ثمة قاعدة بسيطة يتبعها بعض النقاد في محاولة التعرف على قدر الأصالة (البصرية والدرامية) في أي تجربة سينمائية، وهي ببساطة إغلاق الصوت ومتابعة الصورة، لاكتشاف ما إذا كان المتلقي قادراً على أن يشعر بقوة الحكي البصري وطزاجة العناصر، وانتماء تفاصيل الشاشة إلى البيئة التي يحاول الفيلم أن يعبر عنها ويخاطبها.
وبتطبيق هذه القاعدة على فيلم "سُكّر"، المعروض في دور العرض حالياً من إنتاج mbc، نجد أنه من غير المفهوم أن نجد فيلماً غنائياً ناطقاً بالعربية الفصحى على مستوى الحوار والأغاني، يصبح من قبيل المحاكاة الساخرة أن تكون عناصر الصورة، التي من المفترض أن تحمل إلى عين المشاهد كل هذا، عبارة عن محاولة تقليد عادية لأفلام ديزني، أو تجارب هوليود في أفلامها الغنائية الشهيرة.
من الغريب في فيلم عربي، حتى ولو كان مأخوذاً عن معالجة لقصة "صاحب الظل الطويل" الأميركية، أن نجد أنفسنا فعلا في أميركا بدايات القرن العشرين، وقد سبق وقامت السينما المصرية بتمصير جيد للرواية، في تجربة بعنوان "ابنتي العزيزة" من بطولة المطربة نجاة، ليصبح السؤال هو: لماذا نقدم تعريباً سينمائياً للرواية إذا كنا سوف نحتفظ بكافة تفاصيل العمل الأمريكية؟، فهل هو تعريب بما تحمله الكلمة من سياقات ثقافية واجتماعية ونفسية، أم مجرد ترجمة للنص في قالب غنائي يعتمد على تكلفة إنتاجية ضخمة، وحضور درامي متواضع وضعيف.
لماذا "سُكّر"؟
تدور أحداث رواية "صاحب الظل الطويل" لكاتبها جين بستير، حول فتاة تنشأ يتيمة في ملجأ للأطفال تعامل فيه بقسوة، ولكن يتم تبنيها من قبل شخص لا تعرف عنه شيئاً، سوى أنها رأت ظله الطويل ذات مرة، فأطلقت عليه هذا الاسم، ثم تنمو علاقتهما عبر مجموعة من الرسائل الطويلة، متتبعة مراحل نمو الفتاة حتى تخرّجها.
في المعالجة التي قدمتها هبة مشاري حمادة، تتحول الفتاة من "جودي" إلى "سُكّر"، وتقوم بدورها حلا الترك، لكنها تتخذ توجهاً درامياً مختلفاً نسبياً، حيث تتوزع بطولة الفيلم بين عدد من الفتيان والفتيات، اللائي يزاملن "سكر" في دار أيتام تديرها مديرة شريرة ونهمة وعنيفة تدعى رتيبة/ماجدة زكي، بمساعدة السائق متعدد المهام والوظائف بلاللايكا/محمد ثروت، وأختها الطيبة المغلوبة على أمرها رتيبة/ريهام الشناوي.
بالطبع ليست أزمة السيناريو في أن تتحول البطلة الأساسية إلى واحدة من شخصيات العمل، وأن يتم تفكيك المحورية الدرامية حول شخصيتها وتوزيعها على شخصيات، مثل النابه "جزره" الذي يتبانه" أبو الذهب/ عباس أبو الحسن، أو الرياضي/معتز هشام، أو المعاقة حمامة/ ياسمينا، أو حتى البدين الذي يتعرض للتنمر والمدعو "بطاطا".
الأزمة هنا تأتي بسبب عاملين: الأول هو أن السرد يستغرق وقتاً طويلاً، في تعريفنا بالشخصيات والمكان والمعاناة التي يعيشها الأطفال، سواء في دار الأيتام، أو في مجتمع المدينة الذي لا نجد فيه نموذجاً واحداً طيباً أو متفهماً أو ناعم القلب، الكل يضطهد الأطفال، ويتنمر عليهم ويتلذذ بتعذيبهم، بداية من "رتيبة" مديرة وصاحبة المنزل، مروراً بابن صاحب الفرن الذي يعمل فيه "جزرة"، وصاحب العمل الذي يمزق كارت كشاف اللاعبين الذي يلفت نظره مهارات الرياضي، وصولاً إلى الصغيرات اللائي يأتين مع آبائهن في يوم التبني، الذي يتحول إلى حفل كبير للنخاسة وبيع الأطفال بعيداً عن منطق التبني من أساسه.
هذا الوقت الطويل يفقدنا الشعور أن ثمة ما ننتظره، بمعنى أوضح يفقد السيناريو تماسكه، فيختلط الفصل الأول بالثاني، الذي من المفترض أن تتصاعد فيه الأزمات – والتي لا تتصاعد إلا باستثناء اكتشاف أن "أبو الذهب" يتبنى الأطفال لكي يعملوا في منجم سري.
أما بالنسبة لبقية الشخصيات، وعلى رأسها "سكّر" التي لا يعود إلى عنونة الفيلم باسمها معنى، فلا يوجد أي تطور لأزماتهم أو تورط أي منهم في مشكلة أو صراع حقيقي يخص طبيعة شخصيته أو أهدافه ومشاعره.
ثم ينتهي الفيلم بالجهاز الغريب الذي يراسل من خلاله صاحب الظل الطويل "سُكّر"، لنكتشف ان هناك جزءاً ثانياً سوف تستكمل فيه الأحداث، ومن ثم يصبح الجزء الأول كله بلا صراع حقيقي، بل مجرد توطئة طويلة جدا لأحداث الجزء القادم.
العامل الثاني، هو إصرار السيناريو والإخراج على أن تكون المعالجة هوليوودية النزعة، وأقرب في الصورة والشكل والديكورات والملابس والتفاصيل إلى أفلام ديزني، كما سبق وأشرنا بخصوص عنصر الأصالة، فالشخصيات ذات أسماء عربية، وتتحدث الفصحى ولكن كل تفصيله بصرية تصرخ بأننا أميركيين في أميركا!
ومن هنا يأتي هم السؤال الأكبر: لماذا لم يتم تعريب القصة طالما ثمة إمكانيات إنتاجية باذخة الوفرة، وعناصر تصوير وإضاءة ومونتاج وتصميم رقصات وكتابة أغان وتلحين شديدة التميز والفخامة والقوة؟
لماذا تتحول مثل هذه التجارب القليلة لصناعة أفلام غنائية عربية للأطفال، إلى رغبة شديدة في تقليد منتجات أصلية نابعة من بيئتها، وكأننا بلا تراث ولا حضارة ولا بيئات صالحة لأن تحتوي مثل هذه الأفكار أو المعالجات، وتعيد تقدميها بصرياً ودرامياً بما يتناسب مع مخيلات الجمهور المستهدف من الأطفال والفتيان؟
هل يتصور صناع العمل أن الأجيال الجديدة لا تريد سوى أن تشاهد ما تتلقاه بالفعل من بيئات في الأعمال الأجنبية؟، أم لا يعنيهم أن يتم تقديم عمل له محتوى ثقافي عربي حقيقي بعناصر بصرية ودرامية أصيلة مأخوذة من الأدب العالمي؟، ولكن بلسان عربي حقيقي، واللسان هنا ليس المقصود به اللغة، ولكن ما وراء اللغة من أفكار ومشاعر.
غرام في أميركا
حاول المخرج تامر المهدي في أولى تجاربه أن يقدم إيقاعاً حيوياً، يتناسب مع طبيعة كون الفيلم غنائياً استعراضياً، تدور غالبية أحداثه في مكان مغلق هو الميتم، وكان من الواضح أنه ذاكر أفلام فرقة رضا المصرية الشهيرة، وعلى رأسها "إجازة نص السنة" و"غرام في الكرنك"، الذي استوحى منه مصمم الرقصات رقصة بناء المسرح الشهيرة في المعبد، واستغلها في مشهد بناء الأطفال للمسرح الذي سوف يقفون عليه من أجل عرضها في سوق النخاسة.
لا يوجد ما يعيب أن يعود مخرج شاب لمراجعة أعمال أصيلة في النوع الذي يقدم من خلاله تجربته الأولى، خاصة إذا ما كان هذا النوع يتطلب مهارات في تحريك المجاميع وصياغة حالة مونتاجية، تناسب طبيعة الاستعراض والحركة والغناء وتمثيل في الوقت ذاته، المونتاج للمتألق أحمد حافظ، ولولا هشاشة الدراما وتفكك مفاصل الصراع حتى على مستوى تلقي الأطفال للعمل، لأصبح جهد المخرج أكثر نصاعة، عوضاً عن تحول الفيلم إلى مجموعة فيديو كليبات متتابعة أو متلاحقة دون رابط عضوي وحقيقي بينها وبين الصراع أو الحكاية.
فالتمهيد الطويل، كما سبق وأشرنا، أضر كثيراً بعدد من اللوحات الاستعراضية الجيدة، مثل لوحة يوم الأربعاء، التي هو بالمناسبة الفصل الأول من الرواية، والمشاهد النمطية الركيكة لتعرض الأطفال للتنمر، أو القهر الاجتماعي والإنساني، أضرت بحيوية الإيقاع وسلاسته، وأفقدت المتلقي الرابط الحقيقي بين ما يحدث وما سوف يحدث فيما بعد، تعرض الأطفال للنخاسة وتبني جزرة وظهور جهاز مراسلة صاحب الظل الطويل.
والغريب أنه مع تأثر المهدي الواضح بأفلام فرقة رضا، إلا ان هذا لم ينعكس على محاولته ان يعيد صياغة البيئة البصرية للفيلم، بصورة أقرب للبيئات العربية، ومن الواضح أنه كان ثمة ميل مشترك بينه وبين الكاتبة لتقليد النماذج الأميركية، رغم قابلية القصة الشديدة للمعالجة بصورة أكثر قرباً للمخيلة العربية والذوق الشرق أوسطي، حتى تحول الفيلم إلى ما يمكن ان نطلق عليه "غرام في أمريكا".
تبقى الإشارة إلى أنه من غير المفهوم اختيار بعض العناصر التمثيلية في الفيلم، وعلى رأسهم بالطبع ماجدة زكي التي، برغم خفة ظلها، إلا أنها تبدو ثقيلة الهمة والروح في دور رتيبة مديرة الدار الشريرة، كما أن ريهام الشناوي أهدرت الكثير من رصيدها وموهبتها في هذا الظهور السينمائي الباهت في دور "نجيبة" شقيقة "رتيبة" ضعيفة الشخصية، وإن كان محمد ثروت قد بدا مناسباً لدور "بلالايكا" السائق متعدد المهارات، وبدا صوته وأداؤه بالفصحى طريفاً ومتقبلاً، كما أن عباس أبو الحسن بطبقة صوته الوحشية جاء مناسباً لشخصية أبو الذهب النمطية جداً، فهو اختيار نمطي لشرير نمطي.
لكن الملاحظة الأعم هي ركاكة العربية الفصحى لدى الجميع، فلا مخارج حروف واضحة وقوية، ولا تشكيل ونحو سليم، حتى إن أي طفل يتقن العربية يمكن أن تستوقفه عشرات الأخطاء النحوية في الأغاني والحوار على لسان الشخصيات كلها تقريباً.
* ناقد فني