من المدهش أن الدراما العربية، على كثرتها وتنوعها، قليلاً ما تتعرض لحياة البادية الصحراوية، بالرغم من امتداد هذه البادية في معظم البلاد العربية، وباستثناء عدد قليل من الأفلام المصرية، صُنع بعضها في بداية عهد السينما، تأثراً بأفلام رودلف فالنتينو الأميركية، وبعضها صنع خلال أربعينيات وخمسينيات القرن الماضي، أغلبها من إخراج نيازي مصطفى وبطولة زوجته كوكا، وهي أعمال شكلت نواة ما يعرف بالأفلام "البدوية"، فإن السينما والدراما التليفزيونية نادراً ما اقتربت من هذا النوع الفني الخاص جداً، والذي يعادل أفلام الويسترن في أميركا أو أفلام الساموراي في اليابان.
دراما سعودية "بدوية"
من هنا يأتي اختلاف مسلسل "الشرار" الذي عرض خلال رمضان الماضي على محطة MBC ومنصة "شاهد"، من إخراج السوري الفوز طنجور، عن سيناريو للكاتبة والروائية لمياء الزيادي العتيبي، والذي يعد من أوائل، إن لم يكن أول الأعمال الدرامية السعودية "البدوية".
ولكن تميز "الشرار" لا ينبع فحسب من كونه مختلفاً، وإنما من شكل هذا الاختلاف الذي يظهر منذ الدقائق الأولى في العمل، وحتى نهاية حلقته الواحدة والعشرين.
في وسط الصحراء، في بداية القرن العشرين، حسب اللهجة والملابس وأنماط الحياة، تشير إلى منطقة ما بين نجد والحجاز، تعيش بعض القبائل والعائلات المتناثرة داخل خيام، تتعيش على الماء القليل ورعاية الأغنام، وتستخدم السيوف أو البنادق البدائية لحماية نفسها ضد اللصوص وقطاع الطريق، أو لحسم الصراعات الداخلية.
يبدأ "الشرار" بواقعة تقليدية في مثل هذه البيئة المفتوحة، والمغلقة على سكانها مع ذلك، إذ تتهم امرأة متزوجة بإقامة علاقة مع رجل غريب، بشهادة اثنتين من أخوات الزوج ورجلين آخرين.
المرأة، التي تدعى "منيفة"، وتؤدي دورها ريم عبد الله، تبدو عليها البراءة، ولكن لا برهان لديها على ذلك، وفيما يشبه المحاكمة تلتف عائلة الزوج حولها، لكن أخاها "دعار" (نايف الظفيري) يتصدى لهم مدافعاً عن أخته الكبيرة، التي ربته، ويعلم جيداً مدى تمسكها بالشرف. ويلقي "دعار" بعض أبيات الشعر المحلي (النبطي)، فيما سيصبح أحد العناصر التي تتخلل العمل كله.
بانوراما الصحراء
من هذه الواقعة البسيطة، التي تشبه الشرر، وأعظم النار من مستصغر الشرر كما يقولون، تنمو وتتطور دراما تضم عشرات الشخصيات، وترسم صورة بانورامية للحياة في ذلك المكان والزمان، وصولاً إلى مشارف الحرب العالمية الأولى التي سيكون لها تأثير غير مسبوق على المنطقة.
يضم المسلسل عدداً كبيراً من نجوم الدراما والسينما السعودية، منهم خالد صقر الذي يؤدي دور "سلمان"، البطل العربي النموذجي، النبيل، الكريم، حامي النساء والضعفاء، والمحارب الذي يتصدى للصوص الصحراء، ومنهم سارة العلي، ورحاب العطار في دوري أختي الزوج، واللتين يتبين بمرور الوقت أنهما منبع الشرر، والشر، بجانب عبد العزيز السيكيرن، وليلى السمان، وزارا البلوشي، وعيد سعد، وعلي السبع، وغيرهم. وهو ما يشكل، كما أشرت، ما يشبه المسح الاجتماعي لنماذج الشخصيات وفقا لنوعها الجنسي، ووضعها الاجتماعي والطبقي، وطباعها الشخصية تكيفا مع بيئتها.
مهد "لورانس العرب"
وفي إشارة ذكية إلى ما يحدث على أطراف هذا العالم المغلق، تضيف المؤلفة شخصية رجل بريطاني (أو أميركي) يدعى مارك، يحمل كاميرا فوتوغرافية، ويتحدث العربية، ويحب فتاة محلية، يتعين عليه من أجل الزواج بها أن يتعلم القتال، ويشارك في الحرب ضد قطاع الطرق، ويتم خطفه مع والد زوجته على يد الأتراك في نهاية الحلقات، ما يحيل تاريخياً إلى الحرب القادمة ضد الاحتلال التركي، ولورانس العرب، وربما أيضا إلى جزء قادم من المسلسل.
يفرض مكان وزمن الأحداث نفسيهما على "الشرار"، إذ يحددان معظم الاختيارات الفنية، من التصوير وحتى شريط الصوت والموسيقى التصويرية المصاحبة.
لأسباب جمالية وتعبيرية، اختار فوز الطنجور أن تدور كثير من مشاهد العمل ليلاً، رغم صعوبة ذلك في ظل عدم وجود كهرباء أو إضاءة حديثة في ذلك الوقت، حيث تعتمد الإضاءة على المشاعل أو نيران الخشب المشتعل للتدفئة، ربما لأن المشاهد النهارية محدودة الإضاءة وساطعة (باستثناء داخل الخيام التي يمكن فيها التحكم بكمية الضوء الداخلي).
وينجح المخرج مع مدير التصوير في صياغة العديد من المشاهد الليلية القوية، التي تعطي تأثيراً درامياً أقوى من مشاهد النهار، وواحد من أفضل مشاهد العمل، مثلاً، عندما يكتشف "دعار" أن أخته "منيفة" التي كان يعتقد أنه قتلها لم تزل حية، يتم تصويره ليلاً، على أضواء مشاعل عرس شعبي، حيث تجتمع الموسيقى والغناء والشعر والتصاعد الدرامي، الذي يصل لذروته، مع اكتشاف "دعار" أنه ظلم أخته بالاستماع إلى مكائد الأعداء.
أبعاد نسوية وأنماط درامية
ربما تكون الواقعة التي استندت إليها كاتبة المسلسل ذات بعد نسوي واجتماعي، يشير إلى ما كان يحدث في الماضي من ظلم وقهر للنساء، وربما لم يزل موجوداً في الكثير من المجتمعات التقليدية، ولكن "الشرار" يتخذ من هذه القصة مجرد تكأة لاستعراض البيئة البدوية، بطقوسها المتوارثة، وطبيعتها الخشنة، وأخلاقياتها المميزة.
وهناك دراية واضحة بالنماذج البشرية والوظائف، مثل شخصية "المداوية"، أو الطبيبة الشعبية، ومقتفي الأثر، الذي يشبه التحري الخاص في المجتمعات الحديثة، وشيخ القبيلة الشبيه بالقاضي أو العمدة، والرعاة البسطاء، الذين ينتمون إلى طبقة اجتماعية أدنى، ولكنهم كأشخاص قد يكونون أكثر شرفاً وشهامة وقدرة على الحب، وعصابة اللصوص من سارقي الأغنام والمارة، وحتى الحيوانات الخطيرة مثل الثعابين والعقارب.
وبشكل عام يربط العمل كل هذا بطبيعة البيئة الفقيرة الخشنة، التي تفرض نفسها على البشر، فتحولهم إلى نبلاء مثل "منيفة" و"دعار" و"سلمان"، أو أوغاد مثل زوج "منيفة"، و"فضة"، و"سارة" وقاطع الطريق المسمى بـ"النمر".
ربما يعيب العمل، فحسب، التنميط الميلودرامي لمعظم الشخصيات، أبيض أو أسود، وهو ما يتبدى بشكل جلي في شخصية "منيفة" التي تلعبها ريم عبد الله. ذلك أن الفرضية الرئيسية التي تنبني عليها الأحداث، والتي تتكشف بمرور الوقت، هي أن منيفة لا تدافع عن نفسها بشكل جيد، لأنها لا تريد فضح النساء الأخريات اللواتي ادعين عليها، وهي فرضية من الصعب تصديقها، ذلك أن المثالية تتخطى هنا حدود المنطق والمقبول.
ورغم الأداء التمثيلي القوي من سارة العلي، ورحاب العطار في دوري الأختين الشريرتين، إلا أن شخصيتيهما أقرب لأختي سندريلا، أو الأختين السيئتين في "الملك لير"، حاقدتان وزانيتين وقاتلتين، وهو تنميط درامي يأخذ من واقعية العمل وعمقه الاجتماعي الواعي.