"عقول مظلمة".. السفاحون يعيشون بيننا!

time reading iconدقائق القراءة - 7
الملصق الدعائي لحلقات "عقول مظلمة" - الشرق
الملصق الدعائي لحلقات "عقول مظلمة" - الشرق
القاهرة -عصام زكريا*

هذا عمل فريد من نوعه في تاريخ الوثائقيات العربية، يطرق أبواباً مغلقة، ويفتح ملفات مسكوت عنها، ويضع يده على جراح ثاخنة وسلبيات مشينة، قليل من المجتمعات قررت أن تتصدى لها بالفهم والمعرفة، قبل إعمال يد القانون الذي يأتي، غالباً، متأخراً!

من المعروف أن أفلام ومسلسلات وبرامج القتلة المسلسلين، تحظى بإقبال واهتمام جماهيري واسع النطاق، حتى باتت من أكثر الأعمال نجاحاً في عصرنا، وبالتأكيد لا يتعلق الأمر بالترفيه والتشويق فقط، ولكن هذه الأعمال، وهؤلاء المجرمين، يخاطبون منطقة مظلمة ومخيفة من وعي الأفراد والمجتمعات الحديثة.

المسلسل الذي أقصده هو "عقول مظلمة" الذي بدأ بثه على منصة نتفليكس منذ أيام، بعد عرضه على قناة "الشرق ديسكفري"، والذي يتتبع، عبر موسمه الأول المكون من 7 حلقات، بعض سلاسل الجرائم التي ارتكبها سفاحون في بلاد عربية مختلفة: بالتحديد 6 سلاسل في تونس ولبنان والعراق ومصر والأردن والمغرب.

أنماط متكررة

الـ Serial Killers، أو السفاحون، أو القتلة المسلسلين (البعض يترجمها المتسلسلين، ولكنها يجب أن تكون في صيغة الفاعل لا المفعول)، فهم كائنات غريبة وشاذة بطبعها، ولكن المسلسل يعرض عدة نماذج كل منها غريب وشاذ وصادم بطريقة مختلفة: من الرجل البسيط طيب المظهر مغتصب وقاتل الأطفال، إلى الطبيب الذي يقتل مرضى المستشفى الذي يعمل فيه، من باب الإيمان والتقرب إلى الله، إلى الأخوين اللذين يهويان اصطياد سائقي التاكسي وقتلهم، وحتى الزوجين العاشقين، اللذين يهويان قتل الناس انتقاماً من المجتمع الذي رفض قصة حبهما، وفوق هؤلاء "سفاح الجيزة" (الذي صنع عنه مسلسلاً درامياً خيالياً من بطولة أحمد فهمي في العام الماضي)، و"سفاح مدنة" وكلاهما كانا يقتلان أقرب الناس إليهما بدم بارد طمعاً في المال والحياة المرفهة.

تحقيق بوليسي عاطفي!

يتتبع المسلسل أسلوب التحقيق البوليسي والاجتماعي معاً: يستضيف قانونيين وشهود عيان وأقارب ضحايا وصحفيين غطوا الأحداث، وأخصائيين نفسيين، واثنين من السفاحين أنفسهم (يتصادف أنهما يزالان أحياء بسبب الغاء عقوبة الإعدام في لبنان)، وبالإضافة إلى الضيوف يطعم المسلسل مادته بمشاهد "تمثيلية" لبعض عمليات القتل وأحداث أخرى، لزيادة التشويق والتأثير العاطفي.

يقال أن القتلة المسلسلين يتبعون أنماطاً بعينها، سعت المباحث الفيدرالية الأميركية إلى دراستها وتصنيفها على مدار عقود (كما يظهر في المسلسل الشهير Mind Hunter من إخراج ديفيد فينشرالذي يعرض على نتفليكس أيضاً) ولكن حلقات "عقول مظلمة" تبين أيضاً أن هناك أنماطاً من العمل البوليسي والثقافة السائدة، تساعد على وجود هؤلاء السفاحين وتحول دون اعتقالهم مبكراً.

بعد فوات الأوان

من هذه الأنماط العمل البوليسي الروتيني، وفي الغالب لا تتحرك السلطات بفعالية إلا بعد استفحال الجرائم والضغط الإجتماعي والإعلامي.

في أكثر من حالة تتوجه الشبهات مباشرة ومنذ الجريمة الأولى إلى الجاني الحقيقي، ولكن تكاسل المسئولين ورخاوة التحقيقات تؤدي إلى إفلات المجرم ومواصلة جرائمه، ومن ناحية ثانية فإن الضغط  الإعلامي وصراخ أهالي الضحايا، يتسبب في زيادة الرغبة في اعتقال الجاني بأي وسيلة، حتى لو كان على حساب ترتيب الأدلة بطريقة قانونية أو اعتقال الشخص الخطأ.

ومن الغريب في حلقات "عقول مظلمة" أن الشكوك تثار حول مدى صحة الاتهامات في كثير من الأحيان، مثلما هو الحال مع الزوجين الأردنيين، أو حتى تؤدي إلى عدم إدانة القاتل (رغم ثبوت التهم عليه واعترافه)، كما في حالة الطبيب العراقي المتطرف الذي سُمح له بالافلات من جرائمه ومغادرة البلاد.

من العادات السيئة أيضا حكم الناس على بعضهم البعض بالظاهر والمظاهر الخادعة، في حين أن معظم السفاحين والقتلة يكون لديهم مظهر طيب: خلق دمث والتزام ديني وأخلاقي وميل لفعل الخير، وهذا المظهر يخفي حقيقتهم الداخلية البشعة.

سفاحون من المغرب والمشرق

أهم وأخطر وأكثر ما يخيف في "عقول مظلمة" هو أنه يثبت أن السفاحين عادة ما يكون لديهم مظهر "طيب"، "متدين" و"ضعيف"، يخفي باطنهم المظلم الشرير واللاإنساني.

تتنوع أماكن الأحداث من المغرب والمشرق العربيين، كما تمتد زمنياً من نهاية ثمانينات القرن الماضي (سفاح تونس)، وحتى الشهور القليلة الماضية (سفاح الجيزة الذي صدر ضده حكما نهائياً بالإعدام في فبراير الماضي)، ولكن يجمع بينها أنها حوادث كبيرة صدمت المجتمع وأثارت الرعب والقلق، وأنها، بطريقة ما، حطمت صورة المجتمع "المثالية" عن نفسه.

ومن خلال تصريحات الأخصائيين والشهود يتبين أيضاً أن بعض هؤلاء السفاحين هم "ضحايا" تربية سيئة وعائلات مختلة ممزقة، وتجارب طفولة سيئة: هم بطريقة ما أفراد تم تحطيمهم ووضعهم داخل صورة اجتماعية "مثالية"، يتمردون وينقلبون عليها تحت جنح الظلام، ليفرغوا حقدهم وكراهيتهم لعائلاتهم وللمجتمع، والقيح النفسي الذي يعتمل داخلهم.

تصورات خاطئة

أسئلة كثيرة يثيرها هذا المسلسل الوثائقي المختلف، منها هل يختلف السفاحون في مجتمع عن آخر؟ هل هناك بيئة "حاضنة" يمكن أن تخلق وحوشاً أكثر من بيئة أخرى؟ في المسلسل مثلاً لا نجد فارقاً بين المدينة والقرية، ورغم أن الفقر والمعاناة يلعبان دوراً كبيراً في صنع المجرمين، لكن فيما يتعلق بالسفاحين فهم ليسوا فقراء ومقهورين بالضرورة.

لا أحد مثلا يمكنه أن يفهم دوافع ودواخل شخصية الطبيب الذي يقتل مرضاه لأسباب "سياسية" و"دينية"، إنه يختلف تماماً عن شخصية الريفي الجاهل المنحرف جنسياً، وعن سفاح الجيزة الذي يقتل من أجل المال. 

وعلى عكس معظم حالات القتلة المسلسلين التي شاهدناها في أعمال روائية ووثائقية أمريكية، هناك حالتان في "عقول مظلمة" لشقيقين مترابطين من عائلة متدينة، وزوجين متحابين رومانسيين، ما يخالف الاعتقاد بأن السفاحين غالباً ما يعملون بشكل منفرد، وهو ما يحيلنا إلى واحدة من أشهر قصص السفاحين في الثقافة العربية وهي حكاية "ريا وسكينة" وزوج إحداهما، ما يثبت أن هناك أيضا عائلات سفاحة!

من المؤكد أن الجهة المنتجة للمسلسل (SRMG Studious) ستنتج مواسم أخرى من "عقول مظلمة"، وهو أمر دافعه ليس فقط نجاح الموسم الأول ووصوله إلى نتفليكس، ولكن لإن هناك الكثير من القصص الأخرى التي تحتاج أن تروى، والكثير من الأفكار والتحليلات التي يمكن أن تساعدنا على مزيد من الفهم.

وأتمنى أن يزيد التركيز في المواسم القادمة على تحليل "البيئات الحاضنة" التي تغذي العقول المظلمة، وأنواع هذه البيئات، ما يمكن أن يساهم في التعريف بها والتوعية بأهمية علاجها وتغييرهاK كذلك أتمنى أن يهتم العمل أكثر بمساعدة مشاهديه على اكتشاف ومواجهة هذه العقول المجرمة.

* ناقد فني

تصنيفات

قصص قد تهمك