الصورة الأخلاقية "الجمهورية" التي يحب أن يصدرها عن نفسه.
على أحد وجهي العملة يظل اسم أرنولد شوارزنيجر أيقونة للجسد الرجالي المثالي، ولأبطال القوة البدنية على الشاشة، ولكن وجه العملة الثاني يحمل ابتسامة ساخرة من الصورة الأولى!.
ومن الطريف أن بعض أعماله، خاصة الكوميدية، تسخر أو تقدم محاكاة ساخرة لأفلامه الجادة، ولعل أبرز وأفضل أفلامه، بالرغم من أنه لم ينل ما يستحقه من نجاح وقت عرضه، هو فيلم "Last Action Hero"، الذي يلعب فيه دور بطل خارق خيالي، يخرج من الشاشة، فيفقد قدراته "السينمائية" ويتحول إلى شخص عادي.
كذلك تألق شوارزنيجر بشكل خاص مع الممثل داني دي فيتو ( الذي يمثل النقيض العكسي لصورة الرجل ممشوق القوام مفتول العضلات) في عدة أفلام من أنجحها "Twins" ، الذي يلعبان فيه دور شقيقين توأم على طرفي النقيض، وفيلم "Junior" الذي يلعب فيه شوارزنيجر دور طبيب يقوم بتجربة علمية يحمل خلالها عوضا عن زوجته ! ( اقتبست الفكرة حديثا في فيلم "حامل اللقب" من بطولة هشام ماجد ودينا الشربيني).
"سلق بيض"!
لا شك أن المسلسل يثير اعجاب المرء بقدرة أرنولد على البقاء، وهو عبر عن هذه القدرة في حوار مطول أجرته معه مجلة Hollywood Reporter قبل بدء بث المسلسل بأيام، قال فيه أنه يخطط للبقاء للأبد!
ولابد أن يشيد المرء بشجاعة منصة نتفليكس على دخول هذه المغامرة التي دفعت فيها أموالاً طائلة لإعادة شوارزنيجر إلى العمل، وهي سياسة تتبعها المنصة منذ سنوات لاعادة نجوم السينما القدامى إلى الأضواء، وجدير بالذكر أن المنصة قامت أيضا بانتاج فيلم وثائقي بعنوان "أرنولد" حول مسيرة النجم يُنتظر أن يعرض خلال الأيام القادمة.
ولكن المشكلة في أن العمل طُبخ على عجل، "سلق بيض"، كما هو واضح، وكان يحتاج إلى كتابة أفضل صقلاً وإخراج أكثر تمكناً، خاصة في فكرة المزج بين الأكشن والكوميديا، إذ يمتلئ المسلسل بحوارات مطولة وسط مشاهد القتال، على طريقة مسلسل "La Casa De Papel"، ولكنها هنا تصل لدرجة التكرار والملل.
كذلك تخرج الكوميديا أحياناً عن حدود المعقول، مثل مشهد علاج البطلين نفسياً، بواسطة طبيب المخابرات، عن طريق العرائس، أو الـ"إيفيهات" الكوميدية السخيفة التي يتبادلها أعضاء أقوى جهاز مخابرات في العالم!
والأمر نفسه ينطبق على مشاهد الحركة والقتال التي تنتمي لأفلام الدرجة الثانية، ولا تليق باسم شوارزنيجر أو باسم المنصة المنتجة.
ولكن ربما يكون أسوأ ما في العمل، رغم لمسات الصوابية السياسية المقحمة، هو أنه لم يزل يحمل آثار عنصرية أفلام شوارزنيجر القديمة ضد الشعوب والبلاد الأخرى التي تبدو هنا وكأنها ملعب لا صاحب له يتبارى فيه أبطال المخابرات الأمريكية!
* ناقد فني
اقرأ أيضاً: