مذكرات نادية لطفي (4): يوسف شاهين علمني أول درس في السينما

time reading iconدقائق القراءة - 15
الممثلة المصرية نادية لطفي - الشرق
الممثلة المصرية نادية لطفي - الشرق
القاهرة-أيمن الحكيم

تواصل "الشرق" نشر مذكرات الفنانة الراحلة نادية لطفي (1937- 2020)، والتي اختارت الكاتب الصحافي أيمن الحكيم لكتابتها قبل نحو 18 سنة. وعلى امتداد هذه السنوات الطويلة تواصلت بينهما الحوارات وتراكمت وتحولت العلاقة إلى صداقة إنسانية، فكانت تعتبره واحداً من أفراد أسرتها، وهو الصحافي الوحيد الذي سمحت له بمرافقتها في غرفة العناية المركزة عندما دخلتها في أزمتها الصحية الأولى قبل 5 سنوات.

وبحكم تلك العلاقة، تجمعت لدى "الحكيم" عشرات الساعات من التسجيلات التي تحدثت فيها الفنانة الراحلة عن تاريخها الفني والسياسي والإنساني، وهو ما يعد وثيقة في غاية الأهمية وشهادة على عصر كان زاخراً بالأحداث والنجوم.

المذكرات التي تنشرها "الشرق" في حلقات متتالية حصرياً، تأتي مدعمة بتسجيلات صوتية وصور من أرشيف الفنانة الخاص، بعضها يُنشر للمرة الأولى.

ويكتب "الحكيم" تفاصيل رحلة نادية لطفي كما روتها على لسانها. وفي ما يلي نص الحلقة الرابعة التي تتحدث فيها عن لقائها الأول بالمخرج يوسف شاهين، وتسترجع تفاصيل عملها معه في فيلم "الناصر صلاح الدين"، وتكشف عن أول درس تعلمته منه في عالم التمثيل.

بداية مُشجعة

كانت البداية مُشجعة وواعدة، إذ نجح فيلم "سلطان" تجارياً ونقدياً وهو الأمر الذي بدأ يلفت الأنظار لبطلته الجديدة التي تظهر على الشاشة لأول مرة.. والتي هي أنا.

وللأمانة كان يوسف شاهين (المخرج الشاب وقتها) أول من تنبه إلي أنني يمكن أن أكون نجمة السينما القادمة. وبحكم صلته بالشركة المنتجة لفيلم "سلطان"، فهو شقيق زوجة "جان خوري" شريك رمسيس نجيب وصديقه الصدوق، فقد كان مسموحاً له بالحضور في ستديوهات التصوير، وراح يراقبني من الكواليس، ولم ينتظر حتى أنتهي من فيلمي الأول، فقد فوجئت به يرشحني لبطولة فيلمه الجديد.

وبعد أن انتهيت من التصوير ذات يوم، طلب أن يوصلني بسيارته، فوافقت بلا تردد لأنني كنت أعرفه معرفة عائلية وشقيقته صديقتي، وفي سيارة يوسف شاهين تلقيت أول دروسي العملية كممثلة محترفة.

الدرس الأول

حين وقّع معي رمسيس نجيب عقد "سلطان" فإنه همس لي بنصيحة: "إنتي ح تبقى نجمة بعد الفيلم ده.. ولما توقعي عقد جديد إوعي تقبلي أجر أقل من 5 آلاف جنيه"، وكان يتحدث بجدية جعلتني أصدقه بلا تفكير، وأخذت نصيحته بكل اهتمام.

وعندما فاتحني يوسف شاهين في فيلمه الجديد وعرض عليّ بطولته، قلت له بثقة: "حآخد 5  آلاف جنيه"، فأوقف سيارته فجأة ونظر لي نظرة هي خليط من الغضب والغيظ والدهشة، وقال لي بحدة: "ليه تكونيش بير بترول، أو فاكرة نفسك فاتن حمامة؟ ده حتى فاتن بتاخد 3 بس!".

ويبدو أنه أحس بسذاجتي وأن هناك من ورطني، فراح يشرح لي أنني كوجه جديد أحتاج في البداية إلي أفلام متعددة وأدوار جيدة لأثبت نفسي أولاً وعليّ ألا أفكر في أجر الآن، فالفلوس قريباً ستأتيني.. بل ستطاردني!

وعندما بدأت أقتنع عاد يتجول بنا في الشوارع، وقلت له: "إذا تجاوزنا موضوع الأجر.. فهناك شرط آخر لا يمكنني التنازل عنه"، سألني بفضول عن شرطي الحاسم، فقلت بثقة: "زي ما عملت مع الأستاذ رمسيس.. لا يكون في فيلمك قبلات ولا مايوهات".

استفزه كلامي حتى أنه كاد أن يرتكب تصادماً مروعاً أو يصعد بالسيارة على الرصيف، وبعد فاصل من شتائمه المحببة، شرح لي أن ما أقوله يدل على أنني لا أفهم شيئاً في فن التمثيل، وأنني إما أن أقبل بشروط المهنة أو أعود إلى بيتي أو أبحث عن مهنة أخرى، فالقبلة مثل الصفعة لو كان لها ضرورة درامية فليس من حق البطلة أن ترفضها أو تعترض عليها، وبالنسبة لموضوع المايوهات فمن العيب على امرأة مثلي عاشت في الإسكندرية وترتدي المايوه على البلاج أمام كل الناس أن تكون عقليتها بهذا التخلف!

ولا أنسى جملته التي قالها لي في ذلك اليوم: "بصي يا نادية.. التمثيل ده مهنة لا تقبل أنصاف الحلول.. يا تقبليها كلها.. يا ترفضيها كلها".

رأيت كلامه مقنعاً ومنطقياً فلم أجد أمامي سوى أن أسأله عن فيلمه الذي يرشحني لبطولته، وأمام بيتي وأنا أنزل من سيارته أجاب: اسمه "حب إلي الأبد".. والبطل أمامك أحمد رمزي.

حب إلى الأبد

"حب إلى الأبد" كان فيلمي الثاني في مشواري السينمائي. كتب السيناريو: وجيه نجيب، وكتب الحوار: محمد أبو يوسف، وصورنا مشاهده في ستوديو نحاس، وكان أول فيلم يجمعني مع الفنان الكبير محمود المليجي، وكان عرضه الأول في 15 سبتمبر 1959. 

ومن حسن حظي أن عملت مع يوسف شاهين في بدايات مشواري السينمائي، فتعلمت منه عملياً مفهوم الاحتراف، وأنني لكي أكون ممثلة محترفة، عليّ أن أقدم كل ما عندي للعمل الذي أصوره، وأن أقبل بشروط التمثيل وليس العكس، وهو ما تجلى مثلاً في فيلمي الثالث "حبي الوحيد" الذي كتبه علي الزرقاني وصبري عزت، وأخرجه كمال الشيخ، وشاركني بطولته عمر الشريف وكمال الشناوي وشويكار وكان تاريخ عرضه الأول في 3 أكتوبر 1960.

في الفيلم، كانت هناك قُبلة تجمعني مع عمر الشريف، ورأيت أن لها ضرورة درامية ولا غنى عنها فلم أتردد في تصويرها، وأجمل ما في يوسف شاهين إنه يحب "الممثل بتاعه" بدرجة غير معقولة ويحب أن يُظهر منه أفضل ما لديه.

أتذكر كنا نصور مشهد الانتحار، ركبت السيارة، فوجدت يوسف جالساً معي في "دواسة السيارة" بجوار الكاميرا، وسرنا في شارع الهرم، والمفروض أنني سأبكي، حاولت لكني فشلت ولم تخرج دموعي، فقال لي: "افتكري إن ماما عيانة"، قلت له ببرود: "مش عيانة"، قال: "طيب افتكري لما أبوكي مات".. قلت له: "ما ماتش"، قال: "طيب تخيلي ابنك بيصرخ وعايز يرضع"، قلت: "ابني كبير".

والحقيقة أنني أشفقت عليه وهو يحاول بكل طريقة أن يستدر دموعي، وكان فيه خطاب مفترض أرسله لحبيبي في الأحداث "أحمد رمزي" قبل انتحاري (الفيلم مستوحى من رواية غادة الكاميليا) وبدأ يوسف يقرأ لي الخطاب بإحساس فظيع، وفجأة وجدت نفسي أبكي، وتعلمت من هذا الموقف درساً ظل معي طول عمري وهو أن الممثل لا يستدعي إحساسه من موقف آخر غير المشهد الذي يمثله، ولابد أن يكون نابعاً من المشهد، وانفعاله به حقيقياً وصادقاً.

كمال الشناوي

ومن ذكرياتي الطريفة في هذا الفيلم، أنني حتى ذلك الحين كنت أتعامل بتحفظ شديد مع النجوم الرجال، تنفيذاً لنصيحة رمسيس نجيب، بأن أضع مسافة بيني وبين الزملاء في الاستوديو ولا أمزح معهم.

وحدث في فترة الاستراحة أن كنت جالسة بجوار حمام السباحة انتظاراً للمشهد المقبل، فاقترب مني كمال الشناوي بهدوء وهو يدندن بمطلع أغنية عبدالحليم حافظ "حبيبي" وكأنه يغنيها لي في موقف غزلي ناعم، فنظرت له نظرة غضب فاجأته وألجمته وأخافته، فتوقف للحظات، وبثبات انفعالي يحسد عليه استأنف الغناء وبسرعة بديهة واصل كلمات الأغنية: "قصدي اللي كان حبيبي" ثم ابتعد، وكدت أضحك من طرافة منظره وكتمت الضحك في سري.. طبعاً، وصار كمال الشناوي فيما بعد من أقرب النجوم إلي قلبي، خصوصاً أنه كان من محبي الرسم وممارسيه مثلي، كما سافرنا سوياً إلى أهم المهرجانات العالمية.

أيضاً من ذكرياتي التي لا أنساها عن هذا الفيلم حكاية الشنطة "الراكور"، إذ فوجئت ونحن نصور أحد المشاهد في كازينو بالمقطم بصديقة عمري عنايات الزيات، ولمحت في يدها حقيبة جديدة، أعجبني شكلها لدرجة أنني خطفتها منها لأصور بها المشهد القادم، وفيه يجمعني لقاء رومانسي مع عمر الشريف (حبيبي في الفيلم).

وبعد تصوير المشهد، استأذنت عنايات في الانصراف واستأذنتني في الحقيبة، لكن المخرج رفض: "ما ينفعش، دي بقت (راكور) ولازم الحقيبة تفضل علشان نصور بيها المشهد اللي ح ترقصي فيه مع عمر الشريف بالليل".

وظللت أشرح لعنايات وأعتذر لها عن هذا الموقف السخيف الذي سيجبرها أن تترك لي حقيبتها الجديدة، وفعلاً أفرغت الحقيبة وأخذت محتوياتها في كيس بلاستيك ورجعت إلى المنزل بدونها.

الناصر صلاح الدين

كان عليّ أن أنتظر ثلاث سنوات وأشارك في بطولة 13 فيلماً بعد "حب إلي الأبد"، وأدخل في تجارب متنوعة قبل أن ألتقي يوسف شاهين من جديد في فيلم "الناصر صلاح الدين"، حيث قدمت معه دوراً أعتز به كثيرا وهو الفارسة "لويزا".

وفي شهادة للتاريخ، أقول إن أول من رشحني للدور هو المخرج الكبير عزالدين ذو الفقار، صاحب المشروع والمخرج الأول للفيلم، وكان قطع فيه شوطاً طويلاً ورشح فريق العمل ولكن ظروفه الصحية ومرض الروماتيزم الذي تمكن من جسده حال دون أن يكمل الفيلم، فرشحت السيدة آسيا منتجته العظيمة، يوسف شاهين لإخراجه.

وعلى الرغم من أنني لم أعمل مع عز، لكن ربطتني به صداقة قوية، وكنت قابلته لأول مرة في مرسى مطروح، وكان يقضي بها عدة شهور بناء على نصيحة الأطباء لطبيعة جوها الصحي الجاف المناسب لمرضى الروماتيزم.

وكنت في إجازة مع زوجي وقتها القبطان عادل البشاري، وكان اسمي بدأ يتردد حينها كممثلة سينمائية صاعدة بعد فيلم "حب إلى الأبد"، وأذكر أن عزالدين أشاد بأدائي وتوقع لي مستقبلاً كبيراً كممثلة.

كان عز هناك بصحبة زوجته كوثر شفيق التي صارت من أقرب وأعز صديقاتي، وأذكر أن كان معهما الكاتب والسينارست يوسف جوهر، الذي كان يجهز مع عز لفيلم جديد، وتعارفنا.

وكان عز وقتها من ألمع مخرجي السينما، وتكررت اللقاءات بعد عودتنا للقاهرة، خاصة بعد أن رشحني لدور الفارسة الصليبية في فيلم "الناصر" وطلب مني تجهيز نفسي للدور بتدريب محترف على ركوب الخيل.

وفعلاً تدربت لفترة طويلة بين مزرعة خيول في الإسكندرية، كان يملكها والد الفنان والموسيقار المعروف محمد سلطان وكان جاراً لنا في الإسكندرية.

وفي القاهرة، كنت أتدرب مع صديقتي وجدان البربري في نادي الفروسية بالعباسية، وفي بيتها تعرفت لأول مرة على أصدقاء العمر الكتاب الكبار أحمد رجب ومصطفى محمود وأنيس منصور.

تعطل تصوير الفيلم نحو سنة بسبب مرض عز وانتقال مهمة الإخراج إلى يوسف شاهين، واستغرق "جو" وقتاً حتى يكمل التحضير وفريق العمل، إذ اعتذر رشدي أباظة عن دور "ريتشارد قلب الأسد" لانشغاله بتصوير فيلم من إنتاجه، وجاء حمدي غيث ليحل محله ليصبح دور عمره.

وظل أحمد مظهر متردداً لفترة تهيباً من ضخامة الفيلم وأهمية الشخصية والاهتمام الوطني به، ففي ذلك الحين أصبح صلاح الدين بتأثير الاهتمام الإعلامي وكأنه "الأب الروحي" لبطل العروبة الجديد ومحرر القدس القادم جمال عبدالناصر، والذي كان قد ذكر "صلاح الدين" بإعجاب في خطبه الجماهيرية، فكان سبباً في حماس مؤسسة السينما للمشاركة في تمويل الفيلم بسخاء.

وصلت ميزانية إنتاج الفيلم على الورق إلى 100 ألف جنيه وقتها، لكن مع "جنون" يوسف شاهين قفزت الميزانية إلي 180 ألفاً، وهو مبلغ أسطوري وقتها، يصل بأرقام أيامنا إلى 50 مليوناً.

ومن أجمل ما حدث لي في هذا الفيلم أنه كان سبباً في صداقتي بشادي عبدالسلام (مصمم الأزياء والديكورات في الفيلم والمخرج العالمي فيما بعد)، فساعدني بحكم ثقافته وتعمقه في دراسة تلك الفترة التاريخية، وزودني بمعلومات وكتب ومراجع ساعدتني كثيراً في فهم تفاصيل شخصية "الفارسة الصليبية لويزا" وأدائها بهذا الشكل المميز.

من أكبر مزايا يوسف شاهين كمخرج أنه يجعل كل المشاركين في الفيلم أسرة واحدة، ويضعهم في الحالة الدرامية ويجعلهم يتعايشون معها، فطوال فترة التصوير كنت أحس أنني فعلاً "لويزا".

العرض الأول للفيلم كان في 25 فبراير 1963 وحقق من النجاح ما يجعله يدخل في قائمة أفضل الأفلام في تاريخ السينما المصرية.

وكان من حظي أن العام الذي عرض فيه "الناصر صلاح الدين"، كانت دور السينما تستقبل فيلمي "النظارة السوداء" من إخراج حسام الدين مصطفي ويشاركني بطولته أحمد مظهر أيضاً، ودخل الفيلمان في منافسة شرسة على الفوز بشرف تمثيل مصر في مسابقة الأوسكار الأمريكية لأحسن فيلم أجنبي، وتشكلت لجنة من كبار السينمائيين لاختيار الفيلم الفائز بأعلى الأصوات، ولما تسرب فوز "النظارة السوداء" اعترض يوسف شاهين وأقام الدنيا وطالب بإعادة الاستفتاء، والمؤكد أنكم عرفتم النتيجة، وكان حسام الدين مصطفي من النبل أن كان أول المهنئين ليوسف شاهين و"الناصر صلاح الدين". 

الدراسة والتلقائية

لم تتح لي فرصة العمل مع يوسف شاهين فيما بعد، لكن علاقتي به ظلت قائمة وتأثيره عليّ ظل مستمراً، بل أعتبره من الذين غيروا مسار حياتي وفكري.

أذكر مثلاً أنني في فترة قررت السفر إلى أميركا لدراسة السينما بشكل أكاديمي، وقدمت أوراقي بالفعل في معهد للسينما في كاليفورنيا، وعدت إلى القاهرة لأنهي بعد أموري كي أتفرغ تماماً للدراسة والسفر الطويل.

وقتها قابلني يوسف ورويت له عن خطتي، ففوجئت به يرفض بشدة، قائلاً: "إوعي تعملي كده.. ح تبوظي أحسن حاجة عندك كممثلة: تلقائيتك.. لو بقيتي محترفة ستأكلك الممثلات المحترفات.. لا يمكن أن تصلي لمستوى فلانةوفلانة (وذكر لي أسماء منهن)، خليكي كده بطبيعتك".

وصدقته وألغيت المشروع واحتفظت بما رآه يوسف شاهين أجمل حاجة فيّ كممثلة.

في الحلقة المقبلة: تتحدث نادية لطفي عن لقائها الأول بالعندليب الأسمر عبدالحليم حافظ، وتسترجع تفاصيل عملها معه في فيلمي "الخطايا"، و"أبي فوق الشجرة"، وتحكي عن "الصفّعة" التي تلقتها منه ولا تنساها أبداً.

اقرأ أيضاً:

مذكرات نادية لطفي (1): حملت اسم ممرضة إيطالية وُلدت على يديها

مذكرات نادية لطفي (2): لم يكن التمثيل من هواياتي.. وفشلت في أول تجربة

مذكرات نادية لطفي (3): بسبب اسمي أقام إحسان عبد القدوس دعوى قضائية ضدي
 

تصنيفات