بعد أسبوعين على الزيارة "الودية" التي قام بها وزير خارجية بريطانيا جيمس كليفرلي إلى بكين، تجد حكومة رئيس الوزراء ريشي سوناك نفسها تحت ضغوط شديدة لتبني مواقف أكثر تشدداً في التعامل مع الصين.
وترى المعارضة البريطانية ومعها نواب من حزب المحافظين الحاكم، أن بكين تشكل عدواً حقيقياً للندن، وليس مجرد تحد استراتيجي يمكن معه، التفرقة بين المعاملة السياسية والتجارية.
جديد أزمة العلاقات مع الصين هذه المرة هو الباحث البريطاني العشريني الذي اتهم بالتجسس لصالح بكين، بينما كان يعمل مع نواب بريطانيين عن حزب المحافظين الحاكم.
اعتقل الشاب مع رجل أخر في عقده الثالث قبل نحو 6 أشهر، ثم أطلق سراحهما بكفالة. إلا أن التحقيقات معهما لا تزال جارية رغم ادعائهما البراءة.
على هامش قمة العشرين الأخيرة ناقش رئيس الوزراء البريطاني مع نظيره الصيني لي تشيانج، ما أسماه "تدخلاً غير مقبول في الديمقراطية البريطانية".
وقال سوناك إنه عبر للمسؤول الصيني عن مخاوفه القوية بعد اعتقال "الجاسوس"، الذي قالت صحيفة "صنداي تايمز" إن وزير الأمن البريطاني السابق توم توغندهات، ورئيسة لجنة الشؤون الخارجية في مجلس العموم أليسيا كيرنز، كانا من بين النواب الذين تعامل معهم قبل اعتقاله.
وتمثلت أول نتائج التوتر الناجم عن أزمة "الجاسوس" في تبني مجلس العموم البريطاني لمشروع قانون يحظر استخدام تكنولوجيا المراقبة الصينية في المباني الحكومية والقواعد العسكرية.
وبرأي محللين ومختصين، لا يمكن للندن تحمل كلفة العداء مع بكين، وليس بمقدورها أيضاً مخالفة تفاهماتها الغربية، واتباع سياسة تتعارض مع توجهات حلفائها في هذا الشأن.
سجالات البرلمان
نقل الصين من خانة التهديد إلى العدو، ليس مجرد تغيير في المصطلحات المستخدمة للتعبير عن مستوى العلاقات بين البلدين عبر الإعلام والبيانات الرسمية، وإنما تحول جذري في سياسة المملكة المتحدة تجاه التنين الأسيوي. لن يصل الأمر إلى شن حرب على بكين، ولكن قد يجر البلدين إلى قطيعة لا تصب في صالح كل منهما.
ولا يعتبر الانقسام بشأن الصين في مجلسي العموم أو اللوردات أمراً جديداً، وإنما قضية قديمة تتجدد كلما وقع أمر يمس العلاقات بين البلدين، مثل حادثة الباحث المتهم بالتجسس لصالح بكين. ولكن مناقشات النواب في الشأن لا تفضي عادة لتغير سريع في السياسة الخارجية، بحسب الصحافي المعتمد في البرلمان البريطاني عادل درويش.
ويقول درويش لـ"الشرق"، إن موقف الأحزاب البرطانية عموماً والمحافظين على وجه الخصوص، سيتضح أكثر من خلال المناقشات التي تجري في المؤتمرات السنوية للأحزاب.
والمؤتمرات المقبلة لها أهمية أكبر من المعتاد، لأنها ستكشف عن سياسات الأحزاب الداخلية والخارجية قبيل الانتخابات العامة المقررة نهاية عام 2024.
ويتوقع درويش أن تتغير الممارسات الحكومية إزاء التعامل مع التهديدات الأمنية الصينية بعد أزمة "الجاسوس". ولكن السياسة الخارجية البريطانية تجاه بكين على المستوى السياسي والاقتصادي، لن تتأثر كثيراً برأيه، وستنجح الحكومة في تجاوز الزوبعة الراهنة، وتواصل استراتيجيتها في إبقاء أبواب التواصل مع الدولة الأسيوية.
حظر التقنيات
مشكلة سوناك أن خصوم الصين بين النواب المحافظين كثر، وهم يشجعون بقية الأحزاب على ممارسة مزيد من الضغوط على الحكومة في هذا الملف.
وانعكس حجم المعارضة للعلاقات مع الصين في مجلس العموم، من خلال تبني البرلمان السريع لقرار حظر استخدام الأجهزة الصينية في المباني الحكومية والقواعد العسكرية البريطانية.
الحكومة تقول إن الحظر هو بمثابة رد واضح ومباشر منها على التهديدات الأمنية الصينية، ولكن مفوض المراقبة الحيوية والتقنية في الحكومة فريزر سامبسون، يدعو منذ أشهر إلى اتخاذ مثل هذا الإجراء، ويقول إن البنية التحتية في المملكة المتحدة أصبحت بكاملها تحت أعين شركات أجنبية تتبع مباشرة لحكومات دول مثل الصين.
إلى حد ما تمكنت الحكومة عبر قانون الحظر من احتواء غضب النواب المعارضين للصين. صحيح أن عدداً منهم لا زال يطالب بالقطيعة الرسمية الكاملة مع بكين، ولكن رئيسة لجنة الشئون الخارجية في مجلس العموم أليسيا كيرنز، أكدت أن القانون الجديد سيضع حداً لاستهداف أمن المملكة المتحدة، ويجب تنفيذه بشكل سريع.
من جهته، قال عضو لجنة الدفاع في البرلمان ريتشارد دراكس، "إن الاعتراف بالصين كقوة اقتصادية كبيرة لا ينبغي أن يمنع لندن من وصف الدولة الاستبدادية بما هي عليه من تهديد لأمن المملكة المتحدة أو غيرها من دول العالم، والقانون الجديد يوجه رسالة واضحة لبكين في هذا الاتجاه، ويثبت بالفعل وليس القول، هذا التوجه".
تحذيرات أمنية
في حديث مع إذاعة "إل بي سي" البريطانية، قال المتحدث باسم حكومة بكين فيكتور جاو " إن الصين لا ترى في بريطانيا عدواً أو خصماً أو منافساً، وإنما دولة ذات وزن عالمي لا بد من التعامل معها".
كما رفض جاو اتهام بلاده بالتجسس على البريطانيين عبر الأفراد أو بواسطة الأجهزة التقنية، والتكنولوجيا الصينية المستخدمة في المملكة المتحدة.
بعيداً عن الإنكار الصيني الرسمي، كان يمكن لأزمة "الجاسوس" أن تمر بسلام بعد جولات من السجال بين الحكومة والمعارضة تحت قبة البرلمان، ولكن صحيفة محلية نشرت خبراً أعاد الأزمة إلى مربع الصفر، إذ نقلت عن مصادر أمنية أن المخابرات البريطانية حذرت حزب المحافظين الحاكم في عامي 2021 و2022، من وجود مرشحين محتملين له في انتخابات البرلمان والبلدية، يشتبه بتجسسهم لصالح الصين.
صحيح أن الحزب الحاكم حينها استبعد المشتبه بهم من قوائم ترشيحاته لأي عمل سياسي، إلا أن فضح التحذير الأمني في هذا الوقت تحديداً، دعم موقف المعارضين للصداقة مع بكين. خاصة وأن الرئيس السابق لجهاز المخابرات الخارجية السير أليكس يونجر، أكد أن التجسس وجمع المعلومات، من أبرز أسلحة بكين لحماية أمنها القومي.
وترى العضوة في حزب المحافظين سامنثا سونز، أن الحكومة لا يمكنها تجاهل التحذيرات الأمنية بشأن الصين، مشيرة إلى أن ما تكشف اليوم عن اشتباه أجهزة المخابرات ببعض الشخصيات في حزب المحافظين، قد يكون جزءاً من المخاوف التي تثار في أروقة الجهات المختصة، ليس فقط بشأن الأحزاب وإنما في جميع مؤسسات الدولة ومرافقها.
وتلفت سونز في حديث لـ"الشرق"، إلى أن تغلغل الصين في الجامعات والمدارس البريطانية لم يعد سراً. وما تفعله بكين للتأثير على المؤسسات الأكاديمية في الدولة ينسحب على جميع المجالات.
وأضافت: "بالتالي يجب على الحكومة اتخاذ تدابير جادة لردع التهديد الأمني الصيني، دون الخشية من تأثير ذلك على سياق العلاقات التجارية بين البلدين".
أبعاد داخلية وخارجية
واعتبر الباحث في الشأن البريطاني رياض مطر، أن معاداة الصين تمثل تغريداً خارج السرب بالنسبة للمملكة المتحدة. فلا يوجد بين حلفاء لندن من مضى نحو الخطوة. ولا يريد أي من أصدقاء بريطانيا في القارة الأوروبية أو خارجها، أن تبادر حكومة سوناك إلى مثل هذا الإجراء الذي قد يحرجهم ويضرب وحدة الصف الغربي.
وقال مطر لـ"الشرق"، إن التفاهمات الخارجية مع الولايات المتحدة بشكل خاص، تضع سقفاً للخصومة مع الصين سواء بالنسبة للمملكة المتحدة أو غيرها من الدول الأوروبية.
وأوضح أن السياسة الغربية العامة تجاه الصين لا تسمح اليوم بتفجير صراع مباشر أو مواجهة واضحة مع بكين، ولا حتى ذات طابع اقتصادي.
ولفت الباحث في الشأن البريطاني، إلى أن تداعيات العداوة مع الصين لن تكون سياسية فقط، فثمة مشاكل اقتصادية كبيرة تنتظر لندن عندما ينقطع حبل الود بينها وبين بكين. فالصين رابع أكبر شريك تجاري لبريطانيا حول العالم والأول في أسيا. وخسارة مثل هذا الشريك بعد "بريكست" ستكون ضربة موجعة لاقتصاد مهدد بالركود.
وبلغت قيمة التبادل التجاري بين المملكة المتحدة والصين حتى نهاية الربع الأول من العام الجاري أكثر من 107.5 مليار جنيه استرليني، مقسمة إلى 38 ملياراً لصادرات بريطانيا إلى الصين، ونحو 70 مليار جنيه لوارداتها من الدولة الأسيوية.
أما الاستثمارات البريطانية في الصين فبلغت 10.3 مليار جنيه نهاية عام 2021، في حين استثمرت الصين 5 مليارات جنيه في مشاريع بريطانية، وفق أرقام العام ذاته.
اقرأ أيضاً: