قبل نحو 18 سنة، اختارت الفنانة الراحلة نادية لطفي (1937- 2020)، الكاتب الصحافي أيمن الحكيم لكتابة سيرة حياتها، وعلى امتداد هذه السنوات الطويلة تواصلت بينهما الحوارات وتراكمت وتحولت العلاقة إلى صداقة إنسانية، فكانت تعتبره واحداً من أفراد أسرتها، وهو الصحافي الوحيد الذي سمحت له بمرافقتها في غرفة العناية المركزة عندما دخلتها في أزمتها الصحية الأولى قبل 5 سنوات.
وبحكم تلك العلاقة تجمعت لدى "الحكيم" عشرات الساعات من التسجيلات التي تحدثت فيها الفنانة الراحلة عن تاريخها الفني والسياسي والإنساني، وهو ما يعد وثيقة في غاية الأهمية وشهادة على عصر كان زاخراً بالأحداث والنجوم.
وتواصل "الشرق" نشر مذكرات الفنانة الكبيرة، حصرياً، في حلقات متتالية، مدعمة بتسجيلات صوتية وصور من أرشيف الفنانة الخاص، بعضها يُنشر للمرة الأولى. ويكتب "الحكيم" تفاصيل رحلة نادية لطفي كما روتها على لسانها. وفيما يلي نص الحلقة الثانية الذي تتحدث فيه حول طفولتها ونشأتها، وتروي تفاصيل اقترابها من الموت بسبب "برتقالة"، وتحكي قصة طردها من المدرسة الألمانية.
صداقة الحيوانات
مجرد تفاصيل غائمة تلك التي تبقت في ذاكرتي عن البيت الذي عشت فيه سنواتي الأولى بشارع خيرت بوسط القاهرة، وكذلك بيت جدتي القريب منه، ولكني أتذكر جيداً بيتنا الذي انتقلنا إليه في حي "مصر الجديدة".
كانت "فيلا" صغيرة جميلة، وأجمل ما فيها تلك الحديقة الرائعة التي مارست فيها هوايتي المفضلة الأولى، وهي صداقة الحيوانات.
في أركانها عشت سنواتي الأولى مع الكلاب والقطط والخيول والأرانب، وبحكم أنني كنت طفلة وحيدة فقد كانت الحيوانات هي عالمي ومعها أقضي يومي كله، لذلك تجد علاقتي بها فيما بعد شديدة الصلة وكأنها من "بقية أهلي"!
التمرد والعناد
في أولى سنوات عمري كنت طفلة قليلة المشاركة، لكن سرعان ما توطدت صلتي بالشارع فأصبحت في غاية الشقاوة والتمرد والعناد، بل لو كان للعناد برجاً فلكياً لكنت من كبار المنتسبين إليه، لكن "الرأس الصلبة" تظل أهم صفات برج الجدي الذي أنتمى له.
منذ طفولتي تستفزني المهام الصعبة فأنساق وراءها دون تفكير ومهما كانت الخسائر، أذكر مرة أنني لمحت برتقالة جميلة المنظر على فرع متطرف من شجرة البرتقال التي تطل عليها حجرتي في الطابق الثاني من الفيلا، حاولت الوصول إليها من "البلكونة" لكنها استعصت علي.
هداني تفكيري إلى اختراع "خطاف" مكون من حبل متين في نهايته حجر، ظللت ألقيه على الفرع البعيد ليشبك فيه فأهزه حتى تسقط البرتقالة الجميلة وأنالها، وجربت مرات وفشلت.
وبدون تفكير صعدت إلى سور "البلكونة" وكررت المحاولات حتى شبك الخطاف في الفرع، لكن فرحتي سرعان ما تبددت عندما عجزت عن هزه، وزاد عنادي ورحت أحاول بكل قوتي ولم أشعر إلا وأنا أطير في الهواء، قبل أن أسقط على أرض الحديقة والدم ينزف من رأسي، ورغم ذلك لم أصرخ بل ابتسمت عندما رأيت البرتقالة الجميلة إلى جواري!
وكاد العناد يفقدني حياتي مرات لكني لم أعتزله أبداً لأنه في دمي، حدث وأنا طفلة أن كانت جدتي تدربني باهتمام على الصيام في شهر رمضان، لكني كنت أفقد أعصابي وإرادتي أمام عصير "الفراولة" الذي كانت بارعة في إعداده، وفي عصر أحد أيام الصيام شعرت بعطش شديد فقررت أن أتسلل إلى مكان عصير الفراولة في أعلى "البوفيه" الموضوع في حجرة السفرة، وعجزت في البداية لكني صممت على إكمال المهمة في هدوء، ووضعت الكراسي فوق بعضها حتى وصلت إلى الزجاجة المطلوبة، ورحت أشرب منها بنهم، وفجأة شعرت بنار في جوفي، فما شربته كان "سبرتو أحمر" وليس عصير فراولة، وحاولت أن أكتم الألم حتى لا ينفضح أمري ولكني فشلت وصرخت وجاءت سيارة الإسعاف لتنقلني إلى المستشفى!
تدليل زائد
حمتني جدتي من العقاب المتوقع، فقد كنت طفلتها المدللة، وأجمل "الدلع" الذي نلته في حياتي كانت هي مصدره. كانت تحبني بجنون وتصدقني بلا عقل وتدللني بلا حساب، وأذكر أنني عندما كنت لا أرغب في الذهاب إلى المدرسة كنت أتوجه إليها وأنا ممسكة ببطني وأتوجع من ألم شديد، فتعلن حالة الطوارئ في البيت، وتسارع بتجهيز أكواب من الليمون والكمون وكل الوصفات البلدية التي تعتقد أنها تخفف آلام البطن، وبمجرد أن يمر وقت الذهاب إلى المدرسة أعود إلى حالتي الطبيعية ويختفي الألم، والغريب أنها كانت تصدق "التمثيلية" في كل مرة رغم سذاجة الأداء!
ولم تكن أمي راضية عن هذا التدليل الزائد، كانت شخصيتها قوية وترى أن هذا التدليل يمكن أن يفسدني، ولذلك كانت تعاملني بشدة، وما زلت أذكر مشاغباتنا بسبب "البتنجان المقلي" فقد كان من أطباقها المقدسة على السفرة، ولم أكن أحبه وأهرب منه ولكنها كانت تجبرني على أكله وتردد على مسامعي جملتها الخالدة: "لازم تأكليه غصب عنك.. معندناش حاجة اسمها مابحبهوش!"، والغريب أنني لما كبرت أصبحت من محبي "البتنجان المقلي" وكنت أصنعه بنفسي!
كنز الصحراء
كنت عنيدة حتى مع نفسي، ورافضة ومتمردة على "جنسي"، لا أعترف بفرق بين ولد وبنت، وفي تلك السنوات الأولى من عمري كنت إلى عقلية الصبيان أقرب، أرتدي البنطلونات لا الفساتين، وأركب "الدراجات" وأسابق الصبيان بل أشاركهم في لعب كرة القدم، وأدخل في معاركهم الطفولية، أضرب وأتلقى الضربات، ويسيل الدم مني أحياناً، فأعود إلى البيت أعالج نفسي وأعود إلى الشارع من جديد.
وكانت لدي رغبة عارمة في اكتشاف الحياة، أتذكر أن بيتنا كان مجاوراً لمنطقة صحراوية (مصر الجديدة وقتها كانت هي نهاية القاهرة)، وكان لدي اعتقاد غريب، ربما من حكايات جدتي، أن هناك كنزاً في الصحراء.
وكان لدينا ولد صغير يعمل في المنزل في مثل عمري، كنت أصحبه معي في رحلاتي للبحث عن الكنز في الصحراء، وكان في طريقنا مقابر موحشة لم أكن أخاف منها، بل أدخلها وألعب فيها، قبل أن نبدأ في مهمتنا للبحث عن الكنز!
المدرسة الألمانية
وربما أراد والدي أن يقمع في هذا الجنوح إلى التمرد والعناد، وأن يضبط شقاوتي عندما قرر أن ينقلني من مدرستي الفرنسية ليلحقني بالمدرسة الألمانية، والتي كانت مشهورة بالصرامة والانضباط والحزم والشدة في معاملة طلابها.
لم تكن مدرسة بل "معسكر جيش"، كل حركة فيها بنظام ولها تقاليد لا تقبل الكسر.. ولم يكن بها أساتذة بالمعنى التقليدي، بل راهبات شديدات المراس، لا أنسى منهن أبداً "الأخت سيسيليا" التي كان اسمها كفيلاً بإثارة الرعب في نفوس الطالبات، وكانت سبباً رئيسياً في "رفدي" من المدرسة كما سأحكي لاحقاً.
لم تستطع صرامة المدرسة الألمانية أن تمنع تمردي وعنادي، ولم تستطع "الأخت سيسيليا" أن تُهذب من طباعي، فكانت دائمة الشكوى مني، وكثيراً ما أرسلت في استدعاء ولي أمري لتشكوني إليه، وفي كل مرة كان والدي يأتي إلى المدرسة متأسفاً وقاطعاً الوعود على نفسه بأن يعاقبني بقسوة، ويردني عن هذا الطيش.
وذات مرة ضربت زميلة لي استفزتني بشدة فلم أملك أعصابي، واستدعتني "الأخت سيسيليا" إلى حجرتها لتقرّعني، وما زلت أذكر نظراتها النارية لي وهي تقول لي بغيظ مكتوم: لا أظن أن المدرسة الألمانية مر عليها تلميذة في مثل شقاوتك!
لحظتها تمنيت أن تنشق الأرض وتبتلعني ولا أقف في مثل هذا الموقف الصعب الذي كان أقرب إلى المحاكمة، لكني لم أنس رغم ذلك نصيحة والدي المعلقة كحلق في أذني بألا أكذب أبداً مهما حدث، ولم أناور أو أبحث عن مبررات تهوّن ما فعلت، واعترفت لها بشجاعة بأنني ضربت زميلتي فعلاً لأنها استفزتني متعمدة، وعندي من يشهد على صدق كلامي، وراحت الأخت سيسيليا تجاهد في كتم غيظها وهي تشرح لي أنه كان عليّ إبلاغ مشرفة الفصل لتتولى هي عقاب من أساءت إلي، أما أن يأخذ كل مستفز حقه بيده فإننا في هذه الحالة سنكون في "شجار فتوات" وليس مدرسة، ووعدتها أن تكون المرة الأخيرة..
ولكني طبعاً لم أفِ بوعدي، تكررت المشاغبات والعقوبات، وما زلت أذكر "غرفة الفئران" كما كنا نسميها، وهي غرفة مظلمة في بدروم المدرسة يوضع فيها التلميذ المذنب لبضع ساعات، وكنت زبونة لهذه الغرفة، وحتى أهون على نفسي ساعات العقاب المملة كنت أصعد إلى شباك الغرفة المطل على الشارع وأسلي نفسي بإحصاء أقدام المارة!
سنة أولى تمثيل
وبعيداً عن "مشاغبات" الطفولة، لم تكن لي في سنوات دراستي في المدرسة الألمانية أي نشاطات فنية، فلا أذكر أنه كانت لي هوايات موسيقية أو غنائية أو تمثيلية كبقية الطالبات في تلك المرحلة.
وحدث مرة أن اختارتني المشرفة على فريق التمثيل للمشاركة في عرض مسرحي مستوحى من رائعة "البخيل" لموليير، وأسندت لي دور بنت البخيل، ورحت أحفظ الدور استعداداً ليوم العرض، فلما جاءت اللحظة الحاسمة ودخلت إلى خشبة المسرح فوجئت باحتباس صوتي من شدة التوتر، وفشلت في أول تجربة لي في التمثيل، وقررت لحظتها أن أهجر التمثيل إلي الأبد!
لم يكن التمثيل من هواياتي ولا اهتماماتي في تلك المرحلة، بل بدا لي حينها أن احترافه لا يليق بطالبة بل هو "مخالفة" تستوجب العقاب، مثلما حدث مع زميلتنا بالمدرسة الطالبة "مريم فخر الدين" (التي أصبحت النجمة السينمائية المعروفة فيما بعد).
كانت مريم تكبرنا بسنوات، وحدث أن شاركت مريم في مسابقة للفتيات الجميلات، ولما فازت بها نشرت مجلة "حواء" صورتها على غلافها، وهو ما لفت إليها نظر المخرج أحمد بدرخان فسعى إليها وتعاقد معها على بطولة فيلمه الجديد، ونشرت الصحف أخباراً عن الاكتشاف السينمائي الجديد (عام 1950 تقريباً)، وهو ما أثار غضب إدارة المدرسة الألمانية ورأت أنه خروج على تقاليدها ومن الممكن أن يحرض مزيداً من الطالبات على هذا (الانحراف) فقررت "فصل" مريم من المدرسة، وذهبنا ذات صباح لنقرأ الخبر معلقاً في لوحة الإعلانات!
موهبة الكتابة
بعد فشلي في تجربة التمثيل في مسرح المدرسة سيطرت عليّ فكرة ساذجة بأنني أمتلك موهبة خطيرة في الكتابة الأدبية والتأليف، وأصبحت مغرمة بكتابة القصص وإرسالها إلى الصحف والمجلات والمشاركة في مسابقات الهواة، وذات يوم وصلني خطاب من مجلة معروفة يفيد بفوزي بالجائزة الأولى وكانت قيمتها المالية (عشرون جنيهاً)، وأصرت صديقة لي علي أن تقيم لي حفلاً في بيتها بحضور صديقاتنا المقربات على أن أتحمل أنا تكاليفها باعتباري أصبحت ثرية، وفي اليوم التالي ذهبت إلى مقر المجلة لتسلم الجائزة، وإذا بمدير التحرير يلقي إليّ بالمفاجأة الصادمة: لم نرسل لك أي خطاب ونتيجة المسابقة لم تعلن بعد!. وأدركت على الفور أنني تعرضت لمقلب من تلك الصديقة الشريرة!
الفستان الأحمر
حاولت أن أخرج طاقاتي في الرياضة، ومارست السباحة والجمباز، وكانت لي شلة مفضلة من زميلاتي في المدرسة كانت أقربهن إلى قلبي "عنايات الزيات" التي كان انتحارها أول صدمة في حياتي وهو ما يمكن أن أحكيه في موضع آخر.
المهم، قررت "الشلة" مرة أن تحتفل بعيد ميلادي، وبتلك المناسبة ذهبت واشتريت فستاناً جديداً أحمر اللون، وكان الفستان هو حديث عيد ميلادي بعدما أثار إعجاب الجميع، ويبدو أن الإعجاب أدار رأسي فلم أدر بنفسي في اليوم التالي إلا وأنا أرتديه وأذهب به إلى المدرسة، وفوجئت الأخت سيسيليا بالفستان الأحمر يخطف العيون في طابور الصباح، فاستدعتني على الفور إلى غرفتها، وظننت أن الأمر لن يزيد علي توبيخ عادي، ولن يتجاوز في أسوأ الأحوال طلباً باستدعاء ولي الأمر، لكنني فوجئت بما لم يخطر لي علي بال: بولا.. أنت "مفصولة"!
وبعد 11 سنة من الدراسة المتواصلة، وبعد أن كنت على وشك الحصول على الشهادة الثانوية، وجدت نفسي مفصولة من المدرسة الألمانية التي لعبت دوراً مهماً في تشكيل شخصيتي بشكل مباشر، كما كانت سبباً غير مباشر في تلك الشائعة التي لاحقتني طويلاً بأنني من أصول بولندية!
الوفد البولندي
والذي حدث أن وفداً من نجوم وصناع السينما البولندية جاء إلى القاهرة للمشاركة في أسبوع للسينما البولندية، وبولندا وقتها كانت دولة صديقة وترتبط مع مصر بعلاقات وطيدة ولذلك وكنوع من الاحتفاء بالوفد البولندي، قررت مؤسسة السينما المصرية أن تعين له مرافقين من النجوم المصريين.
ولما كانت الألمانية من اللغات المستخدمة في بولندا، فقد بحثت المؤسسة عن نجمات مصريات يجدن الألمانية، ووقع اختيارها على مريم فخر الدين وعليّ باعتبارنا من بنات المدرسة الألمانية بالقاهرة، ولما كانت مريم مشغولة وقتها بتصوير فيلم أصبحت أنا المكلفة بمرافقة الوفد البولندي، ونشرت الصحف صوري مع الوفد وأنا مندمجة في الحديث مع أعضائه بانسجام، وكنوع من (التجويد) كتب صديقنا الصحفي والأثري المعروف كمال الملاخ (المشرف على الصفحة الأخيرة في الأهرام ومؤسس مهرجان القاهرة السينمائي) تعليقاً على صورتي: نادية لطفي تتحدث مع أحد أعضاء الوفد باللغة البولندية التي اكتسبتها عن والدتها البولندية!
ومن يومها - وبسبب ذلك الاجتهاد المستند ربما إلى ملامحي الأوربية - أصبحت بولندية رغماً عني، والغريب أن البولنديين أنفسهم صدقوا الشائعة، وأظن أن صديقنا المخرج حسين كمال هو الذي حكى لي أنه سافر مرة للتصوير في بولندا فوجد صورتي معلقة في حجرة للمكياج، على اعتبار أنني بنت بولندا التي غزت السينما العربية..!
والأغرب أن هناك أصدقاء لي صدقوا "الشائعة" رغم أنهم يعرفون أمي وأصولها التي تنتمي لعائلة من محافظة الشرقية حتى لو كان لها عرق تركي! وفي لحظة، وأمام ذيوع الشائعة وانتشارها وتصديق الناس لها خشيت أن تصدق أمي فعلاً أنها بولندية!
في الحلقة المقبلة: تتحدث نادية لطفي عن تجربتها الأولى في السينما مع المنتج رمسيس نجيب، وتكشف تفاصيل أول عقد لها، والذي اشترطت فيه رفض القبلات أو ارتداء المايوه، وتسترجع تفاصيل الدعوى القضائية التي أقامها ضدها الكاتب إحسان عبد القدوس.
اقرأ أيضاً: