مذكرات نادية لطفي (3): بسبب اسمي أقام إحسان عبد القدوس دعوى قضائية ضدي

time reading iconدقائق القراءة - 15
الفنانة المصرية نادية لطفي - الشرق
الفنانة المصرية نادية لطفي - الشرق
القاهرة-أيمن الحكيم

تواصل "الشرق" نشر مذكرات الفنانة الراحلة نادية لطفي (1937- 2020)، والتي اختارت الكاتب الصحافي أيمن الحكيم لكتابتها قبل نحو 18 سنة. وعلى امتداد هذه السنوات الطويلة تواصلت بينهما الحوارات وتراكمت وتحولت العلاقة إلى صداقة إنسانية، فكانت تعتبره واحداً من أفراد أسرتها، وهو الصحافي الوحيد الذي سمحت له بمرافقتها في غرفة العناية المركزة عندما دخلتها في أزمتها الصحية الأولى قبل 5 سنوات.

وبحكم تلك العلاقة، تجمعت لدى "الحكيم" عشرات الساعات من التسجيلات التي تحدثت فيها الفنانة الراحلة عن تاريخها الفني والسياسي والإنساني، وهو ما يعد وثيقة في غاية الأهمية وشهادة على عصر كان زاخراً بالأحداث والنجوم.

المذكرات التي تنشرها "الشرق" في حلقات متتالية حصرياً، تأتي مدعمة بتسجيلات صوتية وصور من أرشيف الفنانة الخاص، بعضها يُنشر للمرة الأولى. ويكتب "الحكيم" تفاصيل رحلة نادية لطفي كما روتها على لسانها. وفي ما يلي نص الحلقة الثالثة الذي تتحدث فيه حول ظروف زواجها المبكر، وتروي تفاصيل لقاءها الأول بالمنتج رمسيس نجيب، وتحكي قصة مقاضاة الكاتب إحسان عبد القدوس لها.

صدمة قاسية

فصلي من المدرسة الألمانية في عام 1953 كان صدمة قاسية وغير متوقعة أربكت حياتي بشدة، لكن صدمتي الأكبر كانت من توابعها، إذ أصبحت تحت حصار عائلي، كل حركة بحساب، وكل خروج بإذن، وانقطعت علاقاتي بعالمي القديم، فقط بقيت على صلة بأعز صديقتين لي من زميلات المدرسة: عنايات الزيات ووفاء الزهيري بحكم وجود روابط أسرية بين عائلاتنا، كان مسموحاً لي بتبادل الزيارات معهما. ولكن القيود راحت تزداد، وبدأت أشعر بالاختناق، خصوصاً بعد التحالف بين عائلة أبي وعائلة أمي على تنظيم حياتي وتأهيلي للزواج..

وكانت جدتي أسعد الناس بهذا الوضع على الرغم من محبتها الغامرة لي، فقد كانت على قناعة بأني تأخرت في الزواج، هي نفسها تزوجت وعمرها 13 سنة. ومنذ أن بلغت أنا سن الخامسة وهي تحلم بهذا اليوم الذي تراني فيه عروسة، وصار الأمر بالنسبة إليها بمثابة محور حياتها ومهمتها المقدسة.

زواج مبكر

كان زواج البنات في سن مبكرة مسألة عادية وطبيعية طبقاً لتقاليد المجتمع وقتها، ولذلك لم تفاجأ أسرتي عندما جاءت أسرة البشاري لتخطبني لابنها، واللواء عبد الفتاح البشاري كان عسكريا مرموقاً، ولديه إخلاص للحياة العسكرية وهو ما تجلى في إلحاق أولاده بالكليات العسكرية المختلفة، خاصة الطيران والبحرية.

وبحسب معلوماتي فإنه كان قائداً للقوات المصرية في السودان وكان من أقرب أصدقاء اللواء محمد نجيب، والأهم أن عائلة البشاري كانوا جيراناً لنا في مصر الجديدة، وجاءوا ليطلبوا يدي لابنهم "عادل" الذي تخرج في الكلية البحرية، ووافقت أسرتي وتمت الخطوبة، أي أنه كان "زواج صالونات" كما يسمونه الآن.

وأذكر أن حفل زواجي في عام 1954 حضره اللواء محمد نجيب، أول رئيس جمهورية بعد ثورة يوليو 1952، قبل إقالته وتحديد إقامته.

وهكذا أصبحت حرم الضابط البحري عادل البشاري وانتقلت معه إلي الإسكندرية حيث مقر عمله، واستأجرنا شقة جميلة في حي "جليم" أحد أعرق أحياء الإسكندرية، لتبدأ مرحلة جديدة من حياتي.

عنايات الزيات

لم يطل شهر العسل كثيراً، فوقتها (بعد ثورة يوليو)، بدأت مصر بناء قوة بحرية على الحدود الشرقية، ولذلك كان "عادل" يختفي لأيام طويلة، وأحيانا لأسابيع في غواصته في مهام عسكرية وتدريبية ومناورات وتجهيزات وأمور لم يكن يخبرني عنها شيئاً بحكم أنها أسرار حربية.

وكنت مقدرة لهذه الظروف بالطبع، ولكن المشكلة كانت في وقت الفراغ الطويل الذي أعيشه وهو بعيد، ولم يخفف عني هذا الفراغ سوى نصيحة أمي بأن أشغل وقتي بالقراءة، بجانب التفاف عائلة عادل حولي وخاصة "سوسو" شقيقته التي سرعان ما تحولت إلى توأم روحي، وعوضتني نوعاً ما عن افتقادي لصديقة عمري عنايات الزيات، التي تزوجت هي الأخرى في شتاء عام 1956 وانشغلت في حياتها الجديدة، ولم أكن أراها إلا في إجازات الصيف حين تأتي لتقضيها في الإسكندرية، أو حين أعود أنا لزيارة أسرتي في القاهرة، وكنت أتلهف على لقائها. 

وظلت هي الصديقة الأحب والأقرب إلى قلبي، وكانت معي خطوة بخطوة في ترتيبات زواجي، وأذكر اليوم الطويل الذي رافقتني فيه لنشتري حذاء زفافي الدانتيل (موضة تلك الأيام)، وتحملتني ساعات طويلة من التسوق في المحلات حتى اقتنعت بحذاء كان ثمنه 8 جنيهات كاملة!

شغلت نفسي بهواياتي المحببة: القراءة والرسم ومتابعة حركة الفن التشكيلي والتصوير الفوتوغرافي والرياضة والموسيقى، إلي أن منّ الله عليّ بأجمل عطاياه: ابني "أحمد"، فأصبح دنيتي الصغيرة، وأعترف أنني تلقيت دعماً في تربيته والعناية به من صاحبات الخبرة العريضة: أمي وعمتي والمربية التي ربتني.

دنيا جديدة

ومرت السنوات، إلى أن جاءت الواقعة التي غيرت مصيري ومسار حياتي وأدخلتني إلى دنيا أخرى لم تكن تخطر لي في بال، فقد ربطتنا آنذاك صداقة عائلية مع جان خوري بحكم أن زوج أخته كان ضابطاً ومن أصدقاء زوجي. كان جان منتجاً وموزعاً سينمائياً مرموقاً وصاحب شركة إنتاج معروفة تدعى "الشرق" كما أن زوجته "مارسيل" هي شقيقة المخرج يوسف شاهين، وأنجب "جان" و"مارسيل" اثنين من أبرز صناع السينما المصرية الآن: "غابي" و" ماريان" خوري.

وفي واحدة من إجازات عادل تلقينا دعوة على سهرة عائلية في بيت "جان" و"مارسيل"، وفي تلك الليلة وهذه السهرة كنت على موعد مع القدر، فقد كان بين المدعوين المنتج المبدع رمسيس نجيب الذي ارتبط اسمه بعشرات من أنجح الأفلام في تاريخ السينما، كما كان يمتلك عين جوهرجي مدربة وقادرة دوماً على اكتشاف الجواهر الثمينة من أول نظرة. 

وبتلك النظرة الخبيرة، وبعد أن تفحصني ملياً طوال السهرة، اقترب مني رمسيس نجيب وسألني بابتسامة محايدة: "مدام بولا.. انتي بتحبي السينما؟"، كان السؤال مباغتاً لي وغريباً، فأجبت بحياد: "طبعا.. مين ما يحبش السينما"، فإذا به يفاجئني: "تحبي تمثلي في السينما؟!"، ارتبكت لثواني ثم أجبته: "الحقيقة عمري ما فكرت أكون ممثلة".

لم يعطني فرصة للتفكير فراح يشرح لي أنه يجهز لفيلم جديد اسمه "سلطان" مع نجم الشباك وقتها فريد شوقي، ودور البطولة النسائية فيه لصحافية شابة بريئة ويجري استغلال براءتها في الإيقاع بمجرم عتيد، وأنه يفضل إسناد الدور لوجه جديد حتى يكون أكثر إقناعاً، فالجمهور ملّ من وجوه الممثلات اللواتي احترفن أدوار البراءة.

السينما تجدد دماءها

وهنا أتوقف لأشير إلى ملاحظتين في غاية الأهمية، بالنسبة إلي على الأقل:

الأولى: أن الموضوع لم يكن مجرد بحث عن وجه جديد في فيلم جديد، بل كان أكبر من ذلك وأعمق، لم يكن رمسيس نجيب يبحث عن بطلة لفيلم، بل كانت السينما المصرية هي التي تبحث عن وجوه أخرى تجدد بها دمائها وتتناسب مع مرحلة جديدة من التاريخ المصري بدأت صفحاتها بعد ثورة يوليو.

الملاحظة الثانية: وهي أن الفن كان بالنسبة لي قدر، ولا راد لقضاء الله وقدره، وصحيح أن احتراف التمثيل لم يكن على خريطة حياتي، لكن دعني أقول أيضاً أن السينما كانت حلماً من أحلام كل بنات جيلي، لا تصدق بنتاً تقول لك أنها لم تحلم بالسينما وأضواءها، بهذا العالم الساحر بكل ما فيه من خيال وغموض ومتعة، وكان عندي من الوعي منذ البداية لأن أدرك عظمة هذه المهنة ومدى تأثيرها، ولذلك خَشَيتُ عندما عرض عليّ رمسيس نجيب بطولة "سلطان"، خَشَيتُ من المسئولية وألا أكون جديرة بلقب فنانة.

وربما كان من حسن حظي أن العرض جاء من منتج له مكانة رمسيس نجيب وسمعته الطيبة أخلاقياً وفنياً، ولا بد أن أوضح أن العرض لم يكن على "بياض" كما يقولون، بل كان مشروطاً باجتياز "اختبار كاميرا"، وأذكر أن المصطلح استوقفني وسألت الأستاذ رمسيس بفضول: "اختبار إيه.. هو أنا داخله مدرسة؟"، فراح يشرح لي: "لازم الكاميرا تحبك وتوافق عليكي.. ممكن تبقى ملكة جمال الكون والكاميرا يبقى لها رأي تاني". 

اختبار كاميرا

وأمام الكاميرا وقفت وكان خلفها لجنة جاء بها رمسيس لاختباري، وضمت: جليل البنداري، وإحسان عبد القدوس، وعبد النور خليل، وفوميل لبيب، وثروت فهمي، وموسى صبري، وكمال الملاخ. وعلى الرغم من أن الكاميرا أجازتني، ومنحتني لجنة الاختبار صك النجاح، إلا أنني كنت غير راضية عن المستوى الذي ظهرت به، وصارحت الأستاذ رمسيس وقلت له: ما زال ينقصني الكثير لأقف أمام كاميرا السينما وأؤدي كمحترفة، فقرر أن يستغل الفترة التي تسبق تصوير الفيلم في تجهيزي.

وأزعم أن "الدروس الخصوصية" التي نلتها على يد ثلاثة من عمالقة التمثيل والأداء والالقاء أفادتني كثيراً، وكأنني تخرجت في أكاديمية للتمثيل، وكان من حسن حظي أنني تلقيت دروسي الأولى في التمثيل على يد الأساتذة عبد الوارث عسر، وفاخر فاخر، وجيلان رطل.. والأولان كانا من "أسطوات التمثيل"، والأخيرة كانت أشهر خبيرة في الصوتيات، دربتني على أساليب النطق المحترف وفن الكلام،  وتلقى الأستاذ رمسيس تقريراً من المدرسين الخصوصيين يفيد بأنني أصبحت جاهزة لدخول "البلاتوه".

اسم فني

وعندما أراد الأستاذ رمسيس أن يوقع معي عقد احتكار ظهرت مشكلة غريبة، فقد صارحني بأن اسمي "بولا" غير فني، وسيعطي انطباعاً بأنني غير مصرية ولذلك يجب البحث عن اسم فني جذاب يليق بنجمته الجديدة، وبالنسبة لي كان هناك سبب أخر شخصي يدفعني للبحث عن اسم جديد، وهو أن والدي لم يكن راضياً عن اتجاهي للتمثيل وكنوع من الرفض المستتر ألمح إلى رغبته في عدم استخدامي لاسم العائلة إذا صممت أن أكون ممثلة.

وبدأنا رحلة بحث عن اسم فني، واقترحوا عليّ أسماء لم استرح لها مثل "سميحة حسين" أو "سميحة حمدي"، وفي لحظة إلهام قفز إلي خاطري اسم "نادية لطفي" بطلة رواية إحسان عبد القدوس الشهيرة "لا أنام"، فقد جذبتني الشخصية وشعرت أنها قريبة مني خاصة عندما جسدتها نجمتي المفضلة فاتن حمامة في الفيلم المستوحى عن الرواية، ثم إن اسم "نادية" من الأسماء التي تمنيت أن أحملها لو لم يختر لي والدي اسم "بولا".

اتهام بالسطو

ولما اقترحت الاسم على الأستاذ رمسيس تحمس له، ورأى أنه يليق بنجمته الجديدة، كما أن إيقاعه جذاب ومريح للأذن وسهل الحفظ، وفعلا بدأت حملة تسويق صحفية بالاسم الجديد، لكن لم يفسد فرحتنا به سوى اعتراض إحسان عبد القدوس، حيث اتهمنا بالسطو على اسم بطلة روايته، ولم يكن اتهاماً شفاهياً، بل أرسل إلينا إنذاراً قانونياً، ولم تطل الأزمة فقد صحبني الأستاذ رمسيس ذات يوم وزرنا الأستاذ إحسان وصفينا المشكلة ودياً، وصار إحسان بعدها من أقرب أصدقائي وكان لي حظ أن قمت ببطولة عدد من الأفلام المأخوذة عن رواياته، كما ربطتني علاقة عائلية مع زوجته (لولا) وولديه (أحمد ومحمد).

الطريف أنني استغرقت فترة حتى أعتاد على اسمي الجديد، وعندما كان يناديني أحد باسم "نادية" لم أكن أرد!

شروط التعاقد

ووقّع معي رمسيس نجيب عقد احتكار مدته عام، وأعتبره من أعجب العقود في تاريخ السينما من فرط سذاجته وبنوده اللامنطقية التي اشترطتها، وكان المنتج في غاية الكرم معي حين وافقني عليها، كان منها مثلا أن من حقي الامتناع عن أداء المشاهد العاطفية التي تتضمن "القبلات" أو ارتداء المايوهات، ومنها أنه لا يجوز خلال مدة الاحتكار (ثلاثة أفلام) أن يسبق اسمي على "الأفيش" أي ممثلة أخرى باستثناء اثنتين حددتهما بالاسم: فاتن حمامة وتحية كاريوكا، وكان الاختيار مبنيا على اعتبارات عاطفية ساذجة وغير موضوعية.

أما رمسيس فقد وضع شروطا في العقد أقنعني أنها ضرورية وفي صالحي لصناعتي كنجمة جديدة، منها أنه لا يجوز لي الإدلاء بأي أحاديث صحفية إلا بعد الرجوع إليه والحصول على موافقته، بجانب تنبيه بألا أتصرف على سجيتي في "البلاتوه" وألا أتباسط مع العمال أو أضحك بصوت عال!

وكان أجري عن الفيلم الأول 500 جنيه وهو مبلغ معتبر بأرقام وحسابات تلك الأيام، إذا أخذنا في الاعتبار أنني مجرد وجه جديد وليس لي سابقة أعمال.

في "البلاتوه" للمرة الأولى

وذهبت إلى الـ"بلاتوه" لأول مرة وكان الجميع في ترقب لمشاهدة الاكتشاف الجديد لرمسيس نجيب، وجلس معي المخرج نيازي مصطفي ليشرح لي تفاصيل المشهد، وكان من سوء حظي أنه أصعب مشاهد الفيلم، وفيه أقوم بدور صحافية يستخدمها ضابط البوليس (رشدي أباظة) في خداع سلطان المجرم البريء (فريد شوقي) وتوهمه بحبها وموافقتها على الزواج منه للإيقاع به.

وفي المشهد، تجلى فريد شوقي واندمج في الدور، وراح يبكى وهو راكع أمامي يقبل يدي ويرجوني أن أقبل الزواج منه ليبدأ معي حياة جديدة، وهزتني كلماته وصدق أدائه، فلم أملك دموعي التي سالت بشكل طبيعي وبلا "غليسرين"، وصاح المخرج: "ستوب"، وظننت أن أدائي لم يعجبه فإذا بعاصفة من التصفيق تدوي في الأستوديو تهنئني على أدائي وإحساسي وتمكني كممثلة، وعندما أستعيد هذا المشهد فإنني أضحك في سري وأتذكر مشهدا كوميديا من فيلم لجيري لويس يؤدي فيه دور جندي ساذج، وبدافع من تلك السذاجة يجتاز حقل ألغام خاف الجميع من اجتيازه فيظنونه خبيراً متمرساً في الألغام، أنا كذلك كنت في فيلمي الأول، من فرط تلقائيتي وثقتي الناتجة عن عدم الإدراك، اعتقدوا أنني ممثلة محترفة.

على أي حال، كتب "سلطان" شهادة ميلادي كممثلة.. لتبدأ تلك الرحلة الطويلة الممتعة.

في الحلقة المقبلة: تتحدث نادية لطفي عن لقائها الأول بالمخرج يوسف شاهين، وتسترجع تفاصيل عملها معه في فيلم "الناصر صلاح الدين"، وتكشف عن أول درس تعلمته منه في عالم التمثيل.

اقرأ أيضاً:

مذكرات نادية لطفي (1): حملت اسم ممرضة إيطالية وُلدت على يديها

مذكرات نادية لطفي (2): لم يكن التمثيل من هواياتي.. وفشلت في أول تجربة
 


تصنيفات